بيروت | Clouds 28.7 c

من هنا نبدأ / دستور الطائف يحميه المفتي - بقلم حسن صبرا

من هنا نبدأ /  دستور الطائف يحميه المفتي

بقلم حسن صبرا

مجلة الشراع 13 كانون الأول 2019 العدد 1929

 

بدلاً من لعن الظلام.. أضىء شمعة واحدة. وبدلاً من الاكتفاء بالحديث عن الفاسدين.. تحدث ايضاً عن الاصلاح، لأن الضد يظهر حسنه الضد، فلا تشعر بقيمة النهار، الا بعد ان تدخل عليك عتمة الليل.

الفاسدون في لبنان كثر.. وأكثر من هذا هم فجار وعهار ولا يختشون، واذا بصقت في وجه أحدهم يبتسم وهو يردد الدنيا ((عم بتشتي))!!

الحديث عنهم مقرف كوجوههم ومن معهم من زوج الى صهر الى ابن الى شقيق الى مرافق الى مقاول الى وزير ونائب الى مدير عام الى قاض.. ولا يغشنك تسليط الأضواء عليه أو جاهه ولا يخدعنك غناه.. فكله حرام ومسروق وقد مد هذا الفاسد يده الى أموال الفقراء، والايتام وسرق أموال الوطن وهي أموال الناس، وبعض الناس للأسف خراف تمأمىء وبقر تخور تأييداً لهذا الذي يسرقها، تهتف بإسمه حتى لو سرق طعام اولادها وحرمها التعليم الواجب ومنع عنها التطبيب اللازم.. وهذا ينطبق على مسؤولين من كل الطوائف والمذاهب يسرقون ناسهم كجزء من اللبنانيين كلهم. لكن أغلب الناس تعرف اللص وتشير اليه بالاقدام وتود ان ترى المصلح لتحمله على الأكتاف.

لذا

دعونا نتحدث عن مصلح كي ننصفه أولاً، ولكي نقارن كيف يكون البني آدم انسانياً، ويكون الفاسد حيواناً ناطقاً ولكي نطبق المقولة الخالدة: ((اضىء شمعة ولا تكتفي بلعن الفاسد)).

والفاسد هو كل من نهب البلد وهو في المسؤولية حياً او ميتاً منذ العام 1989.

والمصلح هو موضوعنا اليوم واسمه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبداللطيف دريان.

ويجب ان نعترف ان مناسبة الحديث عنه الآن مرتبطة بالأمرين معاً:

1-مواجهة النور بالعتمة، للانتصار عليها في النموذج .

2-حضور المفتي الآدمي السياسي في مواجهة خرق دستوري أقدم عليه رئيس الجمهورية ميشال عون في مسألة فرض تكليف شخص يختاره هو وصهره قبل اجراء الاستشارات النيابية الملزمة، ثم فرض مرشح بعينه ومحاولة تمريره – خارج القاعدة التي اعتمدها هو وصهره وهي ان يكون رئيس أي سلطة في البلد هو الأقوى تمثيلاً في طائفته.. فميشال عون في نظره ونظر صهره الصغير يجب ان يكون رئيساً للجمهورية لأنه الأكثر شعبية في مذهبه الماروني، الذي خصص له الرئاسة الأولى، ونبيه بري وفق هذا المنظور يجب ان يكون رئيساً لمجلس النواب المخصص للشيعة لأنه (مع الحجم الأكبر لحزب الله) هو صاحب الشعبية الأكبر عند الشيعة.

فلماذا لا يكون سعد الحريري صاحب الشعبية الأوسع عند السنة رئيساً للحكومة التي هي وفق الدستور مكتوبة للسنة؟

ولماذا هذه، موجهة لعون وصهره الصغير.. حتى لو كان الحريري خضع لمنطق هذا الصهر بقانون انتخابي كرس معادلة ان صاحب الشعبية الأكبر هو الذي يحكم.. ولا مجال هنا لفصل السلطات التي ينص عليها الطائف.. بل الجميع يحكم ومن لم يعجبه فليذهب لمنافسة المقاول الأوسع في الجمهورية وهو من الفاسدين ايضاً.. وكيف لأحد ان ينافسه وهو المحمي من الجميع وهو المكلف بتبليط البحر؟ وكانت الحكومة ((الوطنية)) هي واحدة من أسباب الكوارث التي يعيشها لبنان الآن ومنذ ثلاث سنوات لأنها ألغت عملياً مبدأ فصل السلطات الذي نص عليه الدستور وجعل السلطة التشريعية شريكة في الحكم فتعطلت الرقابة والمحاسبة وتحاصصت السلطات في كل الصفقات فجاءت الرشى واستباحة المال العام وبات النهب منظماً.. بالقانون.

لذا

قام المفتي دريان بما يجب عليه القيام به.. في ابلاغ مرشح جبران باسيل سمير الخطيب، ان دار الفتوى ومسؤولي معظم المؤسسات الاسلامية ونواب السنة والأغلبية الشعبية السنية تريد سعد الحريري رئيساً للحكومة وفق قواعد الدستور وغيره.. فهل أخطأ المفتي في حفظ قانون ينص عليه الطائف.. ورمي بدعة اعتمدها باسيل وعمه في ان يحكم الأقوى في طائفته؟

وهل هي مصادفة ان يكون سمير الخطيب المقاول والمتعهد وان يكون جبران باسيل مهندساً مدنياً؟

وهل هي قدرية ان يلتزم سمير الخطيب بصفته صاحب شركة ((خطيب وعلمي)) للمقاولات مشاريع اعادة اعمار الضاحية الجنوبية لبيروت التي دمرها العدوان الصهيوني طيلة 33 يوماً صيف عام 2006 وان يحصل المهندس جبران باسيل على تعهدات في المكان نفسه وفي العام نفسه وفي الحالة نفسها؟

غير ان المضحك هو اقتصار نقد البعض لحالة دور تدخل المؤسسات الدينية لوضع سياسي مثل مواجهة خرق الدستور على دار الفتوى، فيصدر هذا البعض بيانات ضد تدخل المؤسسات الدينية في السياسة، بينما لا ينبسون ببنت شفة عندما يصدر المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى بياناً بأن رئيس حركة أمل الشيعية نبيه بري هو مرشحه لرئاسة مجلس النواب (الذي نص الدستور على ان تكون من حصة الشيعة)؟

المفتي دريان عندما أعلن ان مرشحه هو الرئيس سعد الحريري يمارس دوراً قام به الآخرون ولم يأتِ ببدعة، وهذا طريق شقه جبران باسيل عندما أعلن ان الأقوى في طائفته او مذهبه هو الذي يحق له ان يرأس السلطة التي تخص هذا المذهب، ام ان ما يحق لجبران والمجلس الشيعي محرم على دار الفتوى؟

ثم ان المفتي دريان بوقفته هذه قطع الطريق على أي طامح سني من اي جهة أتى، يسقط تحت أي اغراء يقدمه الآخرون لكسر المعادلة اياها على حساب موقع رئاسة الوزراء.

كرسي رئاسة الحكومة للسني القوي، ممثلاً الأغلبية الشعبية السنية نداً للآخرين، وليس مطية لهم كما يطمحون او يتوهمون.

هذا هو المصلح

وعندما نتحدث عن المفتي دريان فإننا نتحدث عن مصلح بدأ بنفسه قبل ان يطلب الاصلاح من الآخرين.

المفتي دريان لمن لم يعرفه بعد، هو رجل يرفض الوساطة حتى لو طلبها قريب له قد يكون صديقاً، او حتى لو كان شقيقاً.

هاتوا لنا سياسياً او رجل دين نافذاً في لبنان رفض التدخل لتعيين ابن شقيقه شرطياً بلدياً في بيروت، كما فعل الشيخ دريان مع ابن شقيقه!

هاتوا لي سياسياً او رجل دين نافذاً في لبنان رفض التدخل لدى القضاء الشرعي في لبنان كي ينصف ابنة شقيقه التي عانت وتعاني مع بعلها الذي يرفض تطليقها وهو لا يصرف عليها قرشاً واحداً وقد لجأت مع ابنتها الى منزل والدها شقيق المفتي وهما تعيشان منذ نحو خمس سنوات في بيت أهلها.

واللائحة تطول.

المفتي الشيخ عبداللطيف دريان ما زال يقطن في شقة في منطقة دار الفتوى في مبنى من عشرة طوابق حصل عليها من ارث والده وجده محمد علي دريان وحصلت زوجه ابنة عمه على شقة أخرى وراثة من والدها.. ومن الاسرار التي لا يعرفها الا القليل القليل ان الشيخ الآدمي اقترض من أحد المصارف ليرتب هذه الشقة وليجعلها صالحة للسكن وظل يسدد القرض حتى آخر قرش للمصرف من دون ان يطلب شقة خاصة بالمفتي.. وعندما عرض عليه البعض ان يكون له سكن خاص في شقة فخمة ابتسم بمودته المعروفة وقال رداً على عروض كثيرة: هذا بيتي وبيت أبي وبيت جدي وسأعيش فيه الى ان يقدر الله لي أمراً آخر.

وعندما قررت وزيرة الداخلية في الحكومة المستقيلة السيدة الفاضلة ريا الحسن تخفيف الحراسات وفتح الطرقات امام منازل المسؤولين والنافذين بادر هو بنفسه الى طلب اعادة الحرس وإزالة المعوقات لفتح الطريق امام منزله ومن أمام دار الفتوى. ولكم تدخل أمنه الرسمي المرافق كي يقفل دكاناً او يحول مساراً، وكان الشيخ هو العقبة التي ترفض اقلاق الناس من حوله وهو يعرفهم واحداً واحداً كما يعرفونه انساناً دمثاً.

وعلى الرغم من انه كان على لائحة اغتيال أبلغه بها مرجع أمني وعلى الرغم من ان رئيس الحكومة سعد الحريري طلب منه ان يحمي نفسه لأنه في حالة خطر الا ان الشيخ تمسك بموقفه قائلاً: انا مفتٍ الآن وغداً ربما لن أكون لكنهم جيراني وسأحافظ على علاقتي معهم.

لفت الشيخ الشاب عبداللطيف دريان سابقاً نظر المفتي الكبير المظلوم الشيخ حسن خالد وقربه منه ورأى فيه شخصيته هو، وكان هو المهيأ كي يتولى الافتاء بعد اغتياله في 16- 5- 1989، لكن صغر سنه وكان يحتاج الى سنتين كي يتولى المسؤولية، الى أسباب أخرى دفعت الى اختيار الشيخ محمد رشيد قباني مفتياً حينها.

اعتمد الشيخ خالد على الشيخ دريان وكلفه ادارة مؤسسات الدكتور محمد خالد وكان سنه 35 سنة فكان ضمانة بسلوكه وأخلاقه العالية، يتعامل مع كل من يعمل معه كأنهم أخوته وليسوا موظفين، وكان صمته وما زال ملكة وموهبة كما هو حسن اصغائه وكتمانه هي من صفاته المميزة والصمت عنده موقف، والميزة الأخرى هي الصمت.

وكان الرئيس المظلوم رفيق الحريري قرأ سيرة وسلوك وعرف عن قرب دماثة هذا الشاب وعصاميته وثقافته الدينية وقد درس 12 سنة بين مصر والسعودية في المدينة عشقه الدائم بعد ان تخرج من جامعة الأزهر، فقربه منه وكان حريصاً على ان يصلي خلفه غروب كل افطارات رمضان في داره التي كان ابناء بيروت والمناطق من كل الطوائف والمذاهب يتناولون الافطار على مائدته خلال سنوات طويلة.

ابن المفتي البكر المحامي سامر يقطن مع والده في سكن العائلة، وابنه فراس يعمل في شركة تأمين وهو متأهل ويسكن مع عائلته في سكن آخر.

والاثنان ممنوعان من دخول دار الفتوى، اذ على الرغم من ثقته بهما فهو لا يريد ان يخضعهما لأي اغراء نفوذ مقتدياً بما فعله حبيبه الشيخ المظلوم حسن خالد عندما منع أولاده من التردد على دار الفتوى وشقيقه الحاج سعيد لا يراه في دار الفتوى، فهو متحسس جداً من ان يطلب منه اقرباؤه أي خدمة، وهم يعرفونه انه لن يخالف القانون، ولن يعمل الا ما يمليه عليه ضميره، وهو أضعف ما يكون عندما يكون الأمر يعنيه، فيعتمد نزاهته التي هي عنده فوق اي اعتبار.

ملكته في الصمت موقف وسياسة، لذا هو لم يدل بأي أحاديث اعلامية منذ تسلمه منصب المفتي، تعرض لنقد شديد من كثير من مواقع التواصل لأنه لم يتحدث عن الانتفاضة، فما اهتز وكانت الابتسامة هي رده، واذا أراد موقفاً لا يخرج الى الاعلام، بل يقوله مباشرة للمعني بالأمر.. وموقفه من ترشيح جبران باسيل لسمير الخطيب كان حاسماً انما داخل دار الفتوى لكنه غيّر مسار أحداث في لبنان.

فهذا الانسان الدمث نظيف الكف عفيف اللسان حساس وكتوم، ويتأثر من أقل كلمة، وتجعله ربما لا ينام.. على الرغم من قوة تحمله الهائلة وقدرته على امتصاص الصدمات.

هذا الانسان الصامت بطبعه، ثائر في داخله، وطني حتى النخاع، عروبي حتى العظم، مسلم بالسلوك والثقافة والايمان.. وفلسطين عنده هي أول الأوجاع وأقساها، وكان في شبابه كطالب علم وشريعة متوجهاً الى سورية ومنها الى الاردن ليلتحق بصفوف حركة فتح للقتال على أرض فلسطين، لكن الحافلة التي كانت تقله مع عدد من أصدقائه تعطلت عند نقطة المصنع على الحدود اللبنانية – السورية فعاد حانقاً وتفرغ بعد ذلك للعلم والتحصيل.

عندما تبلغ نبأ تعيينه مفتياً.. قالت له زوجه الحاجة يسرى سنفتقدك ولن نراك بعد الآن كثيراً، فقال لها مبتسماً كعادته: حاجة.. لقد عملت جهدي كي أؤمن لكِ وللأولاد حياة كريمة كما كل عائلات بيروت كما نحن.. وعليّ ان أتفرغ الآن لخدمة المسلمين الى ما شاء الله.

هذا النموذج – القدوة هو توكيد لغلبة المصلحين على الفاسدين.. وها نحن أضأنا شمعة.. ولكننا سنستمر بلعن الظلام حيث يرتع الفاسدون.

حسن صبرا

 

الوسوم