بيروت | Clouds 28.7 c

ايران بين الأمس واليوم / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 26 آب 2020

 

يوافق يوم ٢٤ آب ٢٠٢٠ ذكرى احتلال الحلفاء البريطانيون والسوفيات لإيران عام ١٩٤٦ و إجبار رضا بهلوي على التنحي  عن العرش ليحلّ مكانه ولده الشاب المراهق البالغ من العمر ٢٢ عاماً محمد رضا برضا المحتلين ملكاً على إيران.

لقد انتهى في هذا اليوم دور " رضا داداش بيگ " من قرية"  سوادكوه " التابعة لمدينة " مازندران " في شمال إيران الذي ارتقى من عسكري عادي أمي مهمته حراسة السفارة الهولندية في طهران إلى قائد للفرقة العسكرية التي أسسها البريطانيون باسم " قزاق " بتكليف من الجنرال البريطاني إدموند آيرونسايد، ثم إلى رئيس للوزراء بتكليف من احمد شاه قاجار، ثم إلى قائد للجيش الإيراني حيث قام بانقلاب عسكري بالتنسيق مع الضابط البريطاني المذكور واحتل العاصمة بالفرقة العسكرية الذي عيّنه الجنرال البريطاني قائداً لها، فغيّر لقبه من " دداش بيگ سوادكوهي " إلى " پهلوي " إحياءً للغة الفارسية القديمة، وراح يبتدع لنفسه ألقاباً كـ " اعلاحضرت همايوني " و " شاهنشاه " و " آريامهر " وألقاباً كثيرة أخرى، وصار يبطش بالمعارضين ويعتقل علماء الدين ويفرض سلطته على الشعب بالحديد والنار ويغيّر التاريخ الهجري القمري بالأسماء العربية إلى تاريخ شمسي بأسماء فارسية تعود إلى فترة ما قبل الإسلام، وقام بفرض السفور على النساء تأسياً بكمال أتاتورك في تركيا الذي أصبح بعد سفره إليها مثله الأعلى..

 لكنه لم يكن في نظر من رفعوا شأنه وهيأوا الأجواء له ليكون " شاهنشاهاً " إلاّ ذلك الجندي الأمي الذي يحرس السفارة الهولندية، فلما استغنوا عن خدماته وقررو استبداله بآخر أضعف منه شخصية قد تربى على أيديهم وتخرج من جامعاتهم وتشرب ثقافتهم فسلّم مذلولاً إلى المستعمرين القيادة بالكامل، فقد وجّهت بريطانيا إلى رضا بهلوي تهديداً فانصاع سريعاً وتنحى مكرهاً عن الحكم وسلم العرش الملكي إلى ولي عهده المراهق محمد رضا وخرج مُبعداً على سفينة بريطانية إلى مدينة بومباي في الهند أولاً حيث كان البلد المقترح أولاً لكنه لم يؤذن له حتى بالإقتراب من الساحل الهندي وبقي أياماً في عرض البحر، ثم تمّ نقله إلى جزيرة موريس النائية في المحيط الهندي والتابعة لأفريقيا الجنوبية، وكل تلك البلاد يومئذٍ  مستعمرات بريطانية، حيث تمّ إسكانه والمرافقين له في مكان رطب مليء بالحشرات والزواحف إذلالاً له ولهم، فبقي رضا شاه في الجزيرة حتى مات كمداً..

ويقال أنه كلما تذكر الألقاب التي كان يُخاطَب بها فيرددها متسلسلة وهو يمشي في باحة مسكنه ثم يسخر منها ويصاب بحالة تشبه الهستيريا نتيجة استعادته ذكريات العظمة التي توهمها لنفسه.

هكذا كان حال إيران حيث الإستعمار البريطاني ينصب ويعزل من يريد ويعيّن ويُقيل من يشاء والملك القاجاري لا حول له ولا قوة، و " الشاه البهلوي " هو من صنع الجنرال البريطاني، والملك الجديد محمد رضا رأى بأم عينه كيف فعلوا بأبيه، وكيف استسلم للمستعمر دون تردد أو مقاومة، وكيف أصبح هو شاه إيران باختيار البريطانيين وحلفائهم له، فكان طوع إرادتهم ومنفذ تعليماتهم، وهم كانوا يذلّونه جهاراً نهاراً حيث اجتمع قادة الحلفاء رئيس الولايات المتحدة الأمريكية روزفلت والبريطاني تشرشل والإتحاد السوفياتي ستالين في العاصمة الإيرانية عام ١٩٤٣ من دون أن يأبهوا بالشاه أصلاً أو يُعيروه أدنى اهتمام ولم يدعوه حتى لأخذ صورة تذكارية معهم!

وهكذا،

 بقي حال نظام الشاه مستسلماً بالكامل للبريطانيين حتى أطاح به محمد مصدق رئيس وزرائه عام ١٩٥١ بالتعاون مع آية الله السيد أبوالقاسم الكاشاني، فأجبر محمد رضا شاه على الهرب خوفاً من غضب الجماهير الشعبية إلى منطقة " كلاردشت " في الشمال ثم اضطر إلى الفرار من إيران واللجوء إلى " مملكة العراق " ثم الإنتقال إلى إيطاليا، ونتيجة تعرض مصدق للمصالح البريطانية وتأميم شركة النفط التي كانت تسيطر عليه بريطانيا قامت المخابرات البريطانية بالتعاون مع المخابرات الأمريكية بتدبير انقلاب عسكري أدى إلى الإطاحة بحكومة مصدق وعودة الشاه.

وهذه المرة تأكد الشاه محمد رضا بهلوي أن حياته وحكمه مرتهنان بالكامل لإرادة بريطانيا والولايات المتحدة القوة العظمى الصاعدة، ولذلك قرر منح الحصانة القضائية الكاملة للمستشارين والدبلوماسيين الأمريكيين ومنع المحاكم الإيرانية من مقاضاتهم حتى إذا ارتكبوا هم ومن تحت رعايتهم أكبر الجرائم في إيران، بل يعود أمرهم إلى القضاء الأمريكي، وجعل من الأراضي الإيرانية قواعد تحت تصرف المخابرات الأمريكية لـ " مواجهة الإتحاد السوفياتي "، واستمر محمد رضا بهلوي هكذا حتى كانت الثورة الإسلامية في ١١ شباط عام ١٩٧٩، حيث اضطر الشاه مرة أخرى إلى الهرب على أمل أن يعود قريباً كما في المرة السابقة، فذهب إلى "مملكة المغرب "، وعاد الإمام الخميني منتصراً، وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران على أنقاض النظام الملكي!..

وهنا،

حاول الرئيس الأمريكي جيمي كارتر كمرحلة أولى احتواء الثورة من خلال التودد إليها فقرر إرسال مبعوث خاص يحمل رسالة منه إلى الإمام الخميني، لكن الإمام رفض اللقاء من أساسه وأمر بمنع الطائرة الأمريكية من دخول الأجواء الإيرانية وإسقاطها في حال الإصرار على الوصول إلى العاصمة الإيرانية..

ومن هنا،

بدأت المحاولات العديدة والمتنوعة من قبل المخابرات الأمريكية لإعادة الهيمنة الإستكبارية، وأهم تلك الخطوات كانت عملية الإنزال العسكري في صحراء " طبس " بذريعة إنقاذ الديبلوماسيين الأمريكيين الذين أسرتهم مجموعة تحت إسم " دانشجويان پيرو خط امام " اي الطلبة السائرون على نهج الإمام الخميني من خلال احتلال السفارة الأمريكية في طهران، وكانت الخطة تقضي بجعل منطقة الإنزال التي فيها مدرج مطار عسكري قديم بناه البريطانيون في الحرب العالمية الأولى والعمل على تأهيله بعيداً عن أعين السلطة الإيرانية الجديدة التي لا تملك بعد السيطرة الكاملة على البلاد ولا الأدوات الكاملة للإشراف على الأمور، ومن ثم تحويل المنطقة إلى رأس جسر لاستقدام قوات ومعدات عسكرية إضافية واتخاذها قاعدة عسكرية يتم الإنطلاق منها للتمدد نحو العاصمة طهران لـ " تحرير رهائن السفارة الأمريكية "..

وهكذا،

 يسقط النظام مرة أخرى ويعود الشاه من جديد، لكن ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين )، وتصادمت طائرات الهليكوبتر والنقل المتطورة واحترق الجنود النخبة وفرّ الباقون مهزومين وفشلت الخطة بإذن الله.

كان صدام حسين الذي قد فرض عليه شاه إيران اتفاقية الجزائر بدعم من الولايات المتحدة، لا يمانع أن فرصة للإنقلاب على المعاهدة، وهنا وجد الفرصة وتقاطعت المصالح حيث أمريكا تريد إسقاط الثورة وصدام يريد الإنقلاب على ما تعاهد مع شاه إيران، فكانت الحرب العراقية على إيران باسم " معركة القادسية " وكان الدعم العربي والغربي والشرقي غير المحدود لعل تلك الحرب تؤدي إلى سقوط النظام الجديد في إيران..

 لكن بعد ٨ سنوات لم تؤدِ الحرب على الرغم من كل الدمار والخسائر واستعمال ما أمكن من وسائل التدمير وأدوات القتل حتى القنابل الكيمياوية إلى إضعاف بنية النظام الجديد بل على من ذلك فقد تجذرت دعائمه وأحسّ الشعب بأنه قد بذل الدم في سبيل بقاء هذا النظام الجديد فهو صار يتعصب لدولته ولا يتخلى عنها بأي حال من الأحوال.

وانقلب الأمر وسقط نظام صدام على يد الأمريكيين الذين ساندوه في الإنقلاب على سلفه احمد حسن البكر وإجباره على التنحي، والذي وضعوا إلى جانبه كل ثقلهم العسكري والإقتصادي والمخابراتي وحتى صور الأقمار الإصطناعية، وبقيت الجمهورية الإسلامية في إيران.

وتوسع نطاق الحصار الإقتصادي والسياسي والعسكري والعقوبات من جميع الأنواع والأصناف على إيران عسى أن تضطر إلى القبول بالمهادنة وكبح جماحها هذه المرة والحؤول دون توسع مدى تمدد نفوذها في المنطقة، وذلك بعد فشل كافة محاولات القضاء على النظام من أساسه..

لكن،

الجمهورية الإسلامية حولت العقوبات الظالمة منطلقاً لتطوير القدرات الذاتية في مختلف القطاعات، ففي المجال العسكري أصبحت إيران قوة عسكرية تهابها دول المنطقة كلها بما فيها الكيان الصهيوني، وأصبح مدى صواريخها البالستية الذكية يصل إلى أكثر من ٣٠٠٠ كيلومتر ليشمل دولاً أوروبية، وبدل أن تعيش إيران تحت رحمة عشرات القواعد العسكرية الأمريكية التي تطوق إيران من كل الجهات وإذا بتلك القواعد تخاف دائماً هجوماً إيرانيا صاعقاً كما حدث بالنسبة لقاعدة " عين الأسد " في العراق، وتخشى الأساطيل الحربية وحاملات الطائرات الأمريكية وغيرها التحرش بالقوات الإيرانية في مياه الخليج، وفي المجال النووي صار الهمّ الأوحد الأمريكي والغربي عدم رفع الجمهورية الإسلامية نسبة تخصيب اليورانيوم إلى حد يمكّنها من إنتاج قنبلة نووية، وفي مجال الفضاء صار القمر الصناعي الإيراني يدور في الفضاء يصور المواقع الأمريكية والصهيونية كما أقمارهما تصور المواقع الإيرانية وهي ترصد التحزكات لأعدائها كما هم يرصدون تحركات إيران، وأصبح الهمّ الجديد للأمريكيين ودول الغرب هو محاولة منع إيران من تصدير السلاح المتطور الذي تصنعه إلى الخارج بعد انتهاء الحظر الأممي في شهر تشرين الأول الممقبل، لكن كانت هذه المرة الهزيمة التاريخية الدبلوماسية للولايات المتحدة الأمريكية حيث لم يوافقها موقفها سوى دولة صغيرة في البحر الكاريبي باسم الدومينيكان وخذلها أقرب حلفائها، وفي المرة الثانية كان الخذلان أوضح لما حاولت أمريكا كسب موافقة أعضاء مجلس الأمن لإعادة العقوبات الأممية بحجة تخلي إيران عن التزاماتها بموجب الإتفاقية النووية، حيث لم ينعقد أصلاً المجلس بناء لطلب الولايات المتحدة بسبب معارضة جميع الأعضاء، وصار المسؤولون الأمريكيون يتخبطون في مواقفهم..

 فيشتمون حلفاءهم ساعة..

ويهددون الأمم المتحدة تارة ..

ويلوحون بالتصرف منفردين في منع تسلح و تسليح الإيرانيين مرة..

 وتارة يوجهون مسبقاً تهديداً للدول التي تزمع شراء السلاح من الجمهورية الإسلامية في المستقبل..

لكن في الوقت نفسه لا يتوقف الرئيس الأمريكي لحظة عن التوسل لعل قادة إيران على أي مستوى يقبلون لقائه مبدياً مرات عديدة استعداده لتقديم المزيد من التنازلات التي قدمها سلفه باراك أوباما للجمهورية الإسلامية في إيران..

ويترك رقم هاتفه الخاص لعل أحداً من المسؤولين يتصل به..

ويرسل رئيس وزراء اليابان..

ويوسّط رئيس وزراء الباكستان..

 ويدفع الرئيس الفرنسي لعل الإيرانيين يرضون باللقاء به ولو لأخذ صورة تذكارية، وطرح مرة فكرة الركوب في الطائرة الرئاسية والتوجه إلى طهران ومفاجأة المسؤولين الإيرانيين!..

 لكن كل التوسلات والوساطات والمبادرات والعروضات لم تُعطِ أي نتيجة، هذا في وقت يعلن ترامب بكل صراحة أن زعماء دول في الضفة الأخرى للخليج لا يمكنهم الوصول إلى طائراتهم للفرار من بلادهم لولا الحماية الأمريكية التي تُثبّت عروشهم، ويصفهم بكل وقاحة بالبقرة الحلوب، ويتعامل معهم باستخفاف، ويبتزّهم كل يوم بالمال، ويفرض عليهم اتخاذ المواقف المذلّة، ويُجبرهم على الزحف على بطونهم نحو الصهاينة، وهكذا كان يفعل البريطانيون مع رضاه شاه وبعدهم الأمريكيون مع محمد رضا شاه، ولمّا لم ينجحوا في مؤامراتهم ضد الجمهورية الإسلامية ويئسوا من إمكانية إعادة الشاه إلى عرشه أدخلوه إلى مستشفى الأمراض العقلية في أمريكا وتعاملوا معه على أساس أنه مختل في عقله، وأخيراً لم يسمحوا حتى بدفن جثته على أراضيهم بل منّ عليه أنور السادات وسمح بدفنه في القاهرة، وفي الجغرافيا,

فإن الأرض الإيرانية التي توغل فيها الجيش العراقي واحتل المدن الإيرانية واحدة تلو أخرى والإيرانيون لا يجدون الأسلحة الفردية ليصدوا الغزاة أصبحت محررة بالكامل بل إن إيران اليوم قد تمددت حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتتواجد كدلك بقوة وصراحة في العراق ولم يصمد النظام السوري أمام الحلف العربي الغربي لولا المساندة الإيرانية، وهي تشكل أكبر تهديد للكيان الصهيوني بعد أن كانت إيران في حلف واحد مع المجرمين الصهاينة ضد قضية شعب فلسطين المظلوم، وهي اليوم تحاصر الكيان الصهيوني الغاصب من الشمال والجنوب ومن جبهة الجولان السورية أيضاً وتبثّ الرعب في قلوب المستوطنين.

إن التجربة الإيرانية في عهدي رضا شاه بهلوي وابنه محمد رضا وكيفية تعامل قوى الإستكبار معهما، ومدى التذلل الذي اضطرت إليه الولايات المتحدة والغرب  أمام الثورة الإسلامية والعزة التي تمتلكها الجمهورية الإسلامية على الرغم من كل العقوبات وألوان الحصار، وكذلك الإستخفاف الكوري الشمالي بقوة الولايات المتحدة و " جرّ " الرئيس الأمريكي إلى لقاء الزعيم الكوري دون أن يقدم له أي شيء أو يتنازل عن أي مشروع، لهما عبرة لكل الحكام الذين يريدون الحفاظ على كرامتهم وعزة شعوبهم وسيادة بلادهم لأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول:

" إتّعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتَّعظ بكم من بعدكم "

والله سبحانه يقول: ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

الوسوم