بيروت | Clouds 28.7 c

" صفقة اثنين بواحد " ودلالاتها / بقلم السيد صادق الموسوي

" صفقة اثنين بواحد " ودلالاتها / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 5 حزيران 2020

في غضون أيام قليلة أطلقت سلطات الولايات المتحدة سراح اثنين من الإيرانيين اعتقلتهم باتهام تسريب معلومات مهمة إلى الجمهورية الإسلامية في إيران وحاكمتهما وحكمت عليهما بالسجن، وفي المقابل أطلقت السلطات القضائية الإيرانية سراح أمريكي من البحرية الأمريكية اعتقل في إيران وحاكمته المحكمة الإيرانية وحكمت عليه.

ليس مهماً التدقيق في تفاصيل المحاكمات سواء الأمريكية أو الإيرانية والإتهامات الموجهة للمعتقلين ومدى حقيقتها وكذبها، بل المهم التمعن في دلالات سلسلة تبادل المعتقلين بين إيران وأمريكا في عهد دونالد ترامب بالخصوص، فالرئيس الأمريكي يستيقظ في الصباح وعلى لسانه التهجم على إيران، ويبقى طوال اليوم يلهج باسم إيران مطلقاً التهديدات ومعلناً مزيداً من العقوبات، وفي المساء أيضاً يبقى يردد إسم إيران متوقعاً سقوط النظام الإيراني خلال أيام، لكن الحقيقة أن همّه الأوحد من تضييق الخناق على الجمهورية الإسلامية إلى أقصى حد كما صرح به براين هوك  ممثل الولايات المتحدة بشأن إيران هو كي تضطر الأخيرة للجلوس حول طاولة المفاوضات ولو لأخذ صورة تذكارية فقط مثل ما حصل مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، لكن ولايته الأولى أوشكت على الإنتهاء ولم يحصل على أمنيته مع الجمهورية الإسلامية، وأمله في الحصول على مكتسب في بلد بديل ككوريا الشمالية قد خاب أيضاً، واستطاع الزعيم الكوري الشاب جرّ الرئيس الأمريكي المتعجرف الذي يرى نفسه الأذكى في العالم إلى حيث يرضى به هو ثم يُعيده خالي الوفاض إلى واشنطن لـ " يتمسخر " عليه الأمريكيون والعالم كله، وفي خضم التصريحات النارية للرئيس الأمريكي وأركان إدارته ضد النظام الإيراني قد تمّت عمليات متعددة لإطلاق سراح عدد من المعتفلين الإيرانيين في الولايات المتحدة وطبقاً لـ " الرغبة الإيرانية "، فلا يخرج الأمريكي من إيران إلاّ بعد مغادرة المعتقل الإيراني أراضي الولايات المتحدة ووصوله إلى مطار الإمام الخميني الدولي في طهران، وفي السابق حصلت عدة عمليات مشابهة لكنها كانت عادة واحد في مقابل واحد، إلاّ أن ما حدث قبل أيام قليلة يدل على تطور في القوة الإيرانية في التعامل مع خصمها اللدود أمريكا حيث أرسلت ٥ ناقلات نفط إلى فنزويلا مخترقة الحصار الأمريكي على نظام مادورو ولا يعترض طريقها أي من القطع البحرية الأمريكية التي مهمتها تطبيق قرار فرض الحصار البحري على فنزويلا، وهذا يعني قدرة إيران على كسر شوكة الإستكبار الأمريكي في أقرب منطقة جغرافية إليه والدخول إلى عقر داره والحديقة الخلفية له والتي لم يجرؤ أحد من قبل على تحدي الولايات المتحدة في تلك المنطقة، وقبل ذلك تمكنت إيران من التغلب على كافة المحاولات الأمريكية لعرقلة وصول ناقلة النفط إلى سورية، وقد فشلت كل جهودها في وقف حركة الناقلة الإيرانية ثم عملت ما يشبه المستحيل لإيقاف الناقلة في منطقة مضيق طارق وتعاونت مع بريطانيا التي تسيطر على المضيق لاحتجازها، لكن احتجاز إيران لناقلتي نفط بريطانيتين في الخليج أجبرت لندن على الرضوخ وإطلاق الناقلة الإيرانية لتتابع سيرها في البحر الأبيض المتوسط، وبعد الفشل الذريع في الخطة تلك وجهت الولايات المتحدة تهديدات كبيرة وإنذارات أكيدة للدول في كامل منطقة البحر الأبيض المتوسط إذا هي قدمت خدمات او وقوداً للناقلة الإيرانية متوقعة نفاد الوقود وتعطلها في وسط البحر، لكنها أكملت طريقها ولم تحتج لأي وقود حتى وصلت إلى ميناء طرطوس وأفرغت حمولتها كاملة رغماً عن إرادة أمريكا، وكانت تلك الخطوة " بروفة " للخطوة التالية فهذه المرة لم تعد ناقلة النفط واحدة بل ارتفع العدد إلى خمسة والوجهة لم تعد سورية البعيدة جغرافياً عن الولايات المتحدة الأمريكية بل في القارة الأمريكية نفسها وفي منطقة تُعدّ منطقة النفوذ لأمريكا وحدها، وكذلك تمّ هذه المرة خرق الحصار البحري الأمريكي المضروب حول فنزويلا وعلى مرأى من قطع البحرية الأمريكية المنتشرة في المنطقة وفي ظل سلسلة من التهديدات من كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية السياسيين والعسكريين بمنع وصول الناقلات إلى فنزويلا والحؤول دون تخفيف أزمة الوقود الحادة للمواطنين هناك، لكن التهديدات تلك ذهبت هباءً وقطع البحرية الأمريكية وقفت تتفرج على ناقلات النفط الخمس تدخل واحدة تلو أخرى إلى المياه الإقليمية الفنزويلية وترسو في المرافي المحددة وتفرغ حمولتها ثم تعود أدارجها دون أية عراقيل، وبعد مرور أيام فقط على نجاح عملية كسر الحصار على فنزويلا تطلق الولايات المتحدة سراح معتقل إيراني زاعمة أن ليس في الأمر تبادل مع إيران، لكن بعد بومين فقط تطلق سراح إيراني آخر معتقل لديها وبعد التاكد من مغادرة الإيراني الولايات المتحدة تطلق السلطات القضائية الإيرانية سراح المعتقل الأمريكي لديها ويخرج الرئيس الأمريكي ليشكر بحرارة السلطات الإيرانية ممنّياً نفسه أن تكون العملية خطوة في طريق التقارب مع إيران، لكن الحقيقة أن العملية كانت "اثنين بواحد" مذلّة للإدارة الأمريكية، فمقابل معتقلين إيرانيين تطلقهما أمريكا تطلق إيران معتقلاً واحداً، وبعد إرسال ناقلة نفط واحدة إلى سورية تحدياً ترسل خمس ناقلات إلى فنزويلا في تحدٍ أكبر.

وتسارع الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة إثر مقتل المواطن الأسود جون فلويد على يد الشرطي الأبيض أظهرت هشاشة كيان هذه " القوة العظمى "، وتبين كيف أفلت الزمام بسرعة قياسية من أيدي الإدارة الأمريكية بكل أركانها، وانتشرت التظاهرات الشعبية الضخمة في مختلف الولايات كانتشار النار في الهشيم وعجزت الشرطة بكل قوتها وجبروتها عن الصمود أمام الحشود الغاضبة فمنهم من انضم إلى المتظاهرين متعاطفاً معهم ومنهم من فرّ هارباً لما رأى الجماهير الحاشدة، وقرر ترامب الإستعانة بالحرس الوطني لقمع "المخربين" لكنه لم ينجح أيضاً في إخماد نار الثورة العارمة ضد العنصرية البغيضة، وتوسل بالجيش الأمريكي الذي به يهدد دول العالم لكن حكاماً للولايات وأعضاء في مجلسي النواب والشيوخ رفضوا مواجهة الجيش للشعب حتى أن رئيسة مجلس النواب قامت بتحدي الرئيس وشاركت بنفسها في التظاهرة، وأدان وزير الدفاع السابق أسلوب ترامب في التعامل مع الأزمة، ورفض صراحة وزير الدفاع الحالي أيضاً تأييد قرار رئيسه في الإستعانة بالجيش، وحتى عمدة العاصمة واشنطن طلبت من العسكريين القادمين من خارجها بالخروج فوراً، وبان بوضوح التخبط لدى المسؤولين في كافة المؤسسات الأمريكية وعجزهم عن مواجهة معضلة طالما تباهت الولايات المتحدة أنها تجاوزتها منذ عقود، لكن تبين أن التمييز العنصري لا يزال متجذراً لدى البيض تجاه مواطنيهم السود، وتبخرت شعارات المساواة وتبين كذب احترام حقوق الإنسان، ورأى العالم بالصوت والصورة وحشية التعامل مع الإنسان في بلد يدعي المثالية في الإلتزام بالقيم الإنسانية وهو يصنف دول العالم بين ديمقراطية وديكتاتورية، ويوزع شهادات حسن سلوك على هذا دون ذاك، وأخيرا "ذاب الثلج وظهر المرج" كما يقول المثل، وانكشفت حقيقة الشعارات الزائفة التي ترفعها الولايات المتحدة والمواقف المتناقضة التي تتخذها الإدارة الأمريكية.

وأمام هذه الحقائق الدامغه أمامنا والمشاهد القاطعة قدامنا فإن من له أدنى درجة من العقل إذا أمعن النظر قليلاً ثم استعاد سريعاً شريط المسيرة الطويلة من الصراع بين الجمهورية الإسلامية في إيران والولايات المتحدة الأمريكية منذ انتصار الثورة الإسلامية العام ١٩٧٩، فإنه يكتشف بوضوح كامل كذب التهويلات الأمريكية ويشاهد بوضوح أيضاً تسارع التطورات في ميزان القوة الإيرانية.

السيد صادق الموسوي

الوسوم