بيروت | Clouds 28.7 c

ما هي المشاكلة في كتاب الله / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 16 ايار 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى: {يُضلُّ به كثيرًا ويهدي به كثيرا وما يُضلّ به إلا الفاسقين} سورة البقرة.

ليُعلم أنه ليس لأحدٍ أن يقول في كتاب الله برأيه المجرَّد عن دليل الشرع ولا يصح تأويل القرآن الكريم بغير ما يوافق اللغة العربية، وكم ضلَّ ناسٌ وزاغ أقوامٌ بالتأويل الفاسد، فإن من أخطر المخاطر أن يتوهَّم المرء للنصوص القرآنية خلافَ المعنى المرادِ فيضلّ عن سبيل الصواب ويُطلق على ربنا تعالى ما لا يجوز، وإذا ما نصحه بعد ذلك ناصحٌ تراه يُعاند فلا يقبل الحق بل ويرُدُّ على الناصح فيقول له: قرأت في القرآن الكريم كذا، زاعمًا أن في كلام الله دليلًا على ما يبُثُّ من غلطٍ فاحش ظنَّه حقًا لأنه تأول النصَّ على حسب اللهجة العاميَّة أو نظر في كتب بعض العلماء فلم يفهم مقاصد الكلام واصطلاحات الأئمة بسبب ضعف معرفته بعلوم العربية، وبالتالي فجديرٌ بالمرء أن يعرِف حدَّه فيقف عنده بدل أن يتسرَّع في القول والاعتقاد فقد قال القُرطُبي في "جامعه" في الآية أعلاه: "أي يُوفِّقُ ويخذل". أي أن الله يُوفِّق بعضَ الناس لفهم المراد من النصوص ويخذل بعضهم فيضلِّون بالتأويل الفاسد، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ وقد رأيت أن أتكلم في هذا المقال المقتضب عن معنى المشاكلة في كتاب الله عزَّ وجلَّ ليتنبَّه من كان يجهل هذا الفن وغيرَه من فنون العربية بل ويجهل أوائل قواعد النحو كيف يُقحم نفسه في تأويل كلام الله بلا علم ولا هدى.

المشاكلة أو المقابلة

 ليُعلم ابتداءً أن المقابلة ويُقال المشاكلة هي استعمال اللفظ في غير معناه الأصلي لأنه وقع في مقابلة لفظٍ يشاكله أي يُشبهه، مثال ذلك قول بعضهم:

قالوا اقترح شيئًا نُجد لك طبخه                      قُلتُ اطبُخُوا لي جُبةً وقَميصا

فالجبة والقميص ليسا مما يُطبخ ولكنَّ الشاعر استعار لفظ "اطبُخُوا للجبة" والقميص لوقوعه في مقابلة لفظٍ يُشبهه، ولهذا الفن من فُنون العربية ضوابط يعرفها أهل الاختصاص يخفى علمها على كثيرٍ من الناس، وقد وقعت المشاكلة في كتاب الله في عدة مواضع، فمن لم يُحِط علمًا بها لربما دفعه الجهل إلى حمل الآيات على خلاف الحق فظنَّ لها معنىً على خلاف المراد فتردَّى في مهاوي الهلاك، وهكذا شأن من يدخُل برأيه السقيم في تفسير ما لا يُحسن فهمه أو لربما لا يُحسن قراءته أصلًا.

ومما وقع في القرآن الكريم من المشاكلة قوله تعالى في سورة البقرة: {وإذا لقُوا الذين ءامنوا قالوا ءامنَّا وإذا خَلَوْا إلى شياطينهم قالوا إنَّا معكم إنما نحن مُستهزءون الله يستهزئ بهم ويمُدُهم في طغيانهم يعمهُون} وقوله في سورة التوبة: {الذين يلمزُون المطَّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جُهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذابٌ أليم}. وقوله في المنافقين: {يُخادعون الله وهو خادعهم} سورة النساء. وقال في سورة التوبة:{نسُوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون} والآيات في الباب يطول ذكرها وشرحها، ولكن إذا اتَّضح المراد فيما ذكرناه تنبَّه الفطن إلى مثله في آياتٍ أخرى وحفظ نفسه من تسمية الله تعالى بما لا يجوز فإنه ليس بمؤمنٍ من سمَّى الله مستهزئًا أو ساخرًا أو مُخادعًا أو ناسيًا أو ماكرًا، وما جاء في الآيات إنما هو على وجه المشاكلة، فالاستهزاء والسُّخرية من الكفار بالمؤمنين خُبثٌ انطوت عليه قُلوبهم الفاسدة، وقوله: "يستهزئ بهم" معناه يجازيهم على استهزائهم، وعلى مثل هذا تُحمل الآية التي بعدها أي يُجازيهم على سخريتهم، والخِداع منهم استعمال الحيلة ليُؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: "وهو خادعهم" أي يجازيهم على خِداعهم، ونسيانهم ما أمر الله به هو تركهم الإيمان وقد أمر الله به، وقوله: "فنسيهم" معناه تركهم في العذاب. قال الطبري في "تفسيره" بعد إيراده للآيات المذكورة: "إخبارٌ من الله أنه مُجَازِيهم جزاءَ الاستهزاء ومعاقِبُهم عقوبةَ الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إيَّاهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي استحقوا عليه العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان كما قال جلَّ ثناؤُه "وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مِثلها" ومعلومٌ أن الأولى من صاحبها سيئةٌ إذ كانت منه معصية لله تبارك وتعالى وأن الأخرى عدلٌ لأنها من الله جزاءٌ للعاصي على المعصية فهما وإن اتفق لفظهما مختلفا المعنى، وكذلك قوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه" فالعُدوان الأول ظلمٌ والثاني جزاءٌ لا ظلم بل هو عدلٌ لأنه عُقوبةٌ للظالم على ظلمه وإن وافق لفظه لفظ الأول، وإلى هذا المعنى وجَّهُوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك مما هو خبرٌ عن مكر الله جلَّ وعزَّ بقومٍ وما أشبه ذلك". يُريد الطبري نحو قوله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} (سورة الأنفال) وغيرها من الآيات التي وقع فيها لفظ المكر على وجه المشاكلة، والمعنى يُجازيهم على مكرهم.

الحذر الحذر

فالحذر الحذر من تسمية الله بما لا يجوز ومن كان جاهلًا بفنون العربية ولم يُحط علمًا بأدنى شىءٍ من قواعدها فكيف له أن يدخل في تأويل آيات الكتاب العزيز برأيه، ومن أراد السلامة فليقف عند قوله تعالى:{ولله الأسماء الحسنى فادعُوه بها وذروا الذين يُلحدون في أسمائه} (سورة الأعراف) ولا يدخُلنَّ في التأويل الفاسد حتى لا يُطلق على الله ما لا يصح إطلاقه عليه تعالى بل يؤدي إطلاقه على الله إلى مخالفة عقيدة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وإجماع المؤمنين قاطبةً كمن يتوهَّم من النصوص التي جاءت فيها كلماتٌ على وجه المشاكلة جواز تسمية الله بما لا يجوز فيهلك هو ومن صدَّقه.

قال الإمام أبو منصور البغدادي في كتابه " تفسير الأسماء والصفات": "لا مجال للقياس في أسماء الله وإنما يُراعى فيها الشرع والتوقيف".  

فلا مجال إذًا للاجتهاد والرأي في أسماء وصفات الله تعالى بل نُسمي اللهَ بما سمَّى به نفسه فقط وقد شذَّ سيد قطب في كتابه المسمَّى "في ظلال القرآن" فسمَّى الله بالريشة المبدعة والعقل المدبِّر والنبع الذي لا يغيض ومهندس الكون وكل هذا ضلالٌ مبين فالحذر الحذر.

والحمد لله أولًا وآخرا.    

الوسوم