بيروت | Clouds 28.7 c

الإمام زين العابدين  جدُّ السلالة الحسينية /  بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 20 ايار 2020

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرّجس أهلَ البيت ويُطهركم تطهيرا} سورة الأحزاب.

لا يختلف مؤمنان بما فضَّل اللهُ أهلَ البيت وأكرمهم به من الشرف وبما خصَّهم من قرابة أفضل خلقه سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم فهم نجومٌ يضيئون للسالكين فيرشدونهم إلى سُبل النجاة، سَعِد من والاهم واهتدى بهديهم وخاب من عاداهم وأعرض عن هداهم، ومن هؤلاء الأئمة العظام إمام لمع اسمه في سماء المجد كثيرًا ما نسمع ذكره ونستشهد ببعض أقواله وأفعاله عنيت به السجَّاد زين العابدين عليه السلام وها نحن نبُثُّ بعض مناقب هذا السيد العظيم للناس ليستفيد طلاَّب الخير من شمائله الحميدة.هو الإمام الكبير والعابد الجليل علي بن الإمام الحسين الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام حفيد فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه سلامة وقيل: غزالة بنت كسرى يزدجرد (ملك الفرس)، وُلد بالكوفة سنة ثمان وثلاثين للهجرة، وإنما لُقِّب بزين العابدين لكثرة عبادته وبالسَّجَّاد لكثرة صلاته. ونزل كربلاءَ مع أبيه الحسين عليه السلام وهو يومئذٍ فتىً وكان مريضًا فانتهى البُغاة إليه وأرادوا قتله فاعترض بعضهم وقال: سبحان الله أتُقتلُ الصبيان فتركوه، وكُلُّ عقبِ الحسين عليه السلام منه.

بعض مناقبه

لقد أمسك الإمام زين العابدين بالمجد من جميع أطرافه علمًا وعبادةً وحِلمًا وكرمًا وزهدًا ونسبًا كما شهد له بذلك الأكابر ممن عاصره وعرفه وهذه شهادات بعضهم فيه: جاء في "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن الزهري قال: "لم أر هاشميًا أفضل من علي بن الحسين وما رأيتُ أحدًا كان أفقه منه". وفيه: أن رجلًا قال لسعيد بن المسيب: "ما رأيت أورع من فلانٍ. فقال سعيد: هل رأيتَ علي بن الحسين. قال: لا. قال: ما رأيتُ أحدًا أورع منه". وفيه ايضًا عن أبي نوحٍ الأنصاري قال: "وقع حريقٌ في بيتٍ فيه علي بن الحسين وهو ساجد فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله النار، فما رفع رأسه حتى أُطفئت فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ قال: ألهتني عنها النارُ الأخرى" والمعنى أنه بسبب استغراقه في الخشوع وخوفه من نار الآخرة انشغل فكره بذلك فلم ينتبه للحريق الحاصل في البيت. وفي كتاب "العِبر في خبر من غَبَر" للذهبي عن الإمام مالك قال: "إن علي بن الحسين كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعةٍ إلى أن مات وكان يُسمى زين العابدين لعبادته".

وفي "البداية والنهاية" لابن كثيرٍ أن "رجلًا نال يومًا من زين العابدين (أي سبَّه وأغلظ له القول) فجعل زين العابدين يتغَافل عنه (أي لا يرد عليه) فقال له الرجل: إيَّاك أعني. فقال زين العابدين: وعنك أُغضي (أي لا أعاملك بالمثل)".  وفي "شعب الإيمان" للبيهقي أن "جاريةً جعلت تسكب الماء لزين العابدين يتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجَّه فرفع زين العابدين رأسه إليها فقالت الجارية: إن الله عزَّ وجل يقول "والكاظمين الغيظ" فقال لها: قد كظمت غيظي. فَقَرَأَتْ قوله تعالى "والعافين عن الناس" فقال لها: عفا الله عنك. فأكملت الآية "والله يحب المحسنين" فقال: اذهبي فأنت حرة.

وفي "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن محمد بن إسحاق قال: "كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدُوا ما كانوا يُؤتَون به بالليل" وفيه: أن أهل المدينة قالوا "ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين".

كل هذا وأكثر منه جدًا جعل له المهابة والجلال في قلوب الناس أكثر من مهابة الملوك والأمراء ولا زالت أبيات الفرزدق فيه تتردد عبر التاريخ ففي "المنتَظَم" لابن الجوزي وغيره أن هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المشهور حجَّ في خلافة أبيه فجَهِد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه فلم يقدر من الزَّحمة فنُصب له منبرٌ وجلس ينظر، فاقبل علي بن الحسين فطاف بالبيت فلما بلغَ الحجر تنحَّى له الناس حتى استلمه، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه (مخافة أن يرغَبَ فيه أهل الشام) فقال الفرزدق: ولكني أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس؟ فأنشد الفرزدق قصيدةً طويلة جاء فيها:

هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَهُ                      والبيتُ يعرفهُ والحِلُّ والحرمُ

هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلهِمُ                        هذا التقي النقي الطاهر العلمُ

هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهلَه                      بجدِّه أنبياءُ الله قد خُتموا

وليس قولُك من هذا بضائره                     العُربُ تعرفُ من أنكرتَ والعجمُ

فغضب هشام فقال الفرزدق: هات جدًا كجده وأبًا كأبيه وأمًا كأمه حتى أقول فيكم مثلها، فأمر هشام بحبسه فبلغ ذلك زينَ العابدين فبعث للفرزدق باثني عشر ألف درهم وقال: لو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك، فردَّها الفرزدق وقال: ما قلتُ هذا إلا غضبًا لله ولرسوله، فقال زين العابدين: شكرَ الله لك إلا أنَّا أهل بيت إذا أنفذنا أمرًا لم نعد فيه. فقبلها وجعل يهجو هشامًا وهو في الحبس فأُخبر هشام بذلك فأطلقه.

من درر العقيدة

ترك الإمام زين العابدين عليه السلام أقوالًا وحِكمًا عظيمةً جُمع بعضها في رسالةٍ سميت "الصحيفة السجَّادية" جاء فيها في تنزيه الله تعالى: "أنت الله الذي لا يحويك مكان" وفيها أيضًا "سبحانك أنت الله الذي لا تُحدُّ" وفيها كذلك "سبحانك لا تُحَسُّ ولا تُجَسُّ ولا تُمَسُّ" وهذا يُفيد بوضوحٍ أن عقيدة الحق هي تنزيه الله عن المكان والجهة والجسمية خلافًا لأدعياء السلفية الذين يُروجون لعقيدة التجسيم الموافقة لما عليه اليهود والذين أنكروا صحة نسبة "الصحيفة السَجَّادية" إلى زين العابدين ويفضح كذبهم ما جاء في "إتحاف السادة المتقين" للحافظ محمد مرتضى الزبيدي السُنِّي حيث أثبت ما جاء في "الصحيفة السجَّادية" بالسند المتصل إلى زين العابدين عليه السلام ولولا خشية الإطالة لذكرته. وكان عليه السلام يعتقد جلالة أبي بكر وعمر ويرى فضلهما ففي "البداية والنهاية" لابن كثير ما نصُّه: "وقال علي بن الحسين: كان أبو بكر وعمر من رسول الله في حياته بمنزلتهما منه بعد وفاته".   

وفاته

توفي زين العابدين بالمدينة سنة أربع وتسعين وقيل: ثنتين وتسعين للهجرة في الخامس والعشرين من شهر مُحرَّم ودفن بالبقيع. رضي الله عنه ونفعنا ببركاته.

والحمد لله أولًا وآخرا.  

الوسوم