بيروت | Clouds 28.7 c

عندما يحزن الرئيس الماروني على الرئيس السُني / بقلم: فؤاد مطر

عندما يحزن الرئيس الماروني على الرئيس السُني / بقلم: فؤاد مطر

 

في تاريخ الحياة الرئاسية اللبنانية وما حوته من صراعات ومكايدات وتحالفات ومناورات وتعجيزات على النحو التعجيزي الراهن في موضوع تشكيل حكومة تنقذ الوطن من الوقوع في حفرة لم يعد بعيداً عنها كثيراً، لم يحدث مثل هذا الذي فعله الشيخ بشارة الخوري مع توأمه في ((الميثاق الوطني)) الذي ثبَّت ((إتفاق الطائف)) جوهر صيغته عميد رؤساء الحكومات اللبنانية رياض الصلح غداة إستشهاده في عمان في مثل هذه الأيام من شهر يوليو/ تموز 1951 إن لجهة التشييع وإن لجهة المرثية التي فاضت أدباً رفيعاً. ربما تمنى الشيخ بشارة أن يكون ما فعله أمثولة لمَن يليه. ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه حتى إذا كان رئيساً للجمهورية. وفي الآتي من السطور إضاءة على ذلك الفعل الأمثولة.

فيما الشيخ بشارة بعد ظهر يوم الإثنين 16 يوليو / تموز 1951 في مكتبه في منزله الصيفي في بلدة عاليه يتصفح ملف أوراق وبيانات ومشاريع قرارات قبل أن تسلك طريقها إلى التنفيذ حاملة توقيعه بالموافقة عليها، تلقَّى إتصالاً هاتفياً من ملك الأردن عبدالله (الأول) ليبلغه بصوت متقطع الكلمات وحزين إن رياض الصلح الذي كان سافر إلى عمان يوم الجمعة 13 تموز/ يوليو قد إغتيل وهو على طريق المطار للعودة من زيارة الأردن وأن أحد القتلة قد صُرع على الفور.

كان رياض الصلح قبل تلك الزيارة يعيش حالة إحباط الشعور بأن رفيق الإستقلال و((ميثاق 1943)) الشيخ بشارة الخوري إستبدله بعبدالله اليافي نتيجة أن شأن رياض الصلح علا كثيراً وبات في نظر العرب والمجتمع الدولي زمنذاك مثل شأن رفيق الحريري الذي أصابه هو الآخر من عهد القبضة الأسدية على لبنان ما أصاب رياض الصلح. وتشاء الأقدار أن يقضي الإثنان إغتيالاً: رياض الصلح على طريق مطار عمان عن 57 عاماً ورفيق الحريري يوم 14 شباط/ فبراير 2005 عن ستين عاماً على كورنيش بحر بيروت.

وما يعنيني هنا ليست الظروف والتعقيدات والمكايدات والطموحات التي خلاصة خلطتها تسببت في ضرب علاقة أهم قطبيْن سياسييْن صاغا للبنان سياسة وضعت الوطن الصغير ضمن مشهد الدول ذات التميز والقدرة من جانب الرئيس الأول على بناء العلاقة مع الآخرين بما يجعل سماء العروبة دائمة الزرقة. الذي يعنيني هو التعامل اللائق مع واقعة أُولى الإغتيالات الرئاسية وكيف أن إستحضار ذكريات الجهاد السياسي من أجل الإستقلال حفَّزت الرئيس الشيخ بشارة الخوري على أن يجعل من الواقعة حدثاً وطنياً بإمتياز ويتصرف على نحو ما فعله لاحقاً الرئيس جمال عبد الناصر، الذي من شدة حزنه ووطأة الصدمة على نفسه قرر، وهو الشاكي من متاعب صحية شديدة الوطأة على قدميه، السير في جنازة رئيس أركان الجيش الفريق أول عبد المنعم رياض الذي طالما علّق عليه الآمال لتحقيق إنتصار على إسرائيل يزيل ندوب هزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967، والذي كان ضمناً يراه خليفة له، لكن إستشهاد عبد المنعم رياض في أحد مواقع التحضير للمواجهة على ضفاف قناة السويس أحدث إعادة نظر في الأمر ثم جاءت الوفاة المفاجئة لعبد الناصر تضع أمر الوراثة في سياقها التقليدي: نائب الرئيس (الحي) يخلف الرئيس (المتوفي).

أما كيف جعل الشيخ بشارة من واقعة إستشهاد رفيق صولاته وجولاته السياسية لبضع سنوات، قبل أن يشتد عود الحاشية وتتسبب في إقصاء رياض الصلح عن كرسي الزعامة رئيساً للحكومة ونائباً في البرلمان وخسرانه في إنتخابات ربيع 1951، حدثاً وطنياً بإمتياز، فهي أنه بعد وصول جثمان رياض الصلح إلى منزله الأول في محلة رأس النبع توجَّه إلى المنزل الصلحي غير عابىء بنصائح أهل الأمن وبعض رموز الحاشية الذين حذَّروه من تعرُّضه لإعتداء وذلك على خلفية عملية التهميش السياسي لصديقه رياض، ونصحوه بتكليف رئيس الحكومة عبدالله اليافي الإنابة عنه في تقديم واجب العزاء. لكنه أصر على الذهاب ثم كرر المحذِّرون خشيتهم من مشاركة الرئيس في تشييع الجنازة ومع ذلك سار مع المشيعين متبادلاً التحسر مع بنات رياض تتقدمهم كبيرتهم علياء ومع قائد الجيش فؤاد شهاب (الرئيس الثالث لاحقاً بعد بشارة الخوري وكميل شمعون) وصبري حمادة ودخل الجامع العُمَري مع سائر المشيعين وإنتظر في ركن منه إنتهاء الصلاة على الميت. وكان لا بد عند مواراة الجثمان الثرى في مدافن البيارتة السُنة في بيروت(جبَّانة الباشورة) من مرثية تغسل ما علق في القلوب من عتب لدى البعض وضغائن لدى آخرين وصدمة في نفوس العائلة الصلحية. ونترك الإضاءة على ذلك إلى ما أورده الشيخ بشارة في مذكراته وما رواه لي أيضاً المؤرخ يوسف إبراهيم يزبك مدقق المذكرات خلال جلسة لكليْنا مع الشيخ الرئيس في منزله في ضاحية الكسليك (قرب بلدة جونية) كانت مناسبتها إجراء حديث معه كان مادة في أول مؤلِّف لي وهو ((رؤساء لبنان من شارل حلو إلى شارل دباس)) بتقديم من غسان تويني ناشر صحيفة ((النهار)) التي أمضيت فيها نصف عمري الصحافي. ومما قاله الرئيس الأول للبنان المستقل الشيخ بشارة الخوري بعد الخروج من المسجد ثم مواراة رفيقه في السرَّاء الإستقلالي والضرَّاء السياسي رياض الصلح الثرى: ((خرج المشيعون إلى الباحة وعددهم لا يحصى، ووقفْتُ أؤبِن رياض الصلح والمذيع أمامي، وعلى مقربة مني بناته يُهمْهِمْنَ، ويْلتفتنَ إليَّ شذَراً وعيونهنَّ تقدح شرراً كأنني أنا الجاني! فتغاضضتُ عنهنّ ولفظتُ خطاباً خرج من فؤادي قبْل أن يخرج من شفتيَّ، وسمعتُ آيات التكبير، وقد قلتُ فيما قلت:

((يا أكرم الراحلين، يا فقيد البلاد، يا رفيق الجهاد!

سبحان من وَهبك بغير حساب وإدَّخرك لليوم العصيب، وتقبَّلك في اليوم العصيب شهيداً خالداً في جنات الخلود.

وهبك سبحانه وتعالى حسباً ونسباً، ديناً ودنيا، جاهاً ورتباً، مالاً ورزقاً، ذكاء فيه إشعاع من نور، وقلباً فيه جذوة من نار، وإيماناً عامراً بالله وبالوطن. براً بالوالديْن، وحناناً بالبنين، سخاء يد وسخاء فؤاد، عطفاً على المعوزين وحدباً على المحرومين، يداً للقلم ويداً للزعامة، بهاء طلعة وسناء وجه، سرعة في الخاطر، صلابة في العقيدة ومرونة في التفكير، وعينيْن تنظران إلى الأفق القريب وإلى الأجواء البعيدة، وطنية كانت لك جلباباً ودون من تتقي درعاً ومِجِناً.

تحدرتَ كماء المزن ما في نصابك كهام، وحملتَ سيفاً ماضياً به من قِراع الدارعين فلول، فجعلك سبحانه وتعالى من أكبر رجال لبنان قيمة، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، وأعزهم بأساً، وأشعَّهم نبراساً، وألينهم عريكة، وأودعهم خُلقاً، وأبهاهم خَلْقاً)).

.. وإدخرت لليوم العصيب، فما أن إستتب الأمر وشع بريق الأمل في لبنان حتى إنصرفتَ بكلْيتك إلى هذا البلد الكريم ورضيتَ أن تدخل المعترك الإنتخابي لثماني سنوات خلت، وكان ذوو السلطة إذ ذاك ينظرون إليك بحذر مقرون بالإحترام العميق، فتلاقيْنا بعد أن تَاق أحدنا إلى الآخر، وكأن العناية الالهية جعلت من هذا اللقاء بداية عهد جمع شمل الوطن، ووحَّد كلمة اللبنانيين، ورص صفوفهم رصاً، فإنبثق الميثاق المقدس الذي هو حياة لبنان، والذي هو لنا والذي يبقى بعدنا لبنينا. ولقد أردناه طاهراً لا تشوبه شائبة. ولا يعكِّره معكِّر فإنبلج الدستور معدَّلاً، ودخلْنا القلعة سجناء وبُعثنا منها أحراراً.

.. فيا أكرم الراحلين، ويا فقيد البلاد، ويا رفيق الجهاد، أيها اللبناني الخالد والوطني الدائم اللمعان والإشعاع، بأي كلام تُرثى وبأية عبارات تُبكى.

وأيم الحق كان الصمت أجدر في مثل هذا المقام وأمام هذه العبر، ولولا أنها عاطفة جياشة تدفع بنا لنتوجه إليك بالوداع الأخير مستمطرين على ضريحك الغالي شآبيب الرحمة والرضوان، ولنتوجه إلى عائلتك المفجوعة بصميم العزاء، وبالتعزية الحارة إلى أقربائك وأنسبائك، وأهلك وذويك، ومدينتيْ صيدا وبيروت والشعب اللبناني بأسره، ودنيا العرب بأجمعها، لإكتفينا بأن نحني الرأس أمام جثمانك الكريم إيذاناً بالفراق الصامت على أمل البعث اليقين، مرددين حكمة الشاعر العربي: ((وكانت في حياتك لي عظات       وأنت اليوم أوعظ منك حياً)).

عسى ولعل يتمعن ذوو المقامات الرئاسية اللبنانية من كل المذاهب والذين يحلقون في فضاءاتهم بهذا الصفاء في القلوب والنقاء في العقول عندما تعصف بالوطن عواصف هوجاء أو إغتيالات للصالحين أمثال رياض الصلح، رشيد كرامي، رينيه معوض، بشير الجميل، ورفيق الحريري. وفي التمعن ما من شأنه صون النفوس الآمَّارة بتعكير الصفو كلاماً يتجنى أو تغريداً يستفز. والله المعين.

 

صورة جامعة للرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح

الوسوم