بيروت | Clouds 28.7 c

رؤية للحل في لبنان / بقلم السيد صادق الموسوي

 

مجلة الشراع 21 حزيران 2020

كثيرون لا يتذكرون مراحل ما قبل انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان منذ سبعينيات القرن الميلادي الماضي، وكيف أن هواة رئاسةالجمهورية من الموارنة قاموا بأعمال مختلفة وتشبثوا بكل وسيلة ورضوا بكل تبعية بغية تامين وصولهم إلى مبتغاهم، فبشاره الخوري الذي صار وزيراً للداخلية في عهد الإنتداب (الإستعمار) الفرنسي ثم تسلم رئاسة الوزراء مرتين برضى المفوض السامي الفرنسي، وهذا يعني الثقة الكبيرة للمستعمر بالرجل، ولما وصل إلى رئاسة جمهورية لبنان بعد الإستقلال تفشى في عهده  سوء الإدارة والفساد والرشوة ما أدّى إلى تظاهرات ضخمة ضده، لكنه على الرغم من ذلك حاول  بشاره الخوري التمديد لنفسه وإطالة فترة بقائه على الكرسي وقام بالتدخل السافر والتزوير في الإنتخابات النيابية عام ١٩٤٧ فعدّل النواب كرمى لعينيه الدستور استثنائياً عام ١٩٤٨ وأعادوا انتخابه لمدة ٦ سنوات جديدة، لكنه وتحت ضغط المعارضة والإضطرابات الواسعة والتي أدّت إلى العصيان المدني وبسبب القطيعة بين سورية ولبنان أيضاً أُجبر على الإستقالة عام ١٩٥٢ تحت الضغط الثورة البيضاء بقيادة كمال جنبلاط، وقدم كتاب استقالته لقائد الجيش فؤاد شهاب وكلّفه تشكيل حكومة عسكرية، وكميل شمعون أيضاً سبّب اشتعال حرب طائفية دامية العام ١٩٥٨ وذلك أيضاً لأجل تجديد فترة ولايته والبقاء أكثر فيمنصب رئاسة الجمهورية، واستدعى لحماية سلطته الأسطول الأمريكي السادس، ورضي باحتلال ١٤٠٠٠ جندي أمريكي ومن المارينز عاصمة بلده في سبيل قمع معارضيه. وكان في مقدمة معارضيه البطريرك الماروني المعوشي الذي اطلق عليه المسلمون اسم محمد المعوشي.

وجاء بعده اللواء فواد شهاب رئيساً للجمهورية وهو الجندي في الجيش الفرنسي عام ١٩٢٠، ثم القائد العسكري الفرنسي لثكنة " راشيا " عام ١٩٣٠، ثم الضابط في " قوات الشرق الخاصة " التابعة للجيش الفرنسي عام ١٩٤٢، ثم قائد الفرقة اللبنانية التابعة لـ " القوات الفرنسية الحرّة في الشرق " عام ١٩٤٤، ثم القائد المعيّن من قبل الإحتلال الفرنسي للجيش اللبناني بعد تأسيسه، ثم ترقيته إلى رتبة لواء وتعيينه قائداً للجيش اللبناني بعد انتهاء الإنتداب الفرنسي وطوال عهدي بشارة الخوري وكميل شمعون لمدة ١٣ سنة من ضمنه رئاسته للحكومة العسكرية عقب استقالة بشارة الخوري من رئاسة الجمهورية، وقد عيّنه شمعون وزيراً للدفاع مع احتفاظه بقيادة الجيش العام١٩٥٦، ثم تمت تسميته لرئاسة الجمهورية اللبنانية أمريكياً ومصرياً في عصر جمال عبد الناصر، وكان انتخاب مجلس النواب له في ٣١تموز ١٩٥٨، وصل شهاب إلى سدة الحكم حين كان جنود الجيش الامريكي الذين كانوا يحتلون لبنان ويُحكمون قبضتهم على العاصمة ويُسيرون في شوارعها الدوريات العسكرية.

 فانه وعلى الرغم من ان شهاب هو انزه وانظف رؤساء لبنان على الاطلاق وهو باني الادارة الحديثة، بعد تسلمه الرئاسة بسط سلطة الاستخبارات العسكرية ( المكتب الثاني) على لبنان ومنحها صلاحيات واسعة جداً حيث لم يعُد هناك حدود لتدخلاتها، وتحول هذا الجهاز المخابراتي عماد حكم شهاب وصار يلعب دور سلطة الظل أو السلطة الحقيقية.

 وتدخل شهاب عبر جهاز الاستخبارات  للسيطرة على المجلس النيابي، إذ قام ضباط المكتب الثاني بالتدخل السافر في دورة الإنتخابات النيابية عام ١٩٦٠ عبر التزوير حيث لم تنجح الضغوط، فآتت تدخلات المخابرات أكُلها في انتخابات عام ١٩٦٤ وتمُ إقصاء خصوم اللواء فؤاد شهاب من المجلس النيابي بالكامل، وفي هذه الدورة اكتسح الرئيس كامل الاسعد خصم شهاب المعروف الدوائر الانتخابية وشكّل كتلة نيابية من ٢٤ نائب نت اصل ٩٩.

 وفي ظل سلطة المكتب الثاني وبدعم صريح من اللواء شهاب ولأجل إكمال مشاريعه جاء انتخاب شارل حلو رئيساً للجمهورية عام ١٩٦٤،وهو الذي كان قد انتُخب نائباً عن بيروت عام ١٩٥١ بعدما مثّل لبنان لدى الفاتيكان من العام ١٩٤٦ حتى العام ١٩٤٩،  وتبوّء مناصب وزارية في عدة حكومات منذ ٦ تشرين أول ١٩٤٩ في عهد بشارة الخوري ثم في عهد كميل شمعون  ثم في عهد فؤاد شهاب حتى انتخابه رئيساً للجمهورية والذي استمرت فترته حتى عام ١٩٧٠.

وقد كان شارل حلو قبل هذا أحد المؤسسين لـ " حزب الكتائب " اليميني عام ١٩٣٦ إلى جانب بيار الجميل وثلاثة آخرين(والحزب السوري القومي) متأثرين بـ " الحزب النازي " في ألمانيا وحزب " الفالانج " في إسبانيا و " الحزب الفاشي " في إيطاليا، والذي خرج من بطنه في العام ١٩٧٦ " القوات اللبنانية " بقيادة بشير الجميل.

 وفي عهد شارل حلو بسطت الاستخبارات اللبنانية سلطتها في حياة الناس إلى أقصى الحدود وصار الرعب يخيم حتى على المعارضة خصوصاً بعد تعيين العميد غابي لحود رئيساً لـ "المكتب الثاني"، وزاد نشاط "حزب الكتائب" في عهد حلو الذي كان من مؤسسيه متكاملاً مع دور مخابرات الجيش اللبناني الذي كرس شهاب في عقول أفراده أنه هو مؤسسه وراعيه وصاحب القرار الأول والأخير فيه.

أما سليمان فرنجية الدي فاز بمنصب رئاسة الجمهورية اللبنانية عام ١٩٧٠ بفارق صوت واحد ضد مرشح "المكتب الثاني" إلياس سركيس الذي بُذلت محاولات حثيثة ليكون خلفاً لشارل حلو بعد انتهاء رئاسته من أجل ضمان استمرار النهج الشهابي لسنوات جديدة، فهو أيضاً لهقصته الطويلة؛ حيث أنه ورث أخاه عن دائرة زغرتا في الشمال حميد فرنجيه عام ١٩٦٠، وكان هذا منطلقاً له ليعبّد الطريق للوصول إلىرئاسة الجمهورية اللبنانية، حيث أنه تنقل في المناصب الوزارية بُعيد انتخابه نائباً بعد وفاة أخيه، فجاء وزيراً للبريد والبرق والهاتف في العامنفسه أي عام ١٩٦٠، ثم وزيراً للبريد والبرق والهاتف ووزيراً للزراعة أيضاً، وذلك في عهد اللواء فؤاد شهاب، ثم وزيراً للأشغال العامة والنقلووزيراً للداخلية ووزيراً للإقتصاد الوطني ووزيراً للعدل ووزيراً للتصميم العام في عهد شارل حلو، وجعل سليمان فرنجية من تلك المناصب سلّماً للوصول إلى رئاسة الجمهورية.

كانت العلاقة بين الرئيس فرنجيه والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد قد بدأت منذ سنوات مديدة، وذلك على أثر لجوء فرنجيه إلى المنطقة العلوية في مدينة اللاذقية في سورية وطلبه حماية "بيت الأسد" تحديداً، وذلك بعد إقدامه عام ١٩٥٧ وبسلاحه الفردي على قتل ٣٢ شخصاًمن المصلين أثناء جنازة في كنيسة بلدة مزيارة المتاخمة لزغرتا في شمال لبنان وذلك في صراع على الزعامة "الزغرتاوية"، حيث أدانتهالمحكمة بالجريمة وأصدرت بحقه حكم الإعدام، وظل سليمان فرنجيه فارّاً لحماية نفسه من وجه العدالة في سورية  حتى شمله العفو الرئاسي الذي أصدره اللواء فؤاد شهاب علم ١٩٥٨ فعاد إلى لبنان، وفي تلك المرحلة توطدت العلاقة الشخصية بين فرنجية والأسد وعائلتيهما...

بعد وصول فرنجيه إلى سدة الرئاسة في ١٧ آب عام ١٩٧٠ والذي تبعه وزير الدفاع السوري في حينه حافظ الأسد بانقلاب عسكري ضدالرئيس صلاح جديد في ١٦ تشرين الثاني من العام نفسه تحت إسم الحركة التصحيحية، والإمساك بالسلطة كاملة في سوريا بعد تسلمه رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الدفاع والنائب القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة سابقاً، وهنا أصبحت الفرصة مؤاتية لتجسيد العلاقة الوطيدة بين الرئيسين فرنجيه والأسد، حيث كان الدعم السوري الكامل للرئيس فرنجيه طوال عهده مقابل الأزمة المتصاعدة بينه وبين المقاومةالفلسطينية وتعهد الأسد بتأمين الحماية لفرنجيه مع بدء الحرب الأهلية اللبنانية، لكن لما اضطر الرئيس فرنجية للهرب إلى بلدة " الكفور " فيمنطقة كسروان بسبب استهداف مدافع القوات الفلسطينية و " الحركة الوطنية اللبنانية " القصر الجمهوري في بعبدا وتشكيله " الجبهة اللبنانية " بالتعاون مع بيار الجميل وكميل شمعون، بادر فرنجيه بصفته رئيس الجمهورية إلى طلب مساعدة سورية والتدخل العسكري في لبنان "لحماية المسيحيين"، وقد بلغ التودد المسيحي لسورية إلى حد إلى أن قال بيار الجميل مقولته المعروفه يومذاك وهي: "لولا الأسد لطلقنا العروبة ثلاثاً "، وحتى أنه تلفظ بالشهادتين ( أشهد أن لا إله الاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله ) في العاصمة السورية لكي يكسب العطفالشعبي بذلك؟

وكانت إستجابة الأسد لحليفه القديم سريعة، وكان الإحتفاء بالجيش السوري في " الأشرفية " كبيراً والترحيب به في " المناطق المسيحية " شاملاً؛ وبفضل المساندة السورية المباشرة استطاعت الميليشيات المسيحية من إسقاط مخيم "تل الزعتر" المعقل الرئيسي للمقاومة الفلسطينية في تلك المنطقة، واستمر التدخل حتى تمت السيطرة السورية على الساحة اللبنانية بشكل شبه كامل ما عدا منطقة الأشرفية معقل الميليشيات المسيحية.

واستمرت هذه العلاقة المتميزة بين الرئيسين السوري واللبناني حتى بعد انتهاء مدة رئاسة فرنجيه في العام ١٩٧٦، وبقي الحلف المتميز متيناً حتى ما بعد توقف الحرب والبحث عن إعادة تركيب السلطة بناءً على وثيقة اتفاق الطائف حيث طرح الرئيس الأسد اسم فرنجيه لرئاسة الجمهورية على الموفد الأمريكي ريتشارد مورفي، وأمام رفض الأمريكيين ذلك ومعارضة الطرف المسيحي إعادة فرنجية إلى قصر بعبدا لوّحالرئيس حافظ الأسد في لقائه مع الموفد الأمريكي المفاوض بإسمي الشيخ سعيد شعبان رئيس " حركة التوحيد الإسلامي " والسيد محمدحسين فضل الله المرشد الروحي لـ " حزب الله "، والذين طُرحا من قبل " الحركة الإسلامية " كمرشحين لرئاسة الجمهورية الإسلامية فيلبنان، وهذا الأمر لم يكن سرّاً بل تم نشره في الصحافة يومذاك.

أما الرئيس إلياس سركيس الذي تعين بأمر خاص من الرئيس فؤاد شهاب بعد تسلمه الرئاسة عام ١٩٥٨ رئيس غرفة في القصر الجمهوريثم تمّ تعيينه حاكماً لمصرف لبنان عام ١٩٦٨، ثم إنه ترشح للرئاسة كما أسلفنا وخسر أمام سليمان فرنجيه بفارق صوت واحد في العام١٩٧٠، لكن سركيس عاد إليها في العام ١٩٧٦ بمساندة كاملة من السوريين هذه المرة، حتى أنهم استبدلوا مقر مجلس النواب في وسطالمدينة بـ " قصر منصور " في خط التماس بمنطقة " المتحف "، وتحت القصف الكثيف على المحيط أدخل السوريين النواب محمولين بالملالات العسكرية السورية ومن خلال إيجاد ثغرة في الجدار الخلفي للقصر.

وتمّ تعيين الرئيس سركيس باقتراح سوري قائداً أعلى لقوات الردع العربية التي طالب بها الرئيس سليمان فرنجية قبل انتهاء عهده، والتي تمّ تشكيلها بقرار من القمة العربية غير المكتملة التي عّقدت في الرياض عام ١٩٧٦، ودعمت القرار القمة العربية التي انعقدت مكتملة بعدأسبوع في القاهرة.

لقد بدلت الأحزاب المسيحية موقفها الودّي مع سورية بعد انتهاء عهد حليفها القديم سليمان فرنجية وبعدما أنجزت القوات السورية سحق القوات الفلسطينية وتلك التابعة للأحزاب اليسارية، ونسي قادتها المواقف الإيجابية التي أعلنوها تجاه سورية، ورفضت " الحكومة اللبنانية " التمديد لقوات الردع العربية وطالبت بانسحاب سورية من المناطق المسيحية أولاً، ودخلت في معارك معها بمساندة من الكيان الصهيوني،وتوثق يوماً بعد يوم تحالف القوات المسيحية وعلى رأسها " القوات اللبنانية " بقيادة بشير الجميل مع الصهاينة حتى كان الإجتياحالإسرائيلي عام ١٩٨٢ وهزيمة القوات السورية ومعها قوات المقاومة الفلسطينية وتلك التابعة للأحزاب اليسارية والقومية، فتراجعت القواتالسورية إلى حدود منطقة البقاع، وانسحبت المقاومة الفلسطينية بقياداتها ومقاتليها من لبنان وصارت الساحة مستباحة أمام القوات اللبنانية والجنود الصهاينة.

وهذه المرة جاء دور بشير الجميل الطامع بدوره للوصول إلى رئاسة الجمهورية في لبنان  (داعياً الى اخراج كل القوى غير اللبنانية من لبنان) وهو الموالي لإسرائيل حتى العظم والذي قام بتسويقه الرئيس إلياس سركيس عربياً ذاهباً إلى العاصمة السعودية، وهذه المرة كان الإنتخابات تحت الحراب الصهيونية وفي ثكنة عسكرية وخارج العاصمة اللبنانية، وعمّت الفرحة الساحة المسيحية وشعر المسلمون عموماً بالمهانة نتيجة دخول لبنان في العصر الإسرائيلي من الباب الواسع، لكن بعد آيام قليلة من الإبتهاج انقلب الأمر فكان اغتيال بشير الجميل في١٤-٢-١٩٨٢ قبل جلوسه على الكرسي وتمّ ترشيح شقيقه أمين بدعم مباشر من حافظ الأسد الذي كان اول من هنأه هاتفياً بعد انتخابهمباشرة.

 لقد واجهت ثلة من العلماء المسلمين المؤامرة وحطمت حاجز الخوف ودعت إلى الإعتصام في مسجد الإمام الرضا عليه السلام في بئر العبدفي الضاحية الجنوبية، وتدخل الجيش اللبناني لمواجهة المعتصمين ما أدّى إلى مقتل محمد نجدي، وعلى الأثر تدحرجت كرة الثلج وصارتتكبر يوماً بعد يوم حتى أصبح قتال إسرائيل موضع تنافس بين التنظيمات القومية والوطنية واليسارية والدينية وصار الجهاد أمراً مرغوباً بعدأن كان عديم الفائده في اعتقاد الكثيرين، وسقط إتفاق ١٧ أيار  عام ١٩٨٣ المشؤوم بعد فترة قصيرة من التوقيع عليه من مجلس النواب وعاد النواب أنفسهم إلى التصويت على إلغائه تحت ضغط الحركات الجهادية، وبقي أمين الجميل يتخبط في سلوكه وتصرفاته وتتجاذبه الرياح الداخلية والخارجية، فتارة يعلن العداء لسورية ثم يرسل الموفدين لاسترضائها ومرة يقطع العلاقات مع الجمهورية الإسلامية في إيران ثميعيدها ويستقبل بكل حفاوة أول سفير لها، ويتحالف مع " القوات اللبنانية " ثم ينقلب عليها، وأخيراً لا يجد من يسانده في الساحة الإسلامية ويتقوقع في قصر بعبدا معزولاً حتى دقت ساعة انتهاء عهده، وميشال عون يجهد بما أوتي من قوة ليأتي رئيساً خلفاً له، ولأجل منع انتخاب غيره حال دون اكتمال نصاب النواب في جلسة الإنتخاب عبر قطع الطرقات وإيجاد العراقيل، ما فرض على أمين الجميل في الدقائق الأخيرة تعيينه رئيساً للحكومة بستة أعضاء كلهم ضباط في المجلس العسكري، لكن المسلمين منهم أعلنوا استقالتهم منها فور إعلان أسمائهم، أما عون فقد أصر على تشبثه بالمنصب ودخل في سبيل ذلك في حروب داخل الصف المسيحي وضد الأطراف الإسلامية في غربي العاصمة وكذلك  ضد سورية، لكن دوره انتهى صبيحة يوم ١٣ تشرين الأول عام ١٩٩٠ بعد أن دمرت طائرات عسكرية سورية قصربعبدا على رأس ساكنه فاضطر للهرب واللجوء حافياً إلى السفارة الفرنسية، وبعد الأقامة لمدة ١١ شهراً فيها سُمح له بالمغادرة إلى فرنسا.

أما رينه معوّض فإنه كان نائباً في المجلس النيابي الذي انتهت صلاحيته الدستورية في العام ١٩٧٦، لكنه مدد لنفسه حتى العام ١٩٩٢،وهو الذي تمّ انتخابه من قبل زملائه في مطار " القليعات " العسكري المهجور في شمال لبنان بعدما حطت فيه طائرة قادمة من الطائف تحمل نواب المجلس النيابي اللبناني الذين وافقوا على وثيقة الطائف، وقاموا على عجل بانتخاب معوّض رئيساً وغادروا على الفور خوفاً منتعرض مكان اجتماعهم لقصف مدفعي من جانب ميشال عون الذي كان معارضاً شرساً لاتفاق الطائف جملة وتفصيلاً، لكن سرعان مااغتيل معوض بعد ١٧ يوماً من انتخابه قبل أن ينعم بالمنصب.

أما إلياس الهراوي فإنه نال الرئاسة بالصدفة عقب اغتيال رينه معوض، وتم انتخابه في فندق في مدينة "شتورا" البقاعية، ولم يجد الرئيس المنتخب مكاناً لإقامته سوى ثكنة "أبلح" العسكري الخاضع كلياً للجيش السوري، وهو كان فاقداً لأدنى مقومات الرئاسة فلا ميزانية  مالية لديه ولا سلطة ولا مؤسسات منسجمة يمارس سلطته من خلالها، بل كل الإمرة لسورية عبر رئيس جهاز استخباراتها في لبنان العميد غازي كنعان ومقره في قرية "عنجر" في البقاع قرب الحدود السورية، أما المال فأن رفيق الحريري هو الذي كان يخصص له شهرياً مبلغ عشرةالاف دولار اميركي١٠٠٠٠ $ ثم زاد المبلغ بعد ذلك لما انتقل إلى بيروت ليصبح ٣٥٠ ألف دولار شهرياً واتخذ مقرّاً له في منزل خصصه له الحريري في منطقة الرملة البيضاء، وهو بقي في المكان حتى أعاد الحريري بماله بناء القصر الجمهوري في "بعبدا" الذي أصابته أضرارجسيمة يوم ١٣ تشرين ١٩٩٠ بعد قصف الطائرات الحربية السورية له، وبطلب من الحريري تم تعديل الدستور استثنائياً وكان التمديدللهراوي لمدة ثلاث سنوات. لتأخير وصول أميل لحود للرئاسة.

أما إميل لحود فإنه تنقل في المناصب حتى صار رئيساً للأركان ومرافقاً لقائد الجيش اللبناني حتى عام ١٩٧٣، ولقد عُيّن عام ١٩٨٩ من قبل إلياس الهراوي قائداً للجيش المنقسم ومنافساً لميشال عون الذي كان قائداً قبل أن يضمّ إلى منصبه رئاسة الحكومة الإنتقالية البتراء، وهوقاد بعض من وحدات الجيش اللبناني يوم ١٣ تشرين ١٩٩٠ مع القوات اللبنانية بقيادة إيلي حبيقه ومجموعات من حزب الله بعد قصفالطيران الحربي السوري للتقدم نحو القصر الجمهوري الذي كان يتحصن فيه ميشال عون، وبعد إثبات لحود كامل ارتهانه للرغبة السورية والتزامه بتعليمات رئيس الاستخبارات  السورية في لبنان العميد غازي كنعان تمّ انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية، وبعدما شارفت مدةرئاسته القانونية على الإنتهاء تم تعديل الدستور مرة أخرى استثنائياً أيضاً للتمديد له لمدة ثلاث سنوات إضافية تقديراً لخدماته الصادقة.

أما ميشال سليمان فإنه كان في جميع مراحل حياته العسكرية في الظل بعيداً عمن هم في  السلطة والنفوذ حتى بلغ قيادة الجيش اللبناني الذي أعاد بنائه إميل لحود بعد توحيد ألويته وتحت سيطرة الاستخبارات  السورية وبإشراف مباشر من رئيس جهاز الاستخبارات  العميدغازي كنعان، وقد أثبت جدارته بتنفيذ التعليمات بدقة طوال فترة قيادته للجيش منذ العام ١٩٩٨ حتى العام ٢٠٠٨، وبعد انتهاء فترة لحودوحصول فراغ في موقع الرئاسة ودخول لبنان في أزمات متعددة كبيرة واجتماع مختلف الأطراف في العاصمة القطرية والإتفاق على مايعرف باتفاق الدوحة القاضي بتقاسم السلطات بناء على وقائع جديدة أعقبت الإنسحاب السوري من لبنان، وبعد تقديم ميشال سليمانتعهدات مكتوبة لقيادة حزب الله بالتزام التوجه العام لخط المقاومة وتعهدات أيضاً لقيادات أخرى كانت حاضرة في قطر، تمّ التوافق عليه ليكون رئيساً للجمهورية اللبنانية، لكنه بمجرد جلوسه على الكرسي بدأ يراوغ في الوفاء بتعهداته حتى انقلبت المعادلة الذهبية الجيش الشعبوالمقاومة التي كان يتغنى بها ميشال سليمان معادلة خشبية بعد أن زار المملكة العربية السعودية قبيل انتهاء مدة رئاسته.

أما ميشال عون الذي أقام في فيلا في ضاحية العاصمة الفرنسية بعد خروجه الذليل من لبنان مدة ١٥ سنة، ومن هناك بدأ بالتحرك من أجل تأليب الأجواء الدولية ضد سورية، حيث حضر إلى واشنطن وحرض المشرعين الأمريكيين ضد سورية وقام بإعطاء شهادة أمام أعضاء اللجنةالفرعية الخاصة بالشرق الأوسط في الكونغرس بأن سورية هي وراء إشعال الحرائق في لبنان، ما أدى إلى صدور قانون تحت إسم قانونمحاسبة سورية، وبالخلاصة فإن ميشال عون تحرك في كافة الإتجاهات دون تمييز من أجل تحقيق غايته وهي الوصول لرئاسة الجمهوريةبأي ثمن.

ويعد عودته إلى لبنان عام ٢٠٠٥ بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري والإنسحاب السوري من لبنان وتناغمه لفترة مع باقي قوى ١٤ آذارووصوله إلى يقين بأنها لا تؤمّن له الدعم الكافي لنيل المبتغى تحول ميشال عون إلى المقلب الآخر وتحالف مع حزب الله الذي أكد له ضمانتحقيق  حلمه، وكانت التظاهرات والإعتصامات واستعمال مختلف وسائل الضغط حتى حقق ميشال عون حلمه القديم ونودي باتفاق جميعالفرقاء فخامة رئيس الجمهورية بعد ما كان يخاطبه بذلك أنصاره فقط.

أما اليوم فإن صهره جبران باسيل الذي بدوره يطمح للجلوس على كرسي الرئاسة بعد انتهاء مدة والد زوجه، وميشال عون الذي يعمل للبقاءفي السلطة فترة جديدة ولكن عبر صهره المدلل،  فإنه من أجل تسويق نفسه يعمل باسيل على إطلاق مواقف عنصرية للغاية ويتقمص دوربشير الجميل لاستجلاب عواطف المسيحيين، ويتودد من جهة أخرى مع حزب الله ليؤمن مساندته في مسيرته نحو بلوغ رئاسة الجمهورية،واللبنانيون يكتوون بنار الغلاء الفاحش وأنواع الضغوط وانهيار الإقتصاد وفقدان العملة اللبنانية قيمتها واعلان الدولة إفلاسها كل ذلكمقدمة لبلوغ جبران باسيل غايته وتحقيق أمنيته كما كان أسلافه يفعلون كل شيء ويتحالفون حتى مع الشيطان الرجيم للوصول إلى كرسي الرئاسة.

إن خلاصة الأمر أن لبنان هذا لا يمكن أن ينعم بالسلام وينتعش بالرفاهية ويذوق شعبه طعم السعادة مادام الواقع كما أسلفنا رهينة لأناسلا يؤمنون بالشعب أصلاً ولا يمتّون بأي صلة بمصالحه بتاتاً، بل إن الذين ترأسوا لبنان يسترضون الخارج بدءاً من المفوض الساميالفرنسي، أو يستجلبون الأسطول الأمريكي، أو يتوسلون بقمع الاستخبارات لتدعيم سلطتهم، أو يرتكبون مجزرة لتكربس زعامتهم ويأتونبعصاباتهم فيحيطون بالمجلس لإرعاب النواب وإجبارهم على انتخاب فرنجيه، أو يتضرعون أمام سورية كي تدخل بكامل ثقلها لتأمين فوزهم،أو يتحالفون مع الصهاينة المجرمين لكسب جولتهم، أو يقدمون لبنان على طبق من ذهب عبر اتفاق الذل لتكريس حكمهم، أو يتقلبون منأقصى اليمين حتى أقصى اليسار ويتحولون من مهددين بقصف العاصمة السورية واستهداف قصر الرئاسة فيها بصواريخ مهداة منصدام حسين إلى التودد لها والزيارة إلى عاصمتها، ولا يبالي أن يقصف بقنابله الضاحية الجنوبية ومقر قيادة حزب الله في بئر العبد ثميعقد تحالفاً وثيقاً معه في كنيسة مارمخايل في الشياح تضمن له الفوز بالرئاسة.

ولا ندري ماذا يجول في فكره اليوم وهو في السنتين الأخيرتين من عهده، وكيف يمكن للبنانيين البقاء رهائن لأهواء الطامعين وتقلبات الخائنين وتحالفات المتاجرين بمصير الشعب المسكين ؟!

إن الهرم إذا لم يستقر على قاعدته لا قرار له حتماً، ومادام يُراد خلافاً للمنطق إيقاف الهرم على رأسه فإنه لا بد من جهد دائم للحفاظ علىتوازنه وبصعوبة كبيرة، وهذا حال لبنان الذي سلّم المستعمر الفرنسي زمامه لأيدي عملاء مخلصين له تشربوا حبه، وأُغرموا بثقافته، ويقيمون الصلاة كل عام على نيته، ويرونه أمّاً حنوناً يتوسلون دوماً رضاها، ولا يتصورون يوماً الإستقلال عنه والخروج عن إرادته، وإذا استعادت أكثرية الشعب الثقة بنفسها التي فقدتها، وآمنت بقدرتها على منافسة أقلية مرتهنة في استلام السلطة عبر أكفاء مخلصين لا يرون ضرورة استجلاب الأساطيل والجيوش من كل اتجاه لتأمين وصولهم أو لتكريس سلطتهم أو لردع معارضيهم عنهم، وهذا ما يضمن في اعتقاديالحل الثابت، والإستقرار الدائم؛ ولبلوغ هذه الغاية الثمينة وتحقيق هذا الهدف الرفيع لابد أن يتخلى المسلمون عن الشعور بالدونية عن غيرهم ويرفضوا القبول بفضل غيرهم عليهم والإيمان حقاً بأن لبنان لكل اللبنانيين دونما تمييز بين طائفة وطائفة ولا احتكار لموقع من قبل مذهب أودين، ولا استئثار لأي فريق بالمناصب العليا بصورة دائمة، وأن الملاك دائماً يكون الإعتماد على الشعب دون الأجنبي بعيداً كان هو أو قريباً،والحرص على تأمين مصالح المواطنين دون الآخرين، وأن يكون الحاكم يخاف الله رب العالمين.

السيد صادق الموسوي

 

الوسوم