بيروت | Clouds 28.7 c

من أجل الحاضر والمستقبل... إشراقات من الماضي / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 19 تشرين الثاني 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون وستُردُّن إلى عالم الغيب والشَّهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} سورة التوبة.

لكلٍ منَّا عادةً نظرةٌ إلى الماضي فمنَّا من يرى في هذا الماضي ذكرياتٍ عزيزة وحنينًا إلى أجدادٍ طيبين أو إلى رُبوعٍ أو لحظاتٍ مؤثِّرة تركت في النفس ذكرى تُسعد القلب وتُبهج الفؤاد، هذا إن نظرت إلى الماضي القريب، أما إن أردت التمعُّن بالنظر في الماضي البعيد فستقف طويلًا تاركًا لبالك العنان ليُسافر بعيدًا بين تلك المحطات التاريخية العريقة التي أثْرَت أمتنا وجعلت سجلَّ ماضينا ناصعًا ببطولات الأوائل الذين ساروا على هدي القرآن الكريم والسُنَّة المطهَّرة وحملوا للدنيا مشاعل النور فأشرقت أنوارهم في أصقاع الأرض، بل ما زلنا بعد مضي قرونٍ مديدةٍ نستضيئُ بتلك الأنوار ونستعين بها للسير في دُروب الهدى ونحنُّ إلى تلك الرايات الخفَّاقة بعبق النصر المرفوعة فوق هامات الرجال الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله لنصرة الحق والدفاع عنه وتركوا بصماتٍ ما زالت ظاهرةً إلى اليوم في شتَّى العلوم والمجالات الاجتماعية والثقافية والعسكرية، ولكننا نتساءل ما الذي اختلف بين الأمس واليوم؟

من إشراقات التاريخ

في الماضي تمرَّد أحد ملوك الروم واسمه نُقفور على الخليفة هارون الرشيد واعتدى وتمادى في الغي جدًا وكتب يهدد الرشيد ويتوعَّده فلما قرأ الرشيد الرسالة استفزَّه الغضبُ حتى هاب من حوله أن يُكلِّمه، فدعا بدواةٍ وكتب على ظهر الرسالة: "من هارون أمير المؤمنين إلى نُقفور كلب الروم قد قرأت كتابك والجواب ما تراه دون ما تسمعه" ثم سار من فوره ففتح وغنِم وطلب نُقفور الصلح فصالحه الرشيد ثم تحوَّل عنه حتى إذا صار في الرَّقة نقض نُقفور العهدَ وخان الميثاق وكان البرد شديدًا فيئس نُقفور من عودة الرشيد، وجاء الخبر فأشفق الناس من إبلاغه الرشيد فانبرى أحد الشعراء بقصيدةٍ قال في مطلعها:

نقضَ الذي أعطيته نُقفُورُ                                 وعليه دائرةُ البَوارِ تدورُ

فكرَّ الرشيدُ راجعًا في أحوالٍ قاسية وأرغم نُقفور على ما أراد، وخبر ذلك بتمامه في "تاريخ الطبري" وغيره.

ثم كانت خلافة المعتصم بن هارون الرشيد فخرج أحد ملوك الروم ويقال له نوفيل فأغار على بعض بلاد المسلمين فقتل وأسر ووقعت في الأسر امرأةٌ قرشيةٌ من بني هاشم فصاحت: "وامعتصماه" فتداول الناس صرختها حتى بلغت أسماع المعتصم فاستعظم ذلك ونهض من وقته فجمع العساكر وسار في جُمادى الأولى سنة ثلاثٍ وعشرين ومائتين كما في "تاريخ ابن الوردي" وغيره وتجهَّز بما لم يُعهد مثله قبل ذلك حتى أتى عمّوريةَ أكبر مدن الروم حينها فافتتحها وخلَّص المرأة المؤمنة. وفي ذلك قال أبو تمَّام قصيدته الطويلة ومنها:

السيف أصدق أنباءً من الكُتُب                     في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللعبِ

بِيضُ الصفَائح لا سُود الصحائف في                مُتونهن جلاءُ الشك والرِّيبِ

فبين أيَّامك اللاتي نُصرت بها                        وبين أيَّام بدر أقربُ النسبِ

أبقت بني الأصفرِ المِمراضِ كاسمِهِمُ                  صُفرَ الوجوهِ وجلَّت أوجهُ العَربِ

وما زالت الأجيال تتغنَّى بهذه الهمَّة العظيمة رغم مئات السنين وفي ذلك قيل:

رُبَّ وامعتصماه انطلقت                                   ملء أفواه الصبايا اليُتَّمِ

لامست أسماعَهم لكنها                                   لم تُلامس نخوةَ المعتصمِ

فالمعتصم لم يقل: لا شأن لي بها فليست من أهلي وليست في أرضي، بل لم يتلكأ في تلبية نداء امرأةٍ استغاثت به.

والأخبار في سرد بطولات الخلفاء والأمراء في نحو ما كان من الرشيد والمعتصم كثيرة وطويلة تتصل بسلسلة تاريخية غائرة في قلب الزمان تشهد بالمجد لأمةٍ قائدها سيد المرسلين رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

أمة العلم والقلم

أمةٌ حملت القلم إلى جنب السيف فكانت رائدةً في كل ذلك، فمنَّا أئمة الدين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ومنَّا الخلفاء العظام والقادة الكبار كالراشدين الأربعة وعمر بن عبد العزيز وأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، ومنَّا الملوك والسلاطين الأمجاد كصلاح الدين والظاهر بيبرس والمظفر قطز، ومنَّا علماء الطب والهندسة والمهن.

 منَّا نوابغ لمعت أسماؤهم في أعالي قمم المجد فكانوا منارات تشع تقدُّمًا ورُقيًّا، ومن هؤلاء: الخوارزمي الذي ألَّف في علم الجَبر والمقابلة وفي الرياضيات الحديثة قسمٌ يُعرف باسمه، وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، وأبو القاسم الزهراوي وهو أول من صنع أدوات العملية الجراحية التي لا زالت تُستعمل حتى اليوم كالمِشرط، والجزري الذي كان مهندسًا بارعًا وهو أول من وضع آلة قياسٍ للوقت، وجمع فيها أوقات البلاد المختلفة، وابن الهيثم وهو أول من وضع أُسس الكاميرا من طريق البحث في عمل العين، ومنه أُخذت طريقة عرض الحواسيب والتلفاز والسينما، ومريم الإصطرلابية وهي أول من وضعت آلة مسطحة تُسهّل الحساب ومنها أخذت البوصلة، وآخرون يطول المقال بذكرهم.  

وإزاء ذلك نقول: جديرٌ بنا أن نعود إلى جُذورنا جُذور الكرامة والإباء فنتمسك بما أرشد إليه نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم ونسعى في تطبيق ما وجَّهنا إليه لنعود إلى الصفوف الأمامية قوةً وعزةً وشرفًا وعلمًا، فنحن أمة لا تنقُصنا العقول الواعية بل ونملك تُراثًا عظيمًا لنستفيد منه، ولكن عندما غاب التآخي وحلَّت الفُرقة والأنانية وابتعد كثيرٌ منّا عن أغلب تعاليمنا القيِّمة صرنا كالكرة بين أقدام العابثين وها هو حاضرنا يُفصح عن وهننا.

إن ريادتنا في مجالات العلوم النافعة والقيادة المتقدمة لها طريق واضح هو البحث العلمي ودعم أصحاب العقول النيِّرة للاستفادة منهم في شتَّى الفنون، وهذا طريقٌ ضلَّ عنه الكثيرون واستبدلوه بالتقليد الأعمى الذي خرَّب قيم المجتمعات وبدَّل مفاهيم كثيرٍ من الناس حتى صار الأخ لا يهتم لأخيه ما دام هو في رفاهيةٍ ولا يُبالي بجيرانه ولا بمن هم تحته في الوظيفة، فما عُدنا نرى إلا نادرا نخوةَ المعتصم ولا همةَ هارون الرشيد ولا نجدةَ صلاح الدين وفقدنا نبوغ الخوارزمي والجزري وصرنا إلى التفرُّق والتناحر فيما بيننا تحت عناوين القوميَّات والعصبيَّات التي جعلتنا في موقع التابع لها، فإذا بنا نُمارس أفكارًا مستوردة وتقاليد وافدة ولم يعُد أكثرنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى" رواه مسلم عن النعمان بن بشير.

والحمد لله أولًا وآخرا.

 

 

الوسوم