بيروت | Clouds 28.7 c

إيران الأصولية وأمريكا الديمقراطية / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 5 كانون الأول 2020

 

مرت العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية في إيران منذ انتصار الثورة الإسلامية بمراحل مختلفة، ففي مراحل عديدة دخلت الولايات المتحدة في حرب علنية ضد إيران، وفي ظروف شعرت واشنطن بالعجز عن المواجهة المباشرة فلجأت إلى الحصار السياسي والعقوبات الإقتصادية، وكلفت جهاز المخابرات المركزية الأمريكية منفردة أو بالتعاون مع الموساد الصهيوني ...

لكن الولايات المتحدة حاولت كثيراً إخفاء دورها الأساسي في النشاطات المعادية للنظام الإسلامي، إذ كان الموقف الأمريكي الرسمي دوماً هو العمل على إخضاع قادة إيران للهيمنة الإستكبارية الأمريكية كما كثير من دول العالم، وفي حال فشل الخطة تلك  العمل على إسقاط النظام واستبداله بسلطة عميلة كما كان الشاه محمد رضا بهلوي طوال ٥٠ عاماً.

لقد استفاد المسؤولون في الجمهورية الإسلامية من تجربة الحرب العراقية ـ الإيرانية وتواطؤ دول العالم على حظر بيع أي نوع من انواع السلاح لإيران وفي نفس الوقت توفير كافة الإمكانات للطرف العراقي، فركزوا جهودهم على الإكتفاء الذاتي في مختلف المجالات الحيوية وعلى الخصوص في المجال العسكري بأقسامه المتعددة وكذلك في الحقل النووي، وحولوا عنصري الحصار والعقوبات من وسائل قهر وأسباب إخضاع إلى محفزات للإعتماد على القدرات الذاتية الإيرانية، وتشجيع حركة الإبداع والإختراع لدى النخب العلمية، فكانت النتيجة أن تحولت إيران من دولة تعوز البلدان الغربية من الرصاصة حتى الدبابة ومن الإبرة حتى الطائرة إلى قوة عسكرية تنافس الدول المحتكرة بيع السلاح إلى بلاد العالم، وما القصد الحقيقي لمحاولات الدول الغربية الأعضاء في مجلس الأمن وفي مقدمهم الولايات المتحدة منع رفع الحظر الدولي لاستيراد الجمهورية الإسلامية السلاح وتصديرها سوى احتكار مصانع السلاح هذه للتجارة المربحة لنفسها، وعدم السماح للجمهورية الإسلامية مشاركتها في تصدير وبيع إنتاجاتها العسكرية إلى دول العالم.

وفي المجال النووي فإن الدول التي تملك هي مئات القنابل النووية المتطورة والفتاكة ترفض امتلاك إيران مجرد القدرة على تخصيب اليورانيوم، والإستفادة من التقدم في هذا المجال للأغراض السلمية، كي تبقى التقنية النووية حصراً في أيدي الدول الكبرى، وتلك التي ترضى عنها كالكيان الصهيوني الذي يملك ترسانة من القنابل النووية، أو الدول التي لا تشكل خطراً على السياسة الأمريكية كالهند وباكستان، أما الكيانات التي لا تكون طوع إرادة ساكني البيت الأبيض بأشكالها المختلفة سواء كانوا من ممتطي الحمار أو من راكبي الفيل، فالويل والثبور إذا تمكنت من مجرد الدخول في الحقل النووي، فكيف إذا تقدمت في ذلك المجال وقدرت على التخصيب ورفعت مستوى ذلك حتى بلغ أكثر من ٢٠٪ كما هي حال إيران اليوم، أما إذا نجح الخارجون عن السيطرة الأمريكية من إنتاج القنبلة النووية كما هى حال كوريا الشمالية فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكل عنجهيته وكبريائه يذهب ثلاث مرات للقاء زعيمها كيم جونغ أون بأمل الإتفاق معه على صيغة تؤدي إلى نوقف إنتاج القنبلة النووية أو إبطاء الحركة العلمية بالمجال النووي فيها على الأقل، لكن تبين أن الزعيم الشاب الحدث استطاع التلاعب بالرئيس الأمريكي المحنك وصاحب التجارب الكثيرة في إدارة المفاوضات التجارية قبل الوصول إلى البيت الأبيض، ونجح في جرّ عدوه المستكبر إلى لقائه ثلاث مرات، لكنه في آخر لحظة وبعد التحضير الكامل لمراسم التوقيع على الإتفاقيات لم يحضر جونغ أون، فرجع الرئيس الأمريكي خالي الوفاض مخذولاً إلى بلده حيث صار أضحوكة أمام شعبه وذليلاً في نظر شعوب العالم.

إن الفترة التي كان فيها المعتدلون يمسكون بدفة المفاوضات في إيران، والذين استطاعوا الوصول بعد اكثر من عامين من المفاوضات الصعبة على الإتفاق التاريخي بين الجمهورية الإسلامية في إيران ومجموعة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمس بالإضافة إلى ألمانيا قد اصطدموا بانتخاب دونالد ترامب ذي العقلية العنصرية رئيساً للولايات المتحدة، وهو كان يعيش بشكل فاضح عقدة باراك أوباما ذي البشرة السوداء، حيث سارع إلى إلغاء كل إنجازات سلفه على كافة الصُعُد وفي مختلف المجالات الداخلية والخارجية، ما أدى إلى اضطراب في علاقات دول العالم وحتى الحلفاء التاريخيين مع الولايات المتحدة، ولم يابه أبداً بالنتائج الكارثية لخطواته التي أفقدت الثقة العالمية بتعهدات الولايات المتحدة والتزاماتها بالمعاهدات الدولية والإتفاقيات مع الدول المختلفة.

وفي ما خص الإتفاق النووي رأينا جميعاً الأزمة الكبرى للدول المشاركة في التوقيع عليه مع إدارة ترامب، وكيف فشلت كافة المحاولات لثنيه عن خروجه من الإتفاق خاصة وأن الخطة أخذت طابعاً دولياً بعد موافقة مجلس الأمن الدولي بكامل أعضائه على ذلك الإتفاق؛ فهو لم يراعِ حتى أقرب أصدقائه رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، ولم يأبه بتأثيرات خروج الولايات المتحدة عن تعهداتها الدولية وعدم احترام توقيع ممثلها في مجلس الأمن الدولي نيابة عن الدولة الأمريكية، وأخيراً كان المشهد التاريخي الفريد للعزلة الأمريكية على أراضيها حيث صوّت ١٣ من الأعضاء الـ ١٥ في مجلس الأمن الدولي على قرار أمريكي ضد إيران، ولم يقف إلى جانب الولايات المتحدة أحد سوى دولة صغيرة إسمها الدومينيكان، ورفض الرئيس الدوري لمجلس الأمن حتى استلام رسالة المندوب الأمريكي في مجلس الأمن، وهذه الدرجة من العزلة السياسية لم تشهدها أمريكا في تاريخها على حد ما أعلم.

وفي الجانب الإيراني استطاعت الجمهورية الإسلامية الحفاظ على مواقف الأعضاء الأربعة المشاركين في الإتفاق النووي إلى جانبها، وتأكيد القادة في تلك الدول بصورة متكررة على الإلتزام بتعهدات دولهم، على الرغم من  الكبيرة من جانب الرئيس ترامب شخصياً والأسفار العديدة لوزير الخارجية بومبيو من اجل ثنيهم عن إعلان مواقفهم بصورة متكررة على الأقل أو التخفيف من نبرتهم في تأييد الإتفاق.

وانتهى الكابوس، وتنفس الصعداء الدول المشاركة في الإتفاق، وخسر ترامب الإنتخابات في الدورة الثانية، والتي كان يضع فيها كل آماله كي يُكمل ما لم يتمكن من إنجازه في الفترة الماضية، فسارع قادة تلك الدول الملتزمة بالإتفاق النووي إلى تهنئة جو بايدن حتى قبل إعلان القنوات التلفزيونية الأمريكية النتائج الأولية لفرز الأصوات في مختلف الولايات، وبدأ التصريح بضرورة العودة إلى الإتفاق وتأكيد الإلتزام الأمريكي به، خاصة أن بايدن كان نائباً للرئيس ومشاركاً في صياغة ذلك الإتفاق، وهو مضطر إلى مواجهة جملة من خطوات الرئيس الأهوج الذي خلفه، والذي وضح للعالم فقدانه للتوازن العقلي بالكامل، خاصة في الأيام الأخيرة من خلال إصراره على فوزه في الإنتخابات  على الرغم من إعادة فرز الأصوات في بعض الولايات بناءً على طلبه، ورفض عدد من المحاكم طعونه المقدمة من أساسها، بل جاء تأكيد القضاة على النتائج المعلنة سابقاً في المحاكم التي قبلت الطعون من فريق المحامين المكلفين من طرف ترامب، بل إن عدداً من المحامين أعلنوا رفضهم الإستمرار في المهزلة والخروج من عضوية الفريق القانوني لترامب.

وفي المجال الإقتصادي راهن ترامب على أن الضغوط الإقتصادية القوية في مراحلها الأولى ستجبر قادة إيران على الجلوس معه على طاولة المفاوضات، وكلما اعلنت الولايات المتحدة حزمة من العقوبات صرح ترامب وبومبيو أن إقتصاد إيران على وشك الإنهيار، وأن نظام الجمهورية الإسلامية سيسقط إن لم يسارع إلى قبول النفاوض، وأن الشعب الجائع سيثور على الحكام بسبب الضائقة الإقتصادية، لكن فرض كل العقوبات التي لم تسبق في التاريخ ما أثّرت شيئاً في النهج الإيراني، والحصار الشديد لم يدفع إلى تراجع إيران خطوة واحدة إلى الوراء، ولم تفلح كل محاولات إثارة الإضطرابات الشعبية مرات عديدة في تليين مواقف قادة إيران، بل جاءت نتائج الإنتخابات النيابية وحصول الأصوليين على الغالبية في مجلس الشورى الإسلامي لتقول للأمريكيين أن إيران ليست كغيرها تهاب التهديدات، ولا تركع أمام الضغوط، ولا تخضع بفعل العقوبات، وأن الضغط على إيران طوال ٤٢ عاماً هو الذي جعل إيران في اكتفاء ذاتي عسكرياً، بل أصبحت صواريخها البالستية البعيدة المدى الذكية جاهزة للتصدير إلى من يريد شراءها في العالم، وصار لدى البحرية العسكرية الإيرانية غواصاتها، وهي على وشك إنجاز صنع حاملة طائرات تجوب المحيطات.

وبلغت في المجال النووي حد قدرتها على تخصيب اليورانيوم إلى نسبة الـ ٩٠٪ إن أرادت، ونصبت أجهزة جديدة ومتطورة للطرد المركزي في مواقعها، وصار بإمكانها صنع قنبلة نووية إذا أذنت القيادة لها ولم يكن مانع شرعي لذلك.

وفي الحرب السيبرانية والقدرة على احتراق الأنظمة الإلكترونية المعقدة والمواقع الحساسة والحيوية للدول صارت إيران اليوم هي التي تهدد اهم المؤسسات الأمنية والعسكرية الأمريكية والصهيونية، والدول المتقدمة هي تصرح كل يوم بأن أحداً في إيران قد اخترق موقعاً حيوياً لها.

وفي عالم الفضاء أصبح القمر الصناعي للجمهورية الإسلامية يسير إلى جانب الأقمار الصناعية للدول الكبرى حول الكرة الأرضية.

والحديث عن باقي الإنجازات يطول.

لكن انقضى عمر ترامب في البيت الأبيض، ومن قبله جاء الجمهوريون والديمقراطيون وجرب كل واحد من الرؤساء حظه على امل أن يكسب شيئاً، لكن ثبات الجمهورية الإسلامية كان بيّناً سواء في عهود الإصلاحيين بطرفيه المرحوم الشيخ هاشمي رفسنجاني والسيد محمد خاتمي أو في عهد احمدي نجاد الذي تبنّاه الأصوليون وجعلوا التصويت له تكليفاً شرعياً، ثم تراجعوا عن موقفهم وأظهروا الندامة على فعلتهم، كما تخلى كثير من أنصار الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة عن دونالد ترامب بعد مساندتهم له نتيجة تصرفاته الرعناء وسلوكه غير العقلائي.

واليوم جاء دور الرئيس الأمريكي " الديمقراطي "  جو بايدن في وقت يسيطر فيه " الأصوليون " في إيران على أربع قوى أساسية هي السلطتين التشريعية والقضائية ومجلس صيانة الدستور ومجلس خبراء القيادة، وتبقى أمام إدارة جو بايدن " الديمقراطي " فرصة حوالي ٨ أشهر فقط لا غير لتظهر للرأي العام الإيراني الذي استفز دونالد ترامب كافة طبقاته، واستعدى جميع فئاته، ودفع اكثر المعتدلين في الساحة إلى أحضان المتطرفين نتيجة سياساته الإستكبارية الفاضحة، وتثبت أن جهود الرئيس حسن روحاني ومعه الدكتور محمد جواد ظريف وزير الخارجية لم تذهب سدى، وأن رهان المعتدلين على إمكانية التعامل مع الأمريكيين على أساس الإحترام المتبادل كان في محله، وأن نموذج ترامب الأرعن هو شاذ في الواقع الأمريكي، وأن الأساس في المؤسسة الأمريكية احترام التزاماتها الدولية، والتمسك باتفاقياتها مع الدول، والوفاء بعهودها أمام القوى والمؤسسات العالمية، وهذه الخطوة إن أقدم عليها الرئيس الأمريكي الجديد وفي الأيام الأولى لتسلمه السلطة مع بداية العام الجديد يمكن أن توجد ثغرة في الجدار، وتؤثر في المناخ العام للشعب الإيراني، وتعطي ورقة رابحة للرئيس روحاني ليواجه بها المشروع الذي أقرة قبل أيام مجلس الشورى الإسلامي ذي الغالبية الأصولية والذي سيؤدي في حال تنفيذه إلى خروج إيران من الإتقاق النووي، مع العلم أن الرئيس ترامب قد بلغ في الحصار حد الخناق الكامل، وفرض أنواع العقوبات التي لم تسبق في التاريخ، ولم يترك لمن بعده وسيلة ضغط أخرى ولا مزيد حصار ممكن، ومن يملك قليل عقل يجب أن يُغيّر الأسلوب على الأقل في التعامل مع الطرف الآخر، وأن يتخلى عن العنجهية في التعامل مع الشعب الإيراني الذي أثبت قوته من خلال الإنتصار على النظام الشاهنشاهي بعد ٢٥٠٠ سنة على تجذره، ونجح بقوة إيمانه في القضاء على حكم الشاه محمد رضا بهلوي الذي جعل إيران تحت سلطة الأجنبي لمدة أكثر من ٥٠ عاماً، على الرغم  من أن السيد الأمريكي كان قد نصّبه شرطياً على الخليج ووصياً أميناً له على المنطقة كلها، وأكّدت الجماهير المشبعة بروح الإسلام وبقيادة الإمام الخميني الراحل أنها لا تكون بعد اليوم طيّعة كغيرها من اغلب الشعوب ، بل إن الشعب الإيراني المسلم يقابل الإحترام بالإحترام ويواجه الإستكبار بالإستقامة، ويتحمل كافة الضغوط إذا حاول أحد في هذا العالم التقليل من شأنه وعدم احترام شخصيته، لأن الله سبحانه جعل العزة لنفسه ثم لرسوله وبعد ذلك للمؤمنين وذلك في قوله سبحانه: ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

الوسوم