بيروت | Clouds 28.7 c

بين تركيا أتاتورك وتركيا اردوغان/ بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 21 تموز 2020

كانت تركيا العثمانية تفرض سيطرتها باسم " الخلافة " على مساحات شاسعة من العالم الإسلامي لمدة ٦٠٠ عام تقريباً، وكانت تعطي لسلوكها صبغة إسلامية، وتغطي عيوب تصرفاتها وظلمها وتعسفها بحق مواطني الدولة باسم الدين الإسلامي الحنيف، وهي استطاعت تحت راية " الإسلام " أن تقتحم القارة الأوروبية حتى وصلت إلى مشارف فيننا عاصمة النمسا اليوم، لكن الحقيقة أنها كانت تجعل الدين مطيّة لبلوغ أهدافها القومية وهي التوسع والسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض وفرض الثقافة وحتى اللغة التركية على سكان المناطق الواقعة تحت سلطتهت..

 لكن مع مرور الزمان وبفعل تهالك الدولة بسبب تراكم الأخطاء والخطايا في قمة هرم الدولة، والإضطراب في اداء السلطة وسوء الإدارة من قبل السلاطين وولاتهم، وإحاطة الأعداء بالدولة من كل جانب، وتآمر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضدها، وتواطؤ العملاء مع المستعمرين المزروعين في داخل الكيان الإسلامي عبر المستشرقين والجواسيس المستعربين أمثال غلوب باشا ولورنس العرب ومستر همفر...

 بفعل هذا مجتمعاً،

 انهارت الدولة العثمانية ككيان، وألغي كل ارتباطها بالدين والثقاقة الإسلامية، وحتى الأحرف العربية التي كانت تُستعمل عند الأتراك مدة تسعة قرون تم استبدالها في العام ١٩٢٨ بحروف لاتينية وسُمّيت الخطوة بـ " الإنقلاب اللغوي "، وذلك كي لا تبقى أية صلة لتركيا بالشرق وتنقطع بالكامل الأواصر مع العالم الإسلامي، وأُغلقت المدارس الدينية، وأُلغيت المحاكم الشرعية، وصارت الفرائض الدينية الخمس لا تؤدى إلاّ في داخل المساجد، ويُمنع الإمام من الخروج من محراب المسجد بزيّ يدل على شخصيته الدينية والعلمية، وتمّ منع الصيام في شهر رمضان ومُنع حجاب النساء، وحتى أن أتاتورك قرر تحويل نسخة القرآن إلى اللغة التركية وفرض تلاوتها وقراءتها باللغة التركية..

العديد من العلماء عبروا عن رفضهم للقرار وقامت تظاهرات شعبية عارمة في مختلف المدن التركية شاجبة لهذا التوجه فقام أتاتورك باعتقال وإعدام الكثيرين منهم، ومن جهة أخرى صارت تركيا تتوسل بالغرب ليقبل بها عضواً في مجموعته، ويغمره الشعور بالفخر والإعتزاز كونه أصبح عضواً في حلف الناتو، لكن الدول الغربية كانت تختلق كل يوم أعذاراً لرفض الطلب التركي، وأعلن بعض زعمائها بصراحة مراراً أنهم لا يقبلون دولة إسلامية في عداد مجموعتهم!

 وكان قائد " تغريب " تركيا في حينه هو الماريشال مصطفى كمال الملقب بـ " أتاتورك " تارة و " الغازي " تارة والزعيم تارة، وهو الذي استطاع القضاء على آخر السلاطين العثمانيين السلطان عبد الحميد الذي اضطر للهرب إلى بريطانيا على متن سفينة بريطانية من دون أن يتمكن من أخذ شيء من الخزينة معه، بعدما أبلغه البرلمان التركي عام ١٩٢٢ قرار إنهاء السلطنة، وبعد عام من ذلك تم إعلان الجمهورية التركية الحديثة.

استغل أتاتورك السلوك المشين للحكام العثمانيين طوال قرون باسم الإسلام وتذمر الناس من مظالمهم وشيوع الأمية في عموم المجتمع التركي وانبهار النخبة المثقفة بالحضارة الغربية ليقوم بتكريس الطابع العلماني طبقاً للرؤية الغربية والمستند إلى النزعة التركية على الدولة الحديثة التي استمرت عقوداً.

فقام أولاً بفرض هذا التوجه على البنية العقائدية للقوات المسلحة التي كان ينتمي هو إليها والتي أنهكتها الهزائم في الحرب العالمية الثانية، حتى صار الجيش التركي يرى نفسه حامياً لـ " الثورة الكمالية " المتصفة بالعلمانية ومانعاً أي مساس بها وقامعاً لكل تحرك مناهض لها.

وفي ظل القبضة الحديدية للقادة العسكريين المتعاقبين على الحكم بصورة مباشرة أو من خلال رؤساء جمهورية مدنيين ينفذون تعليمات قيادة الجيش التركي استمر تكريس مبدأ القومية التركية المستندة إلى العلمانية الغربية المناوئة للدين حتى استطاع نجم الدين أربكان ذي التوجه الإسلامي من الوصول إلى الحكم جزئياً العام ١٩٧٤ عبر فوزه في الإنتخابات للمرة الأولى وحصول حزبه على ٥٠ مقعداً ما أدى إلى مشاركته في حكومة ائتلافية مع بولنت أجاويد وتعيينه نائباً لرئيس الوزراء، فحاول على وجل وبتحفظ العمل على إحياء بعض مظاهر الإلتزام الديني، لكن حراس العقيدة الأتاتوركية لم يتحملوا ذلك، وقام قائد الجيش كنعان إفرين بإنقلاب عسكري أطاح  بالحكومة الإئتلافية وتعطيل الدستور وحلّ كافة الأحزاب.

لكن أربكان بعد فوزه في انتخابات عام ١٩٩٥ وحصوله على ١٥٨ مقعداً في البرلمان من أصل ٢٥٥ ما أوصله إلى رئاسة الحكومة عام ١٩٩٦، بدا بنشاط أكبر لإعادة الحياة للشعائر الإسلامية لكن التطورات أجبرته هذه المرّة على الإستقالة من رئاسة الحكومة عام ١٩٩٧، ثم قام القضاء التركي بحلّ حزبه "حزب الرفاه " وثم اعتقاله بعد فترة وأودع السجن.

في الفترة الممتدة من العام ١٩٧٤ حتى العام ١٩٩٧ توسع توجه الشعب التركي للإلتزام بالشعائر الإسلامية على الرغم من كافة المحاولات من قبل العلمانيين وفي مقدمتهم الجيش، حتى فاز عبد الله غول التلميذ الوفي لنجم الدين أربكان والمتحالف مع رجب طيب أردوغان بالرئاسة التركية عام ٢٠٠٧ بعد ثلاث جولات انتخابية، على الرغم من معارضة الجيش والمحاولات العديدة للعرقلة من جانب العلمانيين.

بدأ نجم اردوغان يلمع منذ العام ١٩٨٩ بعد أن ترشح من قبل حزب " الرفاه الإسلامي " لمنصب رئيس بلدية في " باي أوغلو " لكنه خسر الإنتخابات، وبحلول عام ١٩٩٤ رشّح " حزب الرفاه الإسلامي " رجب طيب أردوغان إلى منصب عمدة إسطنبول، واستطاع أن يفوز في الانتخابات خاصة بعد أن حصل حزبه على عدد كبير من المقاعد، وقام أردوغان مع زميله في حزب " الرفاه الإسلامي " عبد الله غول عام ٢٠٠١ بتأسيس حزب " العدالة والتنمية " وتمكن الحزب من الفوز الساحق في الإنتخابات التشريعية عام ٢٠٠٢ وفاز منه ٣٦٣ نائباً مشكلاً بذلك أغلبية ساحقة، وترأس على أثره عبد الله غول الحكومة فقام عام ٢٠٠٣ بإسقاط التهم عن زميله أردوغان والتي تسببت في سجنه عام ١٩٩٨ ومنعه من العمل في الوظائف الحكومية ومنها الترشيح للانتخابات العامة، فتمكن عندئذٍ أردوغان من تولي رئاسة الحكومة.

ومنذ اليوم الأول لدخوله مكتبه في مبنى رئاسة الحكومة التركية عمل بجد لإعادة الحياة للصبغة الإسلامية لتركيا مستفيداً من تجارب أستاذه نجم الدين أربكان، وحذراً من تكرار الأخطاء السابقة وبالتنسيق الكامل مع عبد الله غول في مسيرة إعادة بوصلة تركيا نحو الشرق وإضفاء الصبغة الإسلامية عليها، لكن مسيرة اردوغان تضمنت تعرجات كثيرة وتناقضات في الأداء، لكن الواضح أنه يريد السير في طريق طالما عمل العلمانيون على محاربته، ويحاول إعادة المجد لتركيا العثمانية، ولذلك فهو يتحرك يوماً مع بشار الأسد وينقلب بسرعة ليقف إلى جانب دول الخليج والولايات المتحدة لإسقاط نظامه لكنه يُبقي على علاقة وقناة للتواصل مع النظام السوري، ويقول بأنه يساند الحكومة العراقية في حين يتعامل مع أقليم كردستان بمنأى عن الحكومة المركزية، وتقصف طائراته القرى العراقية بدعوى ملاحقة التنظيمات الكردية من دون مشورة مع السلطات العراقية، ويدخل قطر ليحمي نظامه من حلف السعودية والإمارات والبحرين ضده ويشكل فيها قواعد عسكرية تركية وهي الأولى في الخليج، ويشارك بجيشه والمرتزقة في ليبيا لدعم " حكومة الوفاق " ويبسط سلطته على مساحات شاسعة من البلاد ويبني فيها قواعد عسكرية، ويتحدى الولايات المتحدة بشراء منظومة s400 الروسية لكنه يحتفظ بقاعدة انجرليك العسكرية الأمريكية الإستراتيجية، ومعنى كل هذه التحركات مجتمعة أن أردوغان يريد العودة بتركيا إلى الساحة الإقليمية والدولية من الباب الواسع ويرفض التقوقع في الداخل والإنكماش على الذات.

 فهو يتحرش باليونان تارة وبألمانيا مرة مستفزّاً الدول الأوروربية مستغلاً ورقة طالبي اللجوء..

وفي العراق يستغل اضطرار إقليم كردستان لطريق للإتصال بالخارج بعيداً عن إشراف العاصمة فيبتزّهه ويدخل إلى الأراضي العراقية ساعة يشاء بذريعة ملاحقة عناصر  "حزب العمال الكردستاني"، ويعلن مساندته لجمهورية آذربيجان في مقابل أرمينيا بالأزمة الأخيرة ليبرر حضوره على أرض الجمهورية، وبؤكد دوماً على التحالف  المستمر مع الجمهورية الإسلامية في إيران ولكن يقوم من خلال هذه العلاقة بابتزاز الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً، ويقوم بمواجهة العدو الصهيوني في مناسبات مختلفة لكنه يحرص أيضاً على الحفاظ على العلاقات الوثيقة معه في نفس الوقت، والأمثلة من هذا النوع كثيرة.

ونقول في الختام أن تركيا الأردوغانية الحديثة تريد الإنقضاض بالكامل على تركيا الأتاتوركية القديمة، ويسير رجب طيب أردوغان بخطى ثابتة في سبيل تحقيق هدفه!

 وآخر تلك الخطوات هو قراره إعلان متحف آيا صوفيا مسجداً، والذي سبق أن أغلقه أتاتورك عام ١٩٣١ بعد أن كان مسجداً تقام فيه الصلوات منذ العام ١٤٥٣، وفي العام ١٩٣٥ تم إعادة فتحه على أنه متحف لا يحمل إسم كنيسة ولا مسجد، وإن ذهاب أردوغان سخصياً لأداء الصلاة في أياصوفيا بعد إعادة إعلانه مسجداً هو مسمار آخر في تابوت علمانية كمال أتاتورك.

إن سلوك رجب طيب أردوغان هذا يصطدم بقطبين في العالمين العربي والإسلامي طالما تنازعا مركزية العالم " السني " مع الأستانة في تركيا..

فمصر بعد انهيار الدولة العثمانية صارت من خلال وجود الأزهر الشريف فيه مركز القرار الفقهي للمذاهب الأربعة، ثم أضيف في أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن أصدر شيخ الأزهر المرحوم سماحة الشيخ محمد شلتوت فتوى ينص على الإعتراف بالمذهب الجعفري ( الشيعة الإثني عشرية ) مذهبا معترفاً به يجوز الإنتماء إليه كما باقي المذاهب، وأيضاً يمكن تدريس فقهه في جامعة الأزهر، والقطب الثاني هو المملكة العربية السعودية التي نافست منذ تأسسيها القاهرة في زعامة العالم " السني " بالإستناد إلى وجود المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف تحت سلطتها، ومن خلال الإمكانات المالية الهائلة التي تملكها قامت بتأسيس مؤسسات موازية للتي في العاصمة المصرية، ومع تراجع الدور المصري بعد وفاة الرئيس عبد الناصر ومن خلال بذل الأموال استطاعت المملكة العربية السعودية من إضعاف مركزية الأزهر وتكريس مركزية المؤسسات التي تخضع للقرار السعودي مباشرة وصراحة من من خلال وجود سعوديين في رئاستها أو من خلال رؤساء ينتمون إلى دول أسيرة للإملاءات السعوية بسبب حاجتها للمال أو بسبب تغلغل المجموعات السلفية والوهابية في أرجائها.

إن ما نشهده من كباش سعودي ـ مصري مع تركيا هو باختصار محاولة لإعاقة حركة طيب أردوغان نحو إعادة المجد لتركيا ذي الصبغة الإسلامية وهي التي هيمنت على الجزء الأكبر للبلاد الإسلامية لعدة قرون، فيما المملكة العربية السعودية التي تأسست على أنقاض السلطنة العثمانية تتخوف من إضعاف دورها، وتصطفّ مصر في هذه المرحلة إلى جانب السعودية لكنها في المستقبل سوف تعمل بجدّ على استرجاع مكانتها في العالم الإسلامي.

السيد صادق الموسوي

الوسوم