بيروت | Clouds 28.7 c

تحرير الأقصى بين " السنة " و " الشيعة "/ بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 2 تشرين الثاني 2020

إن فلسطين افتتحها المسلمون في عهد الخليفة عمر بن الخطاب كما باقي الأراضي الذي التي تشكلت منها الدولة الإسلامية المترامية الأطراف والتي أضاف عليها حكام آخرون من بعده مناطق جديدة حتى بلغت بلاد الأندلس ومشارف فيننا في أوروبا وحدود الصين في آسيا وسواحل المحيط الأطلسي وأواسط القارة الأفريقية، لكن فلسيطين كانت لها مكانة خصوصاً في نفوس المسلمين كون المسجد الأقصى الذي كان إليه مسرى النبي صلى الله عليه وآله من مكة المكرمة ومنه كان مبدأ معراجه إلى السماوات العلى والإرتقاء إلى منزلة ( دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى )، وكان اهتمام المسيحيين بهذه البلاد أيضا كون مولد المسيح عليه السلام فيها ومنها انطلقت الدعوة الى شريعة جديدة نسخت شريعة التوراة ومنها كان رفع عيسى بن مريم إلى السماء الدنيا، أما اليهود فهم يدّعون أن هيكل سليمان بُني قبل عشرات آلاف السنين في تلك البلاد، لكنهم على الرغم من محاولاتهم الكثيرة وجهودهم طوال أكثر من ٧٠ عاماً لم يعثروا على أي أثر يؤيد مزاعمهم، فكانت هذه البلاد منذ أن افتتحها المسلمون محط اهتمام لمختلف الدول والأمم، حيث غزاها الأوروبيون تحت راية الصليب وبفتوى رأس الكنيسة أي البابا أوربان الثاني كي تكون فلسطين تحت سلطة من يدّعون أنهم ممثلو السيد المسيح على الأرض بعد صعوده إلى السماء، والمسلمون استعادوا فلسطين من الصليبيين بعد جهاد طويل، ورفرف على قبة مسجد الصخرة من جديد راية الإسلام، واحتل البريطانيون البلاد في الحرب العالمية الأولى بعد هزيمة العثمانيين، وهم وطّنوا فيها عصابات اليهود الذين استقدموهم من مختلف بلاد العالم بدعوى العودة إلى البلاد التي كانت لهم في العصور الغابرة، ورحّلوا سكانها الفعليين إلى كافة أصقاع العالم كلاجئين بعد أن أتاحوا للعصابات الصهيونية ارتكاب المجازر الجماعية بحق سكان القرى العزّل ما أدى إلى تهجير الفلسطينيين تاركين أرضهم وديارهم، وتواطأت الدول العربية ودول العالم ضد المجاهدين الفلسطينيين كلما قامت ثلة بحمل السلاح لطرد المحتلين والعودة إلى الأرض السليبة، وذلك بعد أن تراجعت الجيوش في ساحات الحروب النظامية أمام الجيش الصهيوني بفعل الخيانات على أعلى المستويات حتى تم تكريس وهم " الجيش الذي لا يُقهر " في نفوس أبناء الأمة وذلك لكي لا يجرؤ أحد في المستقبل على التفكير في هزيمة العصابات الصهيونية المحتلة.

إن بلاد فلسطين هي من حيث الإنتماء المذهبي ينتمي كل سكانها تقريباً إلى إحدى المذاهب الأربعة ( السنّة )، وليس فيها شيعة إلاّ أبناء القرى السبع الذين فصلتهم فرنسا من جنوب لبنان وألحقتهم بريطانيا بفلسطين على أساس معاهدة سايكس ـ بيكو، لكن الشيعة في العراق وإيران ولبنان وغيرها هبّوا دون تردد لنجدة إخوانهم المسلمين " السنّة " ضد العصابات الصهيونية المحتلة منذ اللحظة الأولى لإعلان " دولة إسرائيل " العام ١٩٤٨ حيث أصدر مراجع الدين والعلماء الكبار في الطائفة الشيعية في مختلف البلاد تضامنهم الكامل مع الشعب الفلسطيني وحضّوا على الجهاد لطرد العصابات الصهيونية المجرمة،

ونذكر من باب المثال من علماء إيران:

١ ـ المرجع الأعلى الإمام السيد حسين البروجردي.

٢ ـ آية الله السيد أبوالقاسم الكاشاني.

٣ ـ آية الله السيد هادي الميلاني.

٣ ـ آية الله السيد محمد رضا گلپايگاني.

٤ ـ آية الله السيد شهاب الدين مرعشي نجفي.

٥ ـ الإمام السيد روح الله الخميني.

٦ ـ آية الله السيد محمود طالقاني.

٧ ـ آية الله السيد علي بهبهاني.

٨ ـ المظلوم آية الله الشيخ مرتضى مطهري.

٩ ـ المظلوم السيد مجتبى نواب صفوي الذي أعلن في بيان فتح باب التطوع للمشاركة في القتال ضد المحتلين حيث سجل أكثر من خمسة آلاف شخص في العاصمة طهران فحسب، لكن السلطات الإيرانية أفشلت خطة المتطوعين في الوصول إلى فلسيطين.

وكذلك كان دور مراجع الدين وكبار العلماء في العراق نذكر منهم:

١ ـ الإمام الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء.

٢ ـ الإمام السيد محسن الحكيم.

٣ ـ آية الله السيد أبوالقاسم الخوئي.

٤ ـ آية الله السيد عبد الله الشيرازي.

٥ ـ آية الله الشيخ عبد الكريم الزنجاني.

وفي لبنان كان الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في مقدمة المنادين بوجوب مواجهة المحتلين الصهاينة في فلسطين في نفس الوقت الذي كان يقود معركة استقلال لبنان عن الإستعمار الفرنسي.

إن مراجع الدين الشيعة لم يكتفوا بإصدار بيانات صريحة في إدانة الجرائم الصهيونية ولم يقفوا عند تأييد الشعب الفلسطيني فحسب، بل أصدروا فتاوى شرعية بوجوب المشاركة في كافة المجالات لنصرة الفلسطينين، حيث اعتبروا كل من يُقتل في المواجهة مع العصابات الصهيونية هناك شهيداً، وأجازوا للمقلدين لهم في أرجاء العالم أن يساهموا بأموالهم في دعم الجهاد والمجاهدين واحتساب ذلك من فريضتي الخمس والزكاة، وقد تمّ فتح حساب خاص في إيران بأسماء آية الله العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير " الميزان " والمظلوم مرتضى مطهري وآية الله السيد أبوالفضل زنجاني لجمع التبرعات من المواطنين الإيرانيين ومساندة إخوانهم المجاهدين في فلسطين بالمال والعتاد، وسافر عدد من كبار العلماء مثل الإمام كاشف الغطاء وآية الله زنجاني والمظلوم نواب صفوي إلى فلسطين للمشاركة في المؤتمر الإسلامي الذي عُقد في القدس وشدّ ازر المجاهدين عبر خطاباتهم الحماسية هناك، وقد كان للشهيد نواب صفوي دور في حضّ ياسر عرفات الذي كان طالباً في تلك المرحلة على التحرك وتشكيل تنظيمات لمقاتلة العصابات الصهيونية.

إن مراجع الدين وكبار علماء الطائفة الشيعية لم يفكروا يوماً بذهنية مذهبية ضيقة بل كانوا يرون الأمة الإسلامية كتلة واحدة، ويعتقدون بأن " المؤمنون كالجسد الواحد كلما شكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى "، وبسبب استقلالية المنظومة العلمائية الشيعية عن الأنظمة السياسية فإن مواقفها لم تتأثر بالتوجهات السياسية لحكومات البلاد التي يسكن فيها المراجع والعلماء، ففي إيران وقف العلماء الشيعة صفاً واحداً إلى جانب المقاومة الفلسطينية وجهاد الشعب الفلسطيني واصطدموا مع نظام الشاه الذي كان متحالفاً مع الكيان الصهيوني وتحملوا التعذيب في السجون والتشرد في المنافي حتى كان انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، حيث كانت الخطوة الأولى قطع كافة أنواع العلاقات مع الكيان الغاصب وتحويل السفارة الإسرائيلية في العاصمة الإيرانية إلى سفارة فلسطين وتسليم مفاتيحها لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات أثناء زيارته طهران بعد أيام قليلة من الإنتصار، وإغلاق السفارة والقنصلية الإيرانيتين في الأراضي المحتلة، وتمّ استدعاء الجنود الإيرانيين المشاركين في قوة الفصل التابعة للأمم المتحدة على الحدود السورية واللبنانية مع الكيان الغاصب، وقد حاول المظلوم الشيخ محمد منتظري بمساعدة آية الله السيد علي خامنئي الذي كان يومذاك نائباً لوزير الدفاع الإيراني والمرحوم آية الله الشيخ اكبر هاشمي رفسنجاني الذي كان نائباً لوزير الداخلية الإيراني المجيء إلى لبنان على رأس مئات من المتطوعين الإيرانيين من أجل الإلتحاق بصفوف المقاومة الفلسطينية لكن السلطات اللبنانية اغلقت المجال الجوي وحالت دون وصول الطائرة التي كانت جاهزة للإنطلاق من العاصمة الإيرانية، وعلى الرغم من ذلك فإن عدداً من الشباب الإيرانيين استطاعوا التسلل إلى لبنان ودخلوا المعسكرات الفلسطينية للتدرب والمشاركة في القتال إلى جانب إخوانهم اللبنانيين والفلسطينيين، وفور توقيع اتفاقية " كمب ديفيد "' بين نظام السادات والكيان الصهيوني لم يتردد لحظة الإمام الخميني فأعلن بنفسه قطع العلاقات مع النظام المصري من دون انتظار الإجراءات الحكومية.

ومع الإجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢ كان الجنود الإيرانيون من الجيش النظامي والحرس الثوري المتواجدون في جبهات القتال دفاعاً عن وطنهم في مواجهة الجيش العراقي الغازي أول الواصلين إلى مطار دمشق الدولي للإنتقال منه إلى لبنان والمشاركة في صد العدوان وهزيمة الغزاة.

وكان مبدأ تأسيس حزب الله في لبنان بمساندة حرس الثورة الإسلامية في إيران هو مواجهة ثالوث الأعداء للأمة الإسلامية: الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني، والنظام الماروني المتآمر دوماً مع الصهاينة المجرمين، وجاء فتوى الإمام الخميني بأن " النظام اللبناني غير شرعي ومجرم " كتأكيد على شرعية مواجهة هذا الثالوث الخبيث، فكانت العمليات الجهادية ضد مقر المارينز الأمريكيين ما أدى إلى هزيمة أمريكا وخروجها الذليل من الساحة، وأيضا العمليات الجهادية ضد الجنود الصهاينة المنتشرين في العاصمة اللبنانية وضواحيها ومناطق من الجبل والبقاع اضطرتهم إلى التراجع نحو الجنوب خطوة خطوة، وكانت الهزيمة النكراء للكيان الصهيوني في العام ٢٠٠٠ والإنسحاب من غالبية الأراضي اللبنانية بفعل ضربات المقاومين السائرين على منهج الإمام الخميني وبقيادة آية الله خامنئي.

كل هذا والنظام الرسمي العربي يسارع إلى الإرتماء في أحضان الصهاينة حيث تم الفضح مؤخراً من خلال وسائل الإعلام الصهيونية أن العلاقات بين قادة الأنظمة العربية التي أعلنت التطبيع مع الزعماء الصهاينة تعود إلى عقود خلت، وإنما جاءت حفلات التوقيع المعلنة في الفترة الأخيرة بعد أن تهيأت الأجواء لقبول الخطوة الخيانية من قبل الفئات الشعبية حسب اعتقادهم.

واللافت أن أغلب علماء الدين البارزين من الطائفة " السنّية " قد صمتوا عن إعلان أي موقف ضد خيانات الأنظمة وذلك بسبب ارتهانهم الكامل للحكام واضطرارهم لتسويق تصرفاتهم نتيجة عدم وجود استقلالية مؤسساتية ومالية للمؤسسات الدينية، ولكون تعيين كبار الشخصيات في المؤسسات الدينية يتمّ من قبل الملوك والأمراء والرؤساء، وهذان العاملان يجعلان المجتمع الإسلامي " السنّي " أمام خيارين: إمام اتّباع إملاءات وعاظ السلاطين والسير وراء العلماء الرسميين وهذا يجعل الأمة بكاملها عبيداً لأشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، وإما إعلان الخروج عن المؤسسات الدينية " السنّية " الرسمية والعمل بعيداً عن الإطار الديني المتعارف عليه، وهذا ما يؤدي إلى تفلت زمام الأمور من أيدي فطاحل العلماء واستلام الجهلة بقواعد الدين وأصول الشريعة قياد الشباب المتحمس في مختلف البلاد، ما يجعل نسبة كبيرة من المسلمين في صدام عنيف وخارج السيطرة مع الأنظمة المدعومة بدورها بمواقف العلماء الرسميين الذين يشرّعون سلوك الحكام وإن كانوا فسقة، ويّصدرون الفتاوى بحسب متطلبات السياسات لمن بيده السلطان وإن كان ظالماً للعباد وجائراً في الرعية، فيما الهيكلية العلمائية لدى الشيعة مستقلة عن السلطة الحاكمة منذ تأسيسها، ولا يتحكم بها الحكام بأي حال والعلماء يعبّرون عن مواقفهم بمعزل عن السياسة الرسمية للدول والأنظمة واستناداً إلى التكليف الشرعي فقط.

ويشاهد العالم اليوم حتى بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران وسقوط حكم صدام حسين في العراق أن مراجع الدين في البلدين لا يتقيدون بسياسات الدولتين، بل يعبّرون عن مواقفهم النابعة من قناعاتهم الدينية ورؤيتهم المستقلة للأمور، وفي بعض الأحيان يُجبَر الرسميون على الإنصياع لمواقف علماء الدين الكبار بعد فترة نتيجة الضغط الشعبي المساند لمواقف مراجع الدين،

إن القضية الفلسطينية التي وصلت إلى هذه المرحلة العصيبة حيث تخلت كافة الأنظمة العربية عنها تقريباً، بل صار بعض تلك الدول يرى المقاومين إرهابيين ويحاكمهم ويرميهم في السجون ويرى في نفس الوقت الجنود الصهاينة المجرمين أصحاب حق في التصدي لدفاع المجاهدين عن مقدساتهم وأعراضهم، ووصلت الوقاحة ذروتها حيث صاروا يعلنون عن الإحتفال بمناسبة أول زواج بين مسلمة من دولة الإمارات وأحد الصهاينة الإسرائيليين، وتتوالى حفلات التوقيع يومياً بين المؤسسات المختلفة في الدول المطبّعة والمؤسسات الصهيونية بصورة رسمية وعلنية، حتى أن الصهاينة صاروا يدخلون بعض بلاد الخليج من دون حاجة إلى تأشيرات مسبقة، كل هذا ولا نسمع مع الأسف الشديد للعلماء الكبار ومراجع الدين للطائفة " السنّية " الكريمة أي موقف علني وواضح بإدانة خيانات الأنظمة في وقت يقف علماء الشيعة قاطبة ضد عمليات الإرتماء الذليل في أحضان الصهاينة المجرمين والتخلي عن أولى القبلتين ومسرى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله.

والعجيب أن الأمة الإسلامية في أرجاء العالم هبّت هبّة مباركة ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمّا أيّد تصرف فعلة الصحيفة التي أعادت نشر الكاريكاتور المهين لرسول الله صلى الله عليه وآله، ودفاعاً عن شخص رسول الإسلام صلى الله عليه وآله، لكن لم نسمع أحداً في طول البلاد الإسلامية وعرضها تحرك ضد الذين تخلوا عن مسرى أشرف خلق الله محمد صلى الله عليه وآله وعن المسجد الأقصى المبارك والقدس الشريف وسلّموا أمر الوصاية عليهما للصهاينة إلى الأبد، بل رضوا بزيارتهما تحت حراسة الجنود الصهاينة، بل تركوا للكيان الغاصب حرية التصرف في كامل أرض فلسطين التي باركها الله سبحانه وقدم المسلمون الملايين من الشهداء طوال القرون الماضية للحفاظ عليها.

إنني أضع صورة هذا الواقع المؤلم والمصيبة العظمى أمام أعين أبناء الأمة الإسلامية جمعاء والشعب الفلسطيني المضطهد المظلوم بصورة خاصة، ليتفكروا في كيفية الخروج من الأزمة التي تربك الجزء الأكبر من أبناء الأمة الإسلامية في معتقداتها وسلوكياتها وحتى انتماءاتها الفكرية وتوجهاتها المذهبية حتى لا تتجذر في النفوس الرضا بالخيانة، ولا تتكرس في الأذهان وجوب القبول بالذل والخنوع، وكي لا نساهم نحن في تحقق ما حذر منه النبي محمد صلى الله عليه وآله أمته في آخر الزمان والذي قال: " … كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً "، ( وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين ) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

الوسوم