بيروت | Clouds 28.7 c

واقع الإدارة الأمريكية / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 15 تشرين الثاني 2020

كانت وسائل الإعلام تروّج دائماً أمام شعوب العالم أن الصدق هو معيار العمل في نظام الإدارة الأمريكية على صعيد الداخل الأمريكي على الأقل، ولا يمكن التساهل لدى المؤسسات هناك في موضوع الكذب مع أحد صغيراً كان أو كبيراً، حيث يُغفر لأي مسؤول أمريكي زلاّته وخطيئاته لكن الكذب أمر لا يمكن التغاضي عنه والتساهل فيه حتى مع شخص رئيس الجمهورية، ولقد بلغ الأمر إلى أن صار يُضرب المثل ببلادنا في التزام الصدق بالأنموذج الأمريكي فيما المعروف عن منهج الحكام والمسؤولين عندنا هو الكذب " على راس السطح " ومن دون حياء وخجل، حتى أنه يقال أحياناً: " الكذب ملح الرجال "..

لكن،

 ما ظهر مؤخراً وعلى لسان أحد المسؤلين الكبار في الولايات المتحدة يوضح وبكل صراحة أن الكذب أمر واقع هناك أيضاً، وفي موضوعات أساسية ومهمة وعلى أعلى المستويات..

حيث صرح جيمس جيفري المبعوث الأمريكي إلى سوريا المستقيل حديثاً أنه كان أثناء تأديته مهامه يُخفي مع " زملائه " حقيقة عدد القوات الأمريكية المتواجدة في شمال شرقي سوريا وكذلك تحركات الجيش الأمريكي هناك عن رئيس الولايات المتحدة، وقال بالحرف: " دائماً ما كنا نتحايل ونراوغ لئلا نكشف لقياداتنا عن حقيقة عدد القوات التي نملكها هناك في أرض الواقع … وأن العدد الفعلي للقوات العسكرية الأمركية في شمال شرقي سوريا هو "أكثر بكثير" من ٢٠٠ جندي الذين وافق ترامب على بقائهم في سوريا عام ٢٠١٩ "، ويتضمن هذا التصريح عدداً من الأمور الخطيرة:

  1. من المفترض أن الرئيس الأمريكي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمريكية، وأن تحرك القوات وتفاصيله يجب أن يكونا بأمره وبإشرافه المباشر، وإن إعلان ممثل الإدارة الأمريكية أن الرئيس الأمريكي لم يكن على علم بالعدد الحقيقي وتحركات الجنود الأمريكيين المتواجدين في سوريا هو بحد ذاته فضيحة كبرى...
  2.  إن تحرك القوات المسلحة داخل وخارج الولايات المتحدة يستلزم إجراءات تقنية، حيث يتم نقل الجنود والأسلحة والذخائر بالطائرات العسكرية ويكون كل ذلك من خلال سجلات قيود ومحاضر تسلم وتسليم تدوّن فيها كافة التفاصيل، ويتطلب ذلك أيضاً صرف أموال وتخصيص ميزانية، إضافة إلى أن كل الخطوات في عملية نقل الأفراد والعتاد يحتاج لأوامر من القيادة، وإن إخفاء عدد الجنود يعني عدم إطلاع الرئيس على أمور كثيرة أخرى مرتبطة بتحرك الجنود والعتاد، فنقل الجنود إلى مسافة آلاف الكيلومترات بعيداً عن الولايات المتحدة ومعهم السلاح اللازم والعتاد الضروري بما في ذلك المدرعات والطائرات المقاتلة والطوافات العسكرية التي تقوم بحماية القوات على الأرض، وهذا لا يمكن أن يتم من دون التنسيق بين مختلف الأقسام في وزارة الدفاع ومن دون أوامر تصدر عن كبار الضباط في كل قسم في القوات المسلحة، وهذا يبين كم كان حجم التواطؤ بين المبعوث الأمريكي المستقيل وبين " زملائه " من قيادات عليا في وزارة الدفاع والجيش بحيث ضمنوا عدم تسرب حقائق الأمور إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة طوال كل هذه المدة.
  3.  إن اطلاع الرئيس وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة على تفاصيل الواقع العسكري يجعله يضم الوضع الميداني إلى جانب تقارير أخرى، وبناءً على ذلك يقوم بتحليل الأمور واتخاذ القرارات، وإن إخفاء الحقائق عنه وخاصة في المجال العسكري يمكن أن يجعله يتخذ قراراً خاطئاً بناءً على التقارير الكاذبة المرفوعة إليه، ويمكن أن يؤدي الأمر إلى نتائج كارثية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
  4.  إن جيمس جيفري الذي ظل في خدمة الحكومات الأمريكية المتعاقبة لمدة طويلة بلغت 50عاماً، والذي يعلن " بعظمة لسانه " اليوم أنه كان يكذب على رؤسائه في إدارة دونالد ترامب، فمن يضمن أنه لم يكن يقدم تقارير كاذبة أيضاً لقياداته طوال نصف قرن من العمل في مختلف قطاعات الحكومات الأمريكية ؟
  5.  إن إفصاح جيمس جيفري عن هذه الحقيقة بعد التأكد من خسارة دونالد ترامب الرئاسة يأتي ليفضح الفوضى الواسعة التي كانت في أعلى مستويات الإدارة الأمريكية في عهد ترامب، حيث مبعوثه يخفي الحقائق عنه، و " زملاؤه " المسؤولون في وزارة الدفاع والجيش لا يطلعون قائدهم على مجريات الأمور، والأوامر بالتحركات العسكرية خارج الحدود تصدر من وراء ظهر الرئيس، والأموال يتمّ صرفها من استئذانه وموافقته، في حين أن الرئيس ترامب كان يكرر القول إن إدارته هي الأفضل في التاريخ الأمريكي... ويمكن أيضاً أن يكون كلام جيفري هذا يريده مدخلاً للتقرب من فريق جو بايدن الفائز على أمل تكليفه من قبل الرئيس القادم بمهام جديدة.
  6.    إن مهمة المبعوث الأمريكي إلى سوريا كانت تشمل إضافة إلى تنسيق التحركات العسكرية أموراً أخرى، وإن الإفصاح اليوم عن إخفاء الحقائق عن الرئيس في المجال العسكري يجعلنا نعتقد أن أموراً أخرى في مجالات أخرى أيضاً لم يتم إطلاع الرئيس ترامب على حقيقتها، لكن المبعوث الأمريكي السابق لم يجد ضرورة لكشفها الآن، بل ترك أمر فضحها لمناسبات أخرى يكشف خلالها خفايا جديدة عما يدور في مؤسسات النظام الأمريكي الذي يُعجب به كثيرون من النخب المثقفة عندنا، ويرونه مثالاً يُحتذى، ويعملون على استنساخه في بلادنا..
  7.  إن المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري قال في سياق تصريحه أن الرئيس كان يعلن انسحاب اعداد معينة للجنود من سوريا لكنه وبالتنسيق مع " زملائه " في القيادات العسكرية كانوا لا يلتزمون بأوامر الرئيس حرفياً، حيث كانوا يسحبون عدداً أقل مما يعلنه ترامب، وأنهم كانوا يعيدون القوات المنسحبة بعد فترة من دون علم القيادة العليا، وهذا يبين حجم الفوضى ومدى سهولة الكذب في اعلى مراكز القرار في الولايات المتحدة.
  8.  إن ما طفا على السطح في إدارة الرئيس ترامب ليس إلاً حقائق كان يُسدل عليها الستار في السابق لكن السلوك الأرعن والكيان المتعجرف لدونالد ترامب جعلا تلك الحقائق تبدو جلية للعيان أكثر، ومن تلك المصاديق ما نُقل عن إيعاز السفيرة الأمريكية السابقة في العراق لصدام حسين بعدم ممانعة الرئيس جورج دبليو بوش من غزو الكويت، ثم أتى تنكر الإدارة الأمريكية لموقف سفيرتها ومن ثم الدخول بذريعة تحرير الكويت في حرب شاملة أدّت إلى تدمير الجيش العراقي بالكامل وفرض الإستسلام على نظام صدام حسين.
  9.  إن تعدد الإقالات والإستقالات في إدارة ترامب يفضح واقع عدم وجود رؤية واضحة واستراتيجية محددة لدى الرئيس السابق، بل إن قراراته كانت تؤخذ بمزاجية وارتجال، ومن دون تمعن ودراسة واستشارة المعنيين في مختلف أقسام الإدارة الأمريكية، وهذا ما دفع الكثيرين وفي مقدمهم جون بولتون مستشاره للأمن القومي إلى التحذير من مخاطر إستمرار هذا الرجل في ترؤس الولايات المتحدة الأمريكية لفترة جديدة، ونرى أيضاً علائم الفرح والسرور بادية على وجوه الحلفاء التاريخيين لأمريكا في أوروبا من خلال مسارعتهم إلى تقديم التهاني بفوز المرشح جو بايدن حتى قبل الإنتهاء من العدّ النهائي للأصوات في الولايات، والتصريح علانية بأنهم وبالتعاون مع الرئيس الجديد لديهم فرصة "لنجعل كوكبنا عظيما مرة أخرى" فيما تنصل من صداقة ترامب أيضاً أقرب المعجبين به أي رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.. وفي الداخل الأمريكي أيضاً سارع الرئيس الجمهوري الأسبق جورج دبليو بوش إلى الإتصال بجو بايدن الديمقراطي وتهنئته على الفوز بالرئاسة، وبابا الفاتيكان بدوره أمّن الغطاء الديني لأول رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة بعد جون كنيدي الذي فاز بالرئاسة عام ١٩٦١ لكنه لم يُكمل مدته حيث اغتيل عام ١٩٦٣ مقابل ٣٤ رئيساً بروتستانتياً...

أما العراضة المسلحة التي دعى إليها ترامب قبل أيام....

وحشد أنصاره من أنحاء البلاد في العاصمة الأمريكية..

ومشاركته شخصياً معهم..

فإنها فقط للترويح عن نفسه بعد فشله في كسب أكثرية الأصوات، ولتخفيف الضغط الهائل عليه، ما جعل وضوح الشيب في رأسه لافتاً لوسائل الإعلام حين وضعوا صورتين متقابلتين له قبل إعلان فوز بايدن وبعده وأشاروا إلى الفارق بينهما، وهي أيضاً تجييش للشارع ضد المؤسسات القانونية والدستورية، وإفلات لـ " الزعران " في سبيل خلق حالة من الرعب لدى عموم المواطنين، وتهيئة الأجواء للتحرش بأنصار الرئيس الفائز والإصطدام معهم، وهذه ستكون بداية حرب أهلية تشمل كافة الولايات والمدن الأمريكية نتيجة امتلاك أكثر الأمريكيين أنواع السلاح وسهولة الحصول عليه من مراكز بيع السلاح في كافة المدن.

ان هذه الحقائق التي بانت في ثنايا تصريح المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري إضافة إلى بديهية تبدل السياسات الأمريكية مع تغيّر الرؤساء يجب أن تدفع الزعماء والرؤساء في بلادنا كي يأخذوا حذرهم منهم، ولا ينخدعوا بأقوالهم، ولا ينزلقوا بناءً على توصيات المسؤولين والمبعوثين الأمريكيين الذين يتحايلون حتى على رؤسائهم ويكذبون على قياداتهم، بل يعملوا على التقارب فيما بينهم، وبناء جسور الثقة بين قادتهم، ومعالجة الخلافات بين دولهم، من دون الإستقواء بالأجنبي الذي لا يريد سوى نهب ثروات المنطقة ولا يرضى بغير استعباد شعوبها..

وفي سبيل بلوغ غايته فهو يقوم ببثّ العداوة بين زعماء الدول، تارة بذريعة اختلاف المذهب أو الدين، ومرة يثيرها بين العرب والفُرس، وإذا لزم الأمر فإنه يؤجج البغضاء حتى بين قادة الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي..

كل ذلك،

 ليصبح هو الملجأ والحامي والمنقذ..

ويكون هو المستفيد من كافة الأطراف المتخاصمة من خلال بيع سلاحه للمتحاربين..

وإنشاء قواعده في بلاد العرب والمسلمين..

وفرض شروطه المُذلّة على الملوك والسلاطين، وما الحلّ والخلاص من الحالة البائسة هذه إلاّ عبر العودة إلى الصراط المستقيم، والتمسك بتعاليم الدين القويم، والعمل بما ورد في القرآن الكريم:

( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا ) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

الوسوم