بيروت | Clouds 28.7 c

بعد تحول فيروس كورونا إلى وباء عالمي انه وقت المصالحة الانسانية / بقلم السيد صادق الموسوي

بعد تحول فيروس كورونا إلى وباء عالمي

انه وقت المصالحة الانسانية

بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 6 اذار 2020 العدد 1941

 

بقيت العلاقة بين الإنسان والطبيعة كما العلاقة بين الطبيعة والإنسان موضع بحث منذ بداية الخليقة، فالبديهي أن الإنسان يحتاج لبدء حياته إلى عناصر في الطبيعة فهو يتنفس من الهواء ويشرب من الماء ويأكل من الأثمار، وفي حال حدوث أي تلوث في الهواء أو الماء أو الغذاء فإن ذلك يؤثر في حياة الإنسان ويؤدي في بعض الأحيان إلى الموت، أما علاقة الإنسان بالطبيعة فمن البديهي أيضاً أن الإنسان يمكنه بتصرف مّا أن يؤثر سلباً وإيجاباً في الهواء والماء والغذاء حيث يمكن أن يسبب الإنسان تلوثاً في الهواء والماء والغذاء فيهدد حياة البشرية كلها وحتى باقي الكائنات الحية على الكرة الأرضية، كما يمكنه أن يؤدي دوراً في إزالة تلك التلوثات وتنقية الهواء والماء والغذاء فيصبح الإنسان سليماً من الأمراض ويستمر في العيش بعافية وسلامة.

لكن وقوع أحداث كبيرة كالزلازل المدمرة والسيول الجارفة والأوبئة القاتلة تجعل الناس يفكرون في أسباب الحوادث التي لا دخل ظاهرياً للإنسان في حدوثها، فالبعض يقول بأنه ((غضب الطبيعة)) وبعض يسمّيه ((عذاب الله)) وبعض ينسب تلك الأحداث إلى ((تفاعلات طبيعية)) في الكرة الأرضية وتحولات في النظام الشمسي أو الكوني، لكن القرآن الكريم يؤكد أن جميع عناصر الكون منذ لحظة نشوئها قد أذعنت طواعية للإرادة الإلهية، ((.. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين))، وأن التحولات كافة في أية ذرة في هذا الكون تتم بفعل الإرادة الإلهية ولا يمكن أن يحدث شيء في هذا الكون الفسيح من دون تلك الإرادة ((إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون))، وأن جميع هذه التحولات مهما كانت صغيرة هي نتاج لإرادة الله سبحانه وتقديره وخاضعة لعلمه، فهو ((عالم الغيب لا يغرب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين))، و ((يعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين))، بل إن الأرض نفسها تقوم بمهمة تسجيل جميع ما يحدث على ظهرها ثم إذاعتها حين يأمرها الله بذلك ((وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان مالها، يومئذٍ تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها))، وإن القبول بانصياع كافة عناصر الطليعة للإرادة الإلهية يدفعنا إلى الإعتقاد بأن أي حدث او تفاعل في أي جزء من الطبيعة التي نعيش في ظلها هو بشكل من الأشكال ناتج عن الإرادة الإلهية وخاضع لعلمه.

بناءً على ما أسلفنا لا يمكن النظر إلى ما يحدث من حولنا من حوادث كبرى ومنها الزلازل والفيضانات والسيول الجارفة وتفشي أنواع الوباء بمعزل عن الإرادة الإلهية، خصوصاً وأن القرآن الكريم يحدثنا عن نماذج من تجسد الإرادة الإلهية سلباً وإيجاباً فهو يذكر لنا تفاعل الجبال الشاهقة مع مناجاة النبي داوود عليه السلام ((ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوّبي معه وألنّا له الحديد))، واتّباع الرياح لأوامر النبي سليمان عليه السلام ((ولسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر))، كما يورد الله نماذج من جهة أخرى كطوفان نوح عليه السلام حيث يقول: ((فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجّرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قُدِر))، ثم وبعد غرق الكفار يقول الله تعالى: ((قلنا يا أرض ابلعي ماءكِ ويا سماء أقلعي وغيض الماء))، وفي أمر إبراهيم عليه السلام: ((فقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم))، وفي أمر موسى عليه السلام جاء: ((وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون)) و ((فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)) و ((وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا))، وأشهر حادثة عند العرب هو ما ورد ذكره في سورة كاملة من القرآن الكريم: ((باسم الله الرحمان الرحيم، ألم تَرَ كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجّيل، فجعلهم كعصف مأكول))، ولأهمية هذا الحدث عند العرب سمّي هذا العام بعام الفيل، وهو العام الذي وُلد فيه النبي محمد صلى الله عليه وآله.

وفي كتاب الله ذكر لكثير من التدخلات الإلهية لوقوع أمر غير مألوف عند البشر من نزول عذاب بناءً على دعوة نبي أو عبد صالح وحتى على أثر دعاء مظلوم لا ناصر له إلاّ الله، أو استجابة لدعاء نبي أو وصي أو أحد من أولياء الله لنزول رحمة على قوم أو رفع عذاب عن أمة، وفي حالات معينة يكون الحدث الكبير امتحاناً إلهياً لشخص أو قوم أو للبشرية جمعاء، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ((أحسِب الناس أن يُيركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون، ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين))، و ((وما أرسلنا في قرية من نبي إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلهم يضّرّعون)).

إن النظام الكوني بجميع أجزائه مهما صغرت أو كبرت مرتّب بناء على حكمة جعلت نشوءه وتطوراته وتوسعه طوال آلاف مليارات السنوات الضوئية ((حسب ما اكتشف العلماء حتى اليوم)) متناسباً مع الهدف من تكونه، فيكفي مثلاً أن يحدث خلل بسيط في الجاذبية الكونية حتى تتقاذف الكرات وتتصادم النجوم وتتفجر المجرات، وتنعدم الحياة بأشكالها كافة على نطاق الكون كله، وهذا الأمر يحدث حسب ما جاء في كتاب الله عزّ وجلّ لمّا يريد الله إفناء الكون استعداداً لإعادته في الحياة الآخرة وإثابة المطيعين له في الدنيا وعقاب العاصين من عباده.

إن القواعد الموجودة في الكون والنظام المهيمن على كل المخلوقات ومنها الكرة الأرضية وفيها الإنسان قد تمّ إبداعها بإتقان، وإن الإلتزام بتلك القواعد والسير وفق النظام المحدد يجعل حياة الإنسان متناسقاً مع تلك القواعد ومتكاملاً مع الأسس التي تمّ وضعها من قبل خالق الخلق وهو الله سبحانه وتعالى، وإن أي تغيير وتبديل يدخل على أي جزء من الطبيعة فانه حتماً يؤدي إلى تغيير ماهيته ودوره ، أو يُفقده خاصيته المقررة له، وإن هذا التغيير أيضاً لا يخرج عن التقدير الإلهي، لكن المهم أن التدخلات البشرية يجب أن لا تتعارض مع المكنون الإلهي في المواد الطبيعية، فمثلاً يستطيع الإنسان أن يدخل إلى عمق الذرة ويعيد ترتيب الإلكترونات والبروتونات واتجاه دورانها حول بعضها، لكن هذا التدخل يمكن أن يؤدي إلى نتيجة لخدمة الإنسان في مجال الطب النووي، وكذلك يمكن أن ينتج عنه قنبلة نووية تدمر مدينة بأكملها وتقضي على حياة مئات آلاف البشر الأبرياء، وهكذا في مجال أشعة الليزر؛ لكن الإشراف الإلهي مستمر دائماً وطاعة ذرات الكون المخلوقة لخالقها والتي أعلنتها في بداية الخلق مستمرة أيضاً، ومع أن الله قد جعل لكل شيء إيجابي علة وكذلك للأمور السلبية أسباباً، لكن يبقى المقرر الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى.

لذلك لا بد عند حصول أمر كبير شامل كما فيروس كورونا اليوم أن يبذل العلماء في الطب جهودهم الحثيثة لكشف الدواء له، لكن لا يجوز الغفلة عن الإحتمالات الثلاثة التي ذكرناها آنفاً، إذ يمكن أن يكون هذا بسبب ظلم حصل بحق فرد أو جماعة، ورضي الناس بهذا الظلم أو سكتوا عنه فعمّهم الله بالعذاب كما حصل سابقاً في قوم ثمود إذ عقر ناقة صالح رجل واحد ولمّا رضي باقي الناس بفعلته وصفقوا له شملهم العذاب جميعاً، أو أنه اختبار إلهي كي يتخلى الناس عن حال الغفلة والإنغماس الكامل في أمور الدنيا وحتى يتوجّه العباد كلٌ على شريعته وطريقته إلى التضرع إلى الله فتصقل القلوب قليلاً وتتقارب النفوس بفعل الوباء الذي يشمل الجميع من كل الألوان والأعراق والأديان والثقافات، من أجل أن يبحث المتضررون معاً إلى علاج لوباء يلفّ العالم كله وينتشر في كافة الدول، ويصيب جميع الناس ولا يستثني أحداً، فتعود العلاقة الإنسانية إلى النفوس المتفاضلة عِرقياً والمتباغضة قومياً والمتنافرة فكرياً والمتعصبة وطنياً ليعود الناس إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

وكذلك يمكن أن يكون هذا الحدث مقدمة عسيرة لا بد منها لفرج قادم على الإنسانية كلها بعد أن عمّ الظلم العالم كله وفُقد أبسط القيم الإنسانية في التعامل بين بني البشر، ولم يعُد يأبه أحد إلاّ بنفسه وشخصه ومصلحته الذاتية، ولو كان ثمن إرضاء النفس وتحقيق المبتغى الشخصي ضرر الآخرين وإبادة شعوب وسحق مصالح البشرية كلها؛ فلا بدّ أن يتهيأ الناس كل الناس للخروج من هذه الأزمة العالمية بتغيير في النفوس وتطهير للقلوب وتنقية للأهواء وترك المظالم والعودة إلى التآلف وعند ذلك ((سيجعل الله بعد عسر يُسراً)) صدق الله العلي العظيم.

بقلم السيد صادق الموسوي

الوسوم