بيروت | Clouds 28.7 c

معنى "الفتنة" / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 12 حزيران 2020

تستعمل كلمة " الفتنة " بين الحين والآخر كلما برز اعتراض من طرف على أمر لا يروق لمن بيده الأمر، فتارة تُتهم جماعة في قرية إذا أبدت اعتراضاً على سلوك مختار أو رئيس بلدية، فيتهم المختار أو رئيس البلدية المعترضين بأنهم دعاة فتنة، وعلى مستوى المدينة أيضاً إذا رفع أهلها أصواتهم بسبب الضنك من المسؤولين فيها فإنهم يُتهمون بإيجاد فتنة، وفي إطار أوسع أي على مستوى الوطن حينما يرفع الشعب المضطهد صوته مطالباً الحكام بحقوقه يسارع رجال السلطة إلى اتهام أصحاب الحقوق بأنهم دعاة فتنة ليبرر بذلك الحاكمون لأنفسهم مجابهة الشعب المظلوم وتوجيه السلاح إلى صدور طلاب العدالة؛ أمام هذا الواقع الذي نشاهد نماذج منه في بلاد مختلفة، لا بد أن نفهم أساس معنى " الفتنة "، ثم نرى أين تُستفاد هذه الكلمة في مكانها وأين تُستعمل افتراءً للوصول إلى مقاصد باطلة وأهداف خبيثة.

إن كلمة الفتنة في اللغة لها معان عديدة تختلف حسب موقع ورودها في الجملة وفي السياق، فقد وردت الفتنة بمعنى الإختبار في قوله تعالى: ( أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون، ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين )، وفي مجال أوسع من إطار الإيمان إلى رحبة الحياة يخاطب الله البشر عموماً بقوله: ( ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة )، وورد أيضاً بمعنى التحويل والصرف عن شيء إلى غيره كما ورد في الآية الكريمة؛ ( يا بني آدم لا يفتننّكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة )، وكذلك في الآية الكريمة مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وآله: ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً )، وأيضاً جاءت كلمة الفتنة بمعنى العذاب كقوله تعالى: ( واتقوا فتنة لا تُصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )، وفي بيان حال بني إسرائيل: ( على خوف من فرعون وملأهم أن يفتنهم )، لكن المشهور والمتعارف في واقعنا هو معنى طرح أمور تسبب التفرقة بين الناس وتشحن النفوس بالعداوة والبغضاء من خلال استفزاز فئات في التعرض لما ومن يحترمون أو يقدسون، وذلك عبر أشخاص مدسوسين لا يعرفون مخاطر ما يفعلون أو أنهم يتعمدون الإضرار بأخوانهم خدمة لأعدائهم وخلق أزمة في بلادهم ليستفيد منها المتربصون شراً بها وبهم، وقد وردت آيات بهذا المعنى للفتنة منها: ( وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ) وفي آية أخرى ( … أكبر من القتل )، ولقد جاءت كلمة الفتنة في كلام لأمير المؤمنين عليه السلام إذ يقول في إحدى خطبه: " أنا فقأت عين الفتنة، ولو لا أنا ما قوتل أصحاب الجمل ولا أهل صفين ولا أهل النهروان "، إذ نشبت تلك الحروب الطاحنة وأريقت أنهر من دماء المسلمين وقتل عشرات الألوف ممن أرادهم الله إخوة متحابين نتيجة إثارة فتن بادعاءات زائفة وذرائع واهية وأدّت إلى تشرذم الأمة الإسلامية إلى نِحَل ومذاهب نحن نعاني من آثار تلك الفتن حتى اليوم، ولا نزال نكتوي نحن بنارها رغم مضي آلاف السنين، وما يثيره بين الفينة والأخرى أعداء المسلمين عبر عملائهم المندسين والجهلة الغافلين من أمور تنكأ الجراح القديمة وتذكي النيران الخامدة وتثير الأحقاد الدفينة وتدغدغ العواطف الكامنة وتؤلّب هذه الطائفة المسلمة على الأخرى مثلها ويردّ السذّج على دلك برد انفعالي يؤدي إلى ثورة العصبيات عند العوام وتتشاحن القلوب وتتنافر النفوس وتتحضر الأجواء لحرب ضروس، ويصبح من أرادهم الله خير الأمم مضحكة أمام الشعوب ومسخرة أمام البشر.

 لكن بلاد الغرب يتحدون رغم اختلاف اللغات والثقافات والطوائف ونُظُم الحكم ويزيلون الحدود بين الدول فلا تكاد تعرف حدود هذه الدولة من غيرها،  ويتنقل المواطنون فيها طولاً وعرضاً من دون أي عوائق وإجراءات، فيما بلاد العرب مع اشتراك لغتها وادعاء معظم الدول فيها اعتناق الإسلام فإنها تضيّق الخناق كل يوم أكثر على شعوبها وتخلق كل يوم مزيداً من الحواجز لتحول دون تلاقيهم، وتبتدع كل يوم أسباباً للتخاصم فيما بينهم وتتجزأ كل فترة الدولة الواحدة إلى دول والشعب الواحد إلى فِرَق، ثم نأتي إلى إطار أوسع حيث الدول التي رغم تعدد لغاتها لكنها تسمى إسلامية، فلا تجد إلاّ الخصومة بينها والتنافر سائداً بين حكامها، والحروب متنقلة بين أجزائها، والتشدد في إجراءات العزل من قبل سلطات الدول متواصلة، وإمكانية تجول إخوة الدين في أرجاء بلادهم الإسلامية شبه معدومة، والعوائق في وجه السائحين في أكنافها كثيرة، ونظرة مواطن كل بلد إلى أخيه من دولة أخرى مريبة، وبأدنى ذريعة يتخاصم الحكام وهم يدعون أخوّة الإسلام، وفي ليلة ظلماء ودون سابق إنذار تُشنّ الحروب فتُراق دماء حزمها الدين، وتُشنّ غارات مدمرة من كل طرف على مدن وقرى المسلمين في البلد الآخر فتقتل النفس التي حرّم الله بالعشرات والمئات، وتهدم على رؤوس الأبرياء المنازل والبنايات، وكلُ يفتخر بما فعل ويباهي بما أجرم، بل تنطلق غارة كلٍ على الآخر بجملة " على بركة الله "، ويبدأ ذبح المسلم لأخيه المسلم بكلمة " الله أكبر "، وهذا يتهم الآخر بالكفر وذاك ينعت أخاه بالإرتداد، كل ذلك لأن الفتنة قد فعلت فعلها بين الأمة، والمنافقون يمسكون بزمام أمرها، والمخلصون معزولون عن إبداء النصح، والعلماء الصادقون محجوبون عن أداء دورهم.

إن روّاد الفتنة ومثيروها بين الأمة الإسلامية تارة وبين أبناء المذهب الواحد تارة وبين هذه الطائفة وتلك حيناً وبين هذه القومية وغيرها مرات يجلسون خلف الستار، ويدفعون عملاءهم المأجورين الذين يبدون على المنابر متحرقين على الدين، فيثور بخطابهم السذّج الغافلون عن كيد الماكرين، ويجرّ هؤلاء الحشود خلفهم هائجين، فتتقاتل الأمة على موسيقى يعزف أنغامها الأعداء، ويتحكم بمسارها المتآمرون، فينجح المستعمرون ويحتلون البلاد وينهبون الثروات والأنظار منحرفة عنهم إلى أمور لا طائل تحتها، وخلافات لا فائدة منها، ولمّا يتجاوز الثائرون الحد المرسوم لهم أو تغيير الوجهة المعينة لحركتهم أو إن تلكّأوا في اتّباع تعليماتهم أو التردد في التوجه إلى حيث يأمرون به، عندئذ يوصف المجاهدون حتى الأمس أنهم إرعابيون، وتنقلب الدعوات على المنابر لينصرهم الله إلى التوسل لرب العالمين بدموع منهمرة ليخذلهم ويُنزل عليهم العذاب المهين، ولا يبقى للذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم وخانوا أمتهم لخدمة عدوهم الا الخزي في الدنيا ولهم في الأخرة عذاب أليم.

السيد صادق الموسوي

 

 

الوسوم