بيروت | Clouds 28.7 c

قصة الشيعة  مع حقيبة المالية / خاص "الشراع"

مجلة الشراع 21 أيلول 2020

 

قصة القيادات الاسلامية الشيعية مع حقيبة وزارة المالية ليست جديدة.

وقبل عقود ، اي قبل اقرار اتفاق الطائف في المملكة العربية السعودية في العام 1989 كان موقف تلك القيادات يركز على ان إسناد حقيبة المالية لشخصية شيعية يؤمن حداً من المشاركة التي طالما شكا قادة الشيعة من غيابهم او تغييبهم عنها . ولهذا السبب تحول مطلب الحصول على هذه الحقيبة الى مطلب مركزي لتحقيق ولو نوع من التوازن في السلطة التنفيذية في لبنان.

وفي الثمانينيات من القرن الماضي ، وخلال حوارات بعيدة عن الاضواء بين الطرف الشيعي الرئيسي  الرئيس نبيه بري  وقيادات مارونية بينها الرئيس ميشال عون وكان يومها في قيادة الجيش وبينها ايضاً رئيس حزب القوات سمير جعجع ونائبه في تلك الفترة كريم بقرادوني ، كان موضوع منح المالية للشيعة موضوعاً اساسياً لا بل كان الشرط الوحيد المطروح من قبل بري للوصول الى تسوية.

هذه الحوارات حصلت قبل اقرار اتفاق الطائف ، وساهمت "الشراع" في جزء منها  (يرجى الضغط هنا لقراءة: كنت وسيطاً بين بري وعون ) ، على أمل ان يؤدي الوصول الى اتفاق ما في هذا الصدد الى تسوية يؤمل معها ان تكون نقلة نوعية باتجاه وقف الحرب في تلك الفترة.

وحظي المطلب يومها بموافقة اكثر من طرف غير شيعي على اعتماده، الا ان التطورات تسارعت يومها باتجاه الذهاب الى عقد مؤتمر الطائف برعاية عربية- دولية ادت الى ولادة اتفاق الطائف الذي أوقف حرب لبنان ، وخروج ميشال عون من قصر بعبدا الى "منفاه"الباريسي وكذلك خروج سمير جعجع من معادلة اطراف السلطة التي اعتمدت بعد دخوله الى السجن بتهم ارتكاب جرائم عديدة بينها اغتيال الرئيس رشيد كرامي.

 لم ينص اتفاق الطائف على ان تكون المالية من حصة الشيعة ، الا ان كل المداولات قبل التوصل اليه بين نواب مجلس العام 1972 الممدد له بسبب تعذر اجراء الانتخابات النيابية  سلّمت بان هذه الحقيبة ستكون لشيعي. وعلى الرغم  من محاولات انكار هذا الامر من قبل نائب او اكثر ممن كانوا في اجتماعات الطائف فان الموضوع مثبت في محاضر المؤتمر . ومن المهم اليوم واكثر من اي وقت نشر  تلك المحاضر  كونها تضيء على جوانب هامة تتصل بهذه المسألة .

وما يؤكد هذا الامر هو ما حصل  لدى انتخاب الياس الهراوي رئيسا للجمهورية وتكليف الرئيس سليم الحص بتشكيل الحكومة الاولى ومن ثم الرئيس عمر كرامي  بتشكيل الحكومة الثانية  في عهد الطائف ، حيث اسندت حقيبة المالية وعلى التوالي لشخصيتين شيعيتين هما  علي الخليل واسعد دياب.

وتم التعاطي يومها مع هذا الامر باعتباره احد مرتكزات المرحلة الجديدة على مستوى تحقيق نوع من التوازن ولتحقيق المشاركة من خلال اضافة توقيع وزير المالية الشيعي الى توقيعي رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الحكومة السني، انطلاقا من ان توقيع وزير المالية ملازم لاي قرار او مرسوم يتضمن صرف نفقات او مخصصات مالية وهو أمر يسري على معظم المراسيم والقرارات الصادرة.

 ولم يتحدث احد يومها عن المثالثة وهي المعزوفة  الرائجة اليوم في اطار التهويل والمناورة والتهرب مما كان اتفق عليه وأقر بشكل لم يلق في تلك الايام اي معارضة او اعتراضاَ من النوع الذي تشهده البلاد حالياً في اطار المزايدات السياسية .

يومها ، كان هناك شبه اجماع على ان اسناد المالية لشيعي هو احد مرتكزات المشاركة في السلطة التنفيذية لمكون اساسي من المكونات السياسية على قاعدة تعاون الجميع وتعاضدهم من اجل الخروج من حالة الحرب طي صفحتها واعادة النهوض بالبلاد على صعيد الاعمار والبناء .

ولكن مع استقالة حكومة الرئيس عمر كرامي في العام 1992، تم تكليف الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة الجديدة تحت عنوان اعادة الاعمار وبناء ما هدمته الحرب البغيضة. وليس سراً ان هذا التكليف جاء نتيجة  اتفاق بين راعيي تنفيذ اتفاق الطائف في تلك المرحلة والمقصود هنا خادم الحرمين الشريفين  الملك فهد بن عبد العزيز والرئيس السوري حافظ الاسد ويقضي  بان يتولى الحريري الاب التفرغ لمهمة الاقتصاد والمال وكل الامور المتعلقة بالاعمار وتأمين الاموال اللازمة لاعادة تأهيل البنى التحتية .

 وكان واضحا في تلك الفترة ان ما اتفق عليه في هذا الشأن بالنسبة لتكليف الحريري استثنى مجالات  الامن والدفاع واعادة بناء الجيش  اضافة الى السياسة الخارجية .

وبصرف النظر عما آلت اليه الامور يومها بالنسبة للموانع التي وضعت امام الحريري في مجالي الامن والعسكر والسياسة الخارجية على الرغم من انه وصف  بوزير خارجية سورية ولبنان في عواصم ومراكز القرار في العالم في تلك المرحلة، فقد  تم انفاذ معادلة الاقتصاد والمال للحريري مقابل الامن والعسكر والسياسية الخارجية للاخرين ،  وكان من شأن هذا "التقسيم" للمهمات تولي الحريري نفسه حقيبة المالية اضافة الى موقعه في رئاسة مجلس الوزراء ، وعين يومها فؤاد السنيورة وزير دولة للشؤون المالية حيث تولى تحت هذا العنوان وزارة المالية لكنه في تلك الحكومة لم يكن الوزير الاصيل للمالية بل وكيل الحريري الذي كان الجميع يدعم توجهاته  في تلك الفترة لضمان نجاحه في مهمة اعادة البناء والاعمار.

ولان تولي الحريري وزارة المالية كان استثناء بالنسبة للقيادات الشيعية وليس القاعدة التي ستتبع ، تم التسليم بالامر بعد التمنيات او الضغوط السورية على هذه القيادات ، لكن ليس وفق كسر ما اتفق عليه في اتفاق الطائف بل بسبب الظرف المرحلي و غير العادي الذي تمر به البلاد وفي ظل وجود قامة سياسية واقتصادية غير عادية يجسدها رفيق الحريري بشخصيته الاستثنائية ، وهو امر ثمة اجماع على ان لا احد حالياً يمكن ان يوازيه سواء كان الرئيس المكلف او اي رئيس من رؤساء الحكومة السابقين.

ولا حاجة للكشف عما يعرفه القاصي والداني بالنسبة لما كان يعانيه الحريري في مجالي الامن والعسكر حيث كان نظام الوصاية السوري يحظر عليه التدخل في شؤون الامن والدفاع في لبنان الى درجة شملت حتى الحرس الحكومي في السراي مقر رئاسة مجلس الوزراء ، الا انه كان مطلق اليدين في التصرف بحرية بشؤون الامن والاقتصاد واعادة الاعمار.

ومع ان ما جرى يومها كان موضع انتقادات من قبل عدد من القيادات وعلى رأسها الرئيس حسين الحسيني الذي انكب على المطالبة بوضع نظام داخلي لمجلس الوزراء ينظم العمل والعلاقة بين اعضائه خصوصاً وان عراب الطائف يجزم بان الاتفاق الذي انهى الحرب يعطي كل وزير الحق في ان يكون مثله مثل اي عضو في المجلس حتى لو كان رئيس الحكومة، وانه ليس مجرد موظف يتلقى التعليمات والاوامر، من رئيس الحكومة على غرار ما كان يفعل رئيس الجمهورية قبل الطائف. فهذا الاتفاق لم يصادر صلاحيات رئاسة الجمهورية لصالح رئيس الحكومة بل منحها لمجلس الوزراء مجتمعاً ما يجعل كل وزير جزءاً من القرار وصاحب سلطة سيادية تعادل السلطات الاخرى.

وبصرف النظر عن أحقية او عدم أحقية هذه النظرة وواقعيتها ،فان الامور لم تجر على هذا النحو ، وتم العمل خصوصاً مع تولي الحريري رئاسة الحكومة وبري رئاسة المجلس النيابي بعد اجراء اول انتخابات نيابية بعد الطائف على تكريس التعاون الى ابعد مدى لتجاوز ما كان يستجد من خلافات، وهو ما استمر لسنوات وأمكن من خلاله على الرغم من كل الصعوبات  طي صفحة الحرب واعادة البناء واشاعة الاستقرار على اكثر من صعيد وفي اكثر من مجال على الرغم من ما تخللته تلك الفترة من عمليات عسكرية اسرائيلية عدوانية ولاسيما في عدوان العام 1996 التي وقف جميع اللبنانيين وكل قياداتهم  جنباً الى جنب من اجل دحر العدوان وإفشال اهدافه قبل ان يتوج ذلك بالتحرير عام 2000.

وتم التعويض ضمناً عن حقيبة المالية لشيعي بما اسمي يومها الترويكا الرئاسية خلال السنوات التسع لولاية الرئيس الياس الهراوي ، وهذه الترويكا هي التي ادارت شؤون البلاد ، الى درجة ان كل من واكب تلك المرحلة يتذكر ان الامور كانت تتدهور عندما لا تتفق الترويكا وانها كانت تستقيم عندما كانت الامور بين الرئاسات الثلاث هادئة ومستقرة وتسير بالتوافق بينها.

 واثارت الترويكا في تلك الفترة معارضة واسعة على غير مستوى وصعيد، تقدمها اللقاء السداسي الذي ضم الى الرئيس الحسيني الرئيسين  سليم الحص وعمركرامي والنواب نسيب لحود وبطرس حرب ومحمد يوسف بيضون.  ولكن لم يتحدث احد يومها عن المثالثة التي صارت اليوم تهمة جاهزة وغب الطلب لاثارة العصبيات الطائفية والمذهبية.

وتم كسر معادلة الاقتصاد مقابل الامن في العام 1998 في عهد الرئيس اميل لحود وفي ظل حكومة الرئيس سليم الحص التي جرى خلالها ابعاد الحريري عن المالية كما عن رئاسة الحكومة ، بعد الاعتراضات الواسعة على السياسات المتبعة من قبله ومن قبل وكيله السنيورة، وتم تعيين جورج قرم المناهض لسياساته المالية بدلاً منه، ويومها كان لحود يمثل خيار اومشروع بشار الاسد- الذي لم يكن قد تولى الرئاسة في سورية بعد - اعتراضاً على السياسات المتبعة من الحريري في لبنان وما نسجه من علاقات في سورية وبين رجالات النظام السوري.

المهم ان حقيبة المالية  لم تلق مع بداية عهد لحود الاهتمام نفسه الذي لقيته في بداية عهد الهراوي ، على الرغم من ان الحريري كان خرج من السلطة. اما السبب فيعود الى ان سلم اولويات جديد فرض على البلاد وطال او استهدف  ليس الحريري وحده بل  وايضاً مجموعة من القيادات السياسية البارزة تحت عنوان وقف الهدر والفساد والعمل على الاصلاح وفرملة التصاعد الكبير  للدين العام الذي زادت نسبته بشكل كبير ومواجهة ما قيل يومها انه تحالف المال والميليشيات.

وبعد اغتيال الحريري في العام 2005  وانسحاب القوات السورية من لبنان ،استمر الامر بالنسبة لحقيبة المالية على ما كان عليه الامر . و كان لافتاً ان اول ما قامت  به الحكومات المحسوبة على خط الرئيس المظلوم هو انها وضعت كل ثقلها من اجل ان يكون لها حضور قوي في مجال الامن ، واطلقت عملية بناء فرع المعلومات في قوى الامن الداخلي لكن ليس على قاعدة التبادلية ، اي اعادة المالية الى الاجواء التي كانت سائدة بعد اتفاق الطائف ، بل قاعدة العمل على الامساك بكل مفاصل الدولة ، على الرغم من ان تحالفاً جمعها مع المطالبين باسناد المالية لشيعي تحت عنوان الحلف الرباعي.

وعلى الرغم من ان الامور على هذا الصعيد لم تتغير ، لاسباب عديدة أبرزها ما شهدته البلاد من احداث سواء على صعيد الانقسامات الداخلية والتي سعى الفريق الشيعي وعلى رأسه بري من اجل عدم تفاقمها من خلال طاولة حوار وطني ، او على صعيد حرب تموز 2006 وما خلفته من تداعيات، او على صعيد البحث عن سبل للخروج من الفراغ الرئاسي في اكثر من مرحلة ،او على صعيد ما استجد من احداث ادت الى اتفاق الدوحة عام 2008، فان العودة الى اسناد حقيبة المالية لشيعي لم تتم الا في العام 2014 لدى تولي الرئيس تمام سلام تشكيل الحكومة ، وقد تكرر الامر نفسه في حكومتي الرئيس سعد الحريري الاخيرتين وفي حكومة الرئيس حسان دياب التي تتولى حاليا مهمة تصريف الاعمال  من دون ان تثار ضجة او يتحدث احد عن ان تولي شيعي وهو المساعد الاول للرئيس نبيه بري مسؤولية وزارة المالية هو مثالثة او محاولة لتغيير النظام السياسي وتركيبة السلطة في لبنان.

وبات واضحاً كما يرى مصدر واسع الاطلاع ومقرب من قيادتي الثنائي الشيعي ان وراء الاكمة ما وراءها ، وان لعبة داخلية ممنهجة هدفها استغلال الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد- و تحت ستار العمل لإنجاح المبادرة الفرنسية - من اجل عزل فريق لا بل مكون اساسي من مكونات النسيج اللبناني، مع الاستقواء بالحرب الاميركية المفتوحة ضد حزب الله ، وهي حرب لا تريد واشنطن من خلالها خدمة حلفائها الداخليين بقدر ما تريد استخدامهم واستخدام  لبنان بكل من فيه لتحقيق اهدافها ، وهي من دون شك لا تخدم المصالح اللبنانية العليا  انما تخدم اولاً المصالح والاطماع الاسرائيلية  في الامن والنفط والغاز والدور ، خصوصاً مع تحول الرئيس الاميركي دونالد ترامب الى عراب استثنائي للكيان الصهيوني في اكثر من ملف وفي غير ساحة وقضية.

ويجزم المصدر نفسه، بان معلوماته تؤكد ان قيادتي الثنائي الشيعي ، اي الرئيس نبيه بري وامين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ليسا في وارد العمل على الوصول الى المثالثة او فرضها ، وان جلّ ما يريدانه من خلال الاصرار والتمسك بحقيبة المالية هو ضمان حق مكون اساسي في المشاركة في السلطة التنفيذية ، وفقاً لما تمت المطالبة به منذ اكثر من ثلاثة عقود وبما تم العمل به مراراً وتكراراً لسنوات طويلة  ، علماً ان ما يزيدهما اصراراً وتمسكاً بذلك هو استمرار غياب العمل الجاد والجدي والحقيقي لتنفيذ ما نص عليه اتفاق الطائف وخصوصاً من قبل من يدعون الحرص عليه.

 في كل الاحوال، فانه من الواضح ان حقيبة المالية تحولت الى ما يشبه الشماعة التي تعلق عليها اليوم كل اسباب تعذر تشكيل الحكومة  او تأخيرولادتها حتى الان حتى ان البعض اعتبر ان التمسك بها يحرم لبنان من "الفرصة الاخيرة " التي تتيحها المبادرة الفرنسية لانقاذ لبنان من الانهيار.

وبفعل الاجواء السائدة ، فان عدم اسناد المالية لشيعي يصّور اليوم بانه سيكون هزيمة للثنائي الشيعي وانتصاراً لخصومه، مثلما يصّور اسنادها اليه بانه انتصار له وهزيمة لخصومه. والامر غير صحيح في الحالتين لان قصة هذه الحقيبة مع المكون الشيعي قصة طويلة وغير عادية حتى لا نقول انها "شاقة" ، عمرها اكثر من ثلاثة عقود. والكل يعرف ذلك سواء من يسلم بالامر او يرفضه الان او يتجاهله لاسباب تتجاوز لبنان والعلاقات بين مكوناته الداخلية.

 

الوسوم