بيروت | Clouds 28.7 c

لا يعلم أحدٌ الغيبَ كلّه إلا الله/ بقلم الشيخ أسامة السيد

لا يعلم أحدٌ الغيبَ كلّه إلا الله/ بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 24 كانون الثاني 2020 العدد 1935

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((قل لا يعلم من في السَّموات والأرض الغيب إلا الله)) سورة النحل.

اعلم أنه يجب الإيمان أنه لا يعلم جميع الغيب إلا الله فقد أحاط ربنا بكل شيء علما فهو عالمٌ بما كان وما سيكون ولا تخفى عليه خافية، والغيب هو ما غاب عن العباد من الثواب والعقاب والآجال والأحوال، وقد تمدَّح ربنا تعالى بإحاطته علمًا بالغيب والشهادة فقال في سورة الأنعام: ((عالمُ الغيب والشهادة)) ومعنى الشهادة: ما يراه الناس ويطَّلعون عليه فلا يعلم جميع ذلك إلا الله وحده. ثم إنه من المقرر بين أهل الحق أن الله لا يساويه أحدٌ من خلقه بصفةٍ من صفاته، ومن صفاته عزَّ وجلَّ العلم بكل شيء. قال تعالى: ((وهو بكل شيء عليم)) سورة الحديد. فلو كان يصح لغير ربنا العلمُ بكل شيء لم يكن لله تعالى تمدُّحٌ بوصفه نفسه بالعلم بكل شيء، وإذا عُلم هذا فلا يسوغ لأحدٍ أن يزعم أن أحدًا يعلم الغيب كله سوى الله ومن اعتقد ذلك فقد كذّب القرآن. وقد نهى الله ورسوله عن الغُلو في الدين، وعن عبد الله بن عبَّاس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس إيَّاكم والغلوَ في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) رواه ابن ماجه. والغلو الإفراط أي الخروج عن الحق إلى الباطل.

اطّلاع بعض العباد على بعض الغيب

 وقد يُفرط أناسٌ في محبة شخصٍ أو بغضه إلى حدِّ الغلو والغلو في الحالين مرفوضٌ ومن أراد السلامة وقف عند حدِّ الشرع والتزم ما جاء فيه ولم يجاوز حدَّ الشرع، فقد غلا ناسٌ فقالوا في النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز في دين الله، وزعموا أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم يعلم جميع الغيب وهذا ضلالٌ وإفكٌ مُبين وقائله سوَّى رسولَ الله برب العالمين وهذا خلاف عقيدة المؤمنين وخروجٌ عمَّا أجمعت عليه الأمة، فإن قال قائل: ((أليس قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمورٍ تكون في آخر الزمان كظهور المهدي وخروج الدَّجال ونزول سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من المغرب وغير ذلك، ومن ذلك ما تحقق كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام كفتح القُسطنطينية بعد زمان البعثة الشريفة بثمانية قرون فعن بشرٍ الخثعمي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لتُفتحنَّ القُسطنطينية فلنِعمَ الأميرُ أميرُها ولنِعمَ الجيشُ ذلك الجيش)) رواه أحمد. ومنها ما لم يتحقق بعد)). فالجواب هو: هذا جزءٌ من الغيب أطلع الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عليه، فإن الله تعالى يُطلع من شاء من خلقه على جزءٍ من الغيب لا على جميع الغيب، فقد جاء في ((التسهيل)) لابن جُزي في تفسير سورة القَدر: ((إن الله تعالى يُطلع الملائكةَ في ليلة القدر في شهر رمضان على ما سيكون من الآجال والأرزاق وغير ذلك)) ومعنى ذلك أن الله يُطلع الملائكةَ على جزءٍ من الغيب وقد أوحى الله إلى الأنبياء ببعض ما سيكون آخر الزمان، والقول بهذا ليس فيه معارضةٌ لنصوص الشريعة، بخلاف من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم كل الغيب فإن قائل هذا مُكذِّبٌ لصريح القرآن والسنة الثابتة.

النبي لا يعلم جميع الغيب

ويشهد لقولنا إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم جميع الغيب قولُ الله تعالى في سورة التوبة: ((ومن أهل المدينة مردوا على النِّفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم)) ومعنى ((مردوا)) أي ثبتوا عليه واعتادوه، وكذلك قوله تعالى أيضًا: ((قل ما كنت بِدْعًا من الرُّسل ومآ أدري ما يُفعلُ بي ولا بكم إن أتَّبع إلا ما يُوحى إليَّ)) سورة الأحقاف. ومعنى ((ما كنت بدعًا من الرسل)) أي لست بأولهم ولم آت بدين جديدٍ بل أُرسلت كما أرسلوا بالتوحيد.

وعن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا فَرَطُكم (أتقدمكم) على الحوض (والحوض مجمع ماء واسعٍ ولكل نبيٍ حوضٌ تشرب منه أمته يوم القيامة)) ليُرفعنّ إليَّ رجالٌ حتى إذا أهويتُ ((مِلتُ)) لأُناولهم اخْتُلِجُوا ((اجتُذبوا وأُخذوا)) دوني فأقول: أي رب أصحابي يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك)) رواه البخاري.

وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أُبي بن سلول بناءً على إجراء الحكم على ظاهر حاله فإنه أظهر الإيمان قبل موته، وبدت منه أماراتٌ تدل على حُسن الحال بحسب الظاهر ثم نزل الوحي بعد دفنه، قال تعالى: ((ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)) سورة التوبة. ومعنى ((فاسقون)) هنا كافرون. وفي الآية أصرحُ دليلٍ على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب وإلا لما صلى على هذا المنافق، لأن الصلاة على المنافق أي الذي يبطن الكفر مع العلم بحاله تلاعبٌ بالدين لقوله تعالى: ((ما كان للنبي والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قُربى من بعد ما تبيَّن لهم أنهم أصحاب الجحيم)) سورة التوبة.

فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أُبيّ بن سلول واستغفر لجماعة غيره كانوا يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر إجراءً للحكم على حسب ما كانوا يُظهرون ولم يتبين له حقيقة حالهم إلا بعد نزول الوحي، وعلى هذا المعنى يُحمل ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة لهؤلاء، وبمثل هذا قال القرطبي في ((جامعه)) والرازي في ((التفسير الكبير)) وابن الجوزي في ((زاد المسير)) وأبو حيَّان في ((البحر المحيط)) وغيرهم. فليعلم هذا والحذر الحذر من اعتقاد ما سوى ما بينَّاه فإنه لا يعلم جميع الغيب إلا الله وليس لأحدٍ أن ينتهج الغلو في الدين طريقًا.

 والحمد لله أولاً وآخراً.

الوسوم