بيروت | Clouds 28.7 c

الرسول الأمين عبد الله ورسوله / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 22 تشرين الأول 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى: {قُل إنَّما أنا بشرٌ مثلكم يُوحى إليَّ} سورة الكهف.

لقد جعل الله تعالى سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أكمل خلقه ففضَّله وشرَّفه وأعلى مقامه فوق كل مقامٍ ومدحه في القرآن الكريم في غير موضع وأرسله ليُطاع ويُتَّبع، وصدق البوصيري حيث قال:

فانسب إلى ذاته ما شئتَ من شرفٍ        وانسب إلى ذاته ما شئتَ من عِظَمِ

فالنبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم إمام كل إمام وليس فوق مقامه مقام، ومن أدلِّ ما يشهد لذلك ما رواه مسلمٌ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيِّد ولد آدم يوم القيامة" وهو مع هذا بشرٌ مخلوقٌ من أبوين وقد استُفيد من الآية ثلاثة معانٍ أحببت أن أقف عليها في هذا المقال فأقول:

الفائدة الأولى

اعلم أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم بشرٌ لكنه أفضل البشر وقولنا بشرٌ لا تنقيص فيه من قدر هذا النبي الكريم فقد قال تعالى:{لقد خلقنا الإنسانَ في أحسن تقويم} سورة التين، أي أحسن صورة، فتقويم الإنسان أحسن من تقويم الجن والبهائم بل وأحسن من تقويم الملائكة، فليس عارًا على العظماء كونهم من البشر ولا يقول بهذا إلا معوجَّ العقل أحمق، يؤكد ذلك ما جاء في الآية التي صدّرنا بها كلامنا {قُل إنَّما أنا بشرٌ مثلكم يُوحى إليَّ} سورة الكهف. ومن هنا يُعلمُ فساد قول من يقول: "إن محمدًا نورٌ وليس بشرًا وقد خلق الله نور محمدٍ قبل كل شىء". فإن فساد هذا ظاهرٌ ومن اعتقد أن جسد محمدٍ صلى الله عليه وسلم مخلوقٌ من نور فقد كذب القرآن وضلَّ وخالف إجماع المؤمنين، ومحاولة بعضهم تصحيح حديث جابر المكذوب والذي فيه قول "أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر" لا معنى لها ولا يجوز الاحتجاج بهذا الحديث المفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لمخالفته القرآن والحديث والإجماع فهو مخالفٌ للآية أعلاه ومخالفٌ لقوله تعالى:{وجعلنا من المآء كل شىءٍ حي} سورة الأنبياء، ومخالف لنصوصٍ أخرى كثيرة. وقد ردَّه غير واحدٍ من حفَّاظ الحديث كالسيوطي في "الحاوي للفتاوى" وغيره.

ثم إن خبر تزويج والد النبي محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله بأمه آمنة وقصة حملها به ووضعها له مشهورةٌ، فكيف يقال بعد ذلك إن سيدنا محمدًا هو نورٌ وليس بشرًا؟!! فليتق اللهَ امرؤٌ وليقف عند حدِّ الشرع فإن القول بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم نورٌ ليس بشرًا أو هو أول خلق الله من الغلوِّ المذموم وقد نهى الله ورسوله عن الغلوِّ، قال الله تعالى:{قل يا أهل الكتاب لا تغْلوا في دينكم غير الحق} سورة المائدة.

وعن ابن عباسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس إيَّاكم والغلوَّ في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين" رواه ابن ماجه.

الفائدة الثانية

ويُستفاد من الآية أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُخطئ في التشريع لأن ما يتكلم فيه في أمور الدين هو بالوحي فلا يجوز عليه الغلط فيه، وقد اختلف أهل العلم هل يجتهد النبي في أمور الشرع أم أن كل ما يقوله في التشريع هو بالوحي؟ فقال بعضهم: يجتهد لأن الله أمره بأن يجتهد ولا يخطئ فلا يتعارض هذا مع قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى} سورة النجم. وهذا بخلاف اجتهاد غيره من الأئمة المستأهلين فإنه يجوز عليهم الخطأ والصواب، قال الزركشي في "تشنيف المسامع": "إن القول الصحيح أن النبي إذا اجتهد لا يُخطئ". وقال بعضهم: "لا يجتهد بل جميع ما يتكلم فيه في التشريع هو بالوحي أخذًا بظاهر النصوص". قال الخازن في "لباب التأويل" في تأويل قوله تعالى:{إن أتَّبع إلا ما يُوحى إليَّ}: "وظاهر الآية يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يجتهد في شىء من الأحكام بل جميع أوامره ونواهيه إنما كانت بوحي من الله". والقول الأول هو الأصح وقد ذكر كلا القولين السمعاني في "تفسيره" وغيره.

وفي كلا القولين ردٌّ على يوسف القرضاوي الذي قال والعياذ بالله في حلقةٍ تلفزيونية على قناة الجزيرة (12/9/99) "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد أحيانًا ويخطئ في اجتهاده" فاعجب لذلك أشد العجب، فإنه لو جاز أن يُخطئ النبي صلى الله عليه وسلم في اجتهاده لكان المصيب من الأئمة حال إصابته باجتهاده أكمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حال خطئه باجتهاده ولانتفت الثقة في صحة ما جاء به صلى الله عليه وسلم، ولا يقول بهذا عاقل.

وقد روى الطبراني عن ابن عبَّاسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحدٌ إلا يؤخذ من قوله ويُدع غير النبي"

الفائدة الأخيرة

دلَّ قوله تعالى:{قل إنما أنا بشرٌ مثلكم} على جواز طروء الخطأ في أمور الدنيا على نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه بشرٌ وهذا من شأن البشر وقد أفاد قوله تعالى: {مثلكم} هذا المعنى، وأفاد قوله:{يُوحى إليَّ} أنه لا يخطئ في التشريع ومما يؤيد هذا ما رواه مسلمٌ عن رافع بن خَديجٍ قال: قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهم يأبُرون (الإبار: التلقيح) النخلَ يقولون يُلقِّحون النَّخل (يجعلون شيئًا من طَلع النخل الذكر في طلع النخل الأنثى فتعلَق الثمرة بإذن الله) فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنَّا نصنعه (نُصلحه ليُثمر جيدًا). قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا (يحثهم على التَّوكل) فتركوه فنفَضَت (ذهبت ثمارها) أو فنقصَت. قال: فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشىءٍ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشىءٍ من رأيي فإنما أنا بشر". قال النووي في "شرح صحيح مسلم": "قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم "من رأيي" أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعًا يجب العمل به وليس إِبَار النخل من هذا النوع".

فإذا عُلم هذا فليقف امرؤٌ عند حدِّ الشرع فإنه لا حاجة لأن يصف المرءُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما ليس فيه، والعاقل من التزم ما جاء في دين الله مما قام عليه الدليل وثبتت فيه الحُجَّة

والحمد لله أولًا وآخرا.  

الوسوم