بيروت | Clouds 28.7 c

العبرة في سوق كلبٍ لسيارة / بقلم السيد صادق الموسوي

العبرة في سوق كلبٍ لسيارة

بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 6 كانون أول 2019 العدد 1928

 

جاء في وكالات الأنباء خبر غريب جداً وهو أن سائق سيارة في ولاية فلوريدا في الولايات المتحدة الأميركية نزل من سيارته مستعجلاً أمام منزله ليضع بعض مشترياته ثم يعود ليركن سيارته في الموقف الخاص لكنه نسي إطفاء المحرك، وكان معه في السيارة كلبه المدلل، واستغل الكلب غياب السائق فتقدم وساق السيارة، فلما رجع صاحب السيارة رأى سيارته تسير ولم يعلم أن الكلب هو الذي يقودها، وتحركت الشرطة ولاحقت السيارة، وبعد مطاردة استطاعت السيطرة على السيارة وإزاحة الكلب عن المقود.

انني لماّ قرأت الخبر وجدت فيه عبرة كبيرة لما يحدث هذه الأيام في بلادنا، لأن السيارة التي يستطيع كلب أن يقودها لكون سائقها غفل عنها لحظات يمكن جعلها مثلاً، فإذا تخلى المخلصون الصادقون عن قيادة مسيرة الأمة فإن المقود يمكن أن يسيطر عليها من ليسوا أهلاً للقيادة ويأخذوا الشعب إلى الهلاك، وهنا لا يتوجه اللوم إلى الكلب الذي تقمص دور السائق الحقيقي وسار بسيارة جاهزة للإنطلاق لكون محركها في حالة دوران، بل يُلام صاحب الحق الذي ترك تحمل المسؤولية وجعل الساحة المتحركة أو الجاهزة للتحرك مستباحة للوصوليين والإنتهازيين، ولكي تتم السيطرة على المسيرة التي غفل عنها الصادقون لا بد من بذل جهود كبيرة وملاحقة مضنية لإزاحة من أمسكوا بالمقود وهم ليسوا أصحابها ولا يجيدون السوق أيضاً، وفي حال التهاون في مطاردتهم وإزاحتهم وأخذ المقود من أيديهم فإنهم حتماً يأخذون الناس إلى الهاوية ويبيعون مصالح الأمة بثمن بخس دراهم معدودة، ويسلّمون الأحرار على أنهم عبيد كما فعل إخوة يوسف بأخيهم.

هنا ننطلق لنضع اليد على الجرح، فالحراك الشعبي الذي بدأ في لبنان بعفوية كتعبير عن الوجع الذي تحمله الشعب سنوات وسنوات وهو يرى السرقات في وضح النهار، والنهب على المكشوف والتآمر على الوطن من دون خجل، والتواطؤ مع الصهاينة لاحتلال البلاد من دون حياء، والتغاضي عن مصادرة الثروة النفطية من جانب الكيان الغاصب حتى صار هو مستفيداً منها ومصدّراً لها أيضاً والزعامات في لبنان لا تزال تناقش جنس الملائكة وتتفاوض على نسبة الحصص قبل أن يتمّ التنقيب والإستخراج وقبل رسم الحدود البحرية أيضاً.

إن لبنان بسبب تكالب الزعامات الموروثة والمستحدثة على نهب ثرواته وتقاسم موارده والإستحواذ على مقدراته أصبح مصنعاً لإنتاج الأجيال المهاجرة إلى القارات الخمس.

أليس عيباً أن يزيد عدد اللبنانيين في أصقاع الأرض أضعافاً كثيرة عن المقيمين على أرض وطنهم؟.

أليس خزياً أن تلد الأم اللبنانية وتربّي وتعلّم فلذة كبدها وفي أول فرصة تُرسله إلى حيث يمكنه العيش بأقل الإمكانات وفي أصعب الظروف، ثم يقوم هو بإرسال بعض المال لوالديه ليتمكنوا من الإستمرار في العيش في أرض الوطن؟.

أليس تخلفاً أن يتباهى لبنان بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وهو ما يزال يمنع المرأة اللبنانية المتزوجة من غير اللبناني من إلحاق ولدها بها في الجنسية متعذراً بالتسبب في التغير الديموغرافي في حين أن الرجل اللبناني المتزوج من الأجنبية يفعل ذلك طبقاً للقانون؟.

أليس معيباً أن يُعطى الحق لرئيس الجمهورية اللبنانية وحده ليعطي الجنسية لمن يريد فيقوم وبعضهم كان يبيع الجنسية اللبنانية لقاء المال لجيبه الخاص، فيتمّ عرض الثمن المطلوب حسب الأوضاع والظروف ويصدر المرسوم الجمهوري بعد قبض المال من قبل السماسرة المكلفين بالأمر الذين يجولون في البلدان للبحث عن الذين يملكون المال الكثير ويرغبون في شراء الجنسية اللبنانية وهم خارج لبنان حالياً ولم يعيشوا فيه يوماً، في حين أن اللبناني الأصيل يضطر للهجرة من وطنه بحثاً عن لقمة العيش حتى في مجاهل أفريقيا، ويتحمل المخاطر الجمّة على حياته ويبذل المال الكثير ليكسب الجنسية من تلك الدول النائية لتسهّل له التحرك في دول العالم ليتمكن من جني قليل المال والإستمرار في الحياة، وكلما حاول الزعماء الدينيون والسياسيون من خلال جولاتهم ترغيب الذين تخلوا عن جنسيتهم اللبنانية على استعادتها فإنهم يواجهون الفشل الذريع في مهمتهم لأن الذين استقروا في المهاجر وتوفقوا في المجالات المختلفة لا رغبة لكثير منهم في إظهار انتمائهم للوطن الذي أجبرهم على الرحيل لأنه لم يؤمّن لهم أدنى لوازم الحياة البشرية؟.

والأنكى أن الموجوع اللبناني إذا صرخ من شدة ألمه يُنظر إلى طائفته ومذهبه فإن كان الجائع مسلماً تكتل ضده المسيحيون زاعمين أن الإستجابة لمطالبه يؤدي إلى إضعاف الوجود المسيحي في لبنان وزيادة القوة الإسلامية في بلد تأسس ليكون الدولة المسيحية في وسط الدول العربية والإسلامية، وإن انطلقت الصرخة من مسيحي نظر إليه المسلمون بعين الريبة لكون المسيحيين يحتكرون الإمتيازات منذ تأسيس لبنان الكبير ولا يعطون المسلمين إلاّ الفتات مما يستغني عنه المسيحيون.

إن الحراك الذي انطلق قبل حوالي الشهرين تجاوز لأول مرة الواقع المطيّف منذ عشرات السنين وشارك فيه الجموع من مختلف الطوائف والمذاهب والفئات والأحزاب، لكن الزعماء الفاسدين الذين تزلزلت كراسيهم وتهددت مصالحهم تكاتفوا لمحاصرة الجموع الحاشدة وتقليل عدد المشاركين فيها، ثم حشرها في زوايا ضيقة، ثم تشويه سمعة المشاركين فيها، ثم ربط الحراك بالدول الأجنبية، ثم تهييج الزمر الجاهلة المتعصبة للتعرض للمعتصمين بالعصي والهراوات، ثم الرهان على الزمن أملاً في يأس المتظاهرين وتفرق المعتصمين، وعند ذلك يعود الفاسدون إلى سيرتهم الأولى والشروع في السرقة من جديد.

إن الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان من جميع الطوائف والشرائح الإجتماعية هو الإقرار بتعشش الفساد في هيكل النظام اللبناني من القمة وحتى القاعدة، ولا تجد أحداً من القيادات على اختلاف مستوياتها (الا ما ندر منها)  إلاّ ورائحة الفساد النتنة تفوح منه، لكن كل فاسد من أولئك يحاول الإختباء خلف طائفته وتجييش البسطاء من أتباع دينه ومذهبه ليدافعوا عنه ويخاطروا بحياتهم لحمايته، علماً بأن الزعيم الفاسد قد مصّ قبل ذلك دماء الذين يهيجهم اليوم لينزلوا إلى الشوارع ويقطعوا الطرقات رافعين صوره ومنادين بإسمه، وهو بعد انتهاء الأزمة المحيطة به لا يعبأ بهم ولا يقضي لهم أية حاجة، ولا يقدم لهم أية مساعدة.

لذلك لا بد أن يعي الناس ويعرفوا المكائد ويتجنبوا الوقوع في الأفخاخ المنصوبة لهم وذلك من خلال الإستمرار في الحراك السلمي وتجنب الشعارات الإستفزازية والمحافظة على النفس الطويل حتى يتعب الفاسدون ويرضخ السارقون ويستسلم الناهبون، ولا يستثنوا أحداً من رموز الفساد من أعلى قمة السلطة حتى القاعدة تحت أية ذريعة مطالبين بإعادة هيكلة الحكم وتغيير النظام جذرياً، ولا يتأثروا بالتهويل بالفراغ فإن الفراغ حاصل الآن وعاش اللبنانيون فترات من الفراغ منذ اندلاع الحرب في العام 1975 ولم تقم القيامة، فكان لبنان مرات من دون رئيس للجمهورية لسنوات ولم تخسف الأرض بالناس، ومنصب رئيس الوزراء بقي شاغراً أو منقسماً ولم تنزل السماء على الأرض، وانقسم الجيش اللبناني لسنوات وعاد بسرعة إلى الوحدة وبقي لبنان يحميه جيشه.

إن التوكل على الله سبحانه والثقة بنصره للمؤمنين الصادقين والإستقامة في طريق الحق والثبات على مطلب العدل يجعل الطريق للوصول إلى الأهداف السامية قصيراً، والأمل في رفع الظلم عن كاهل المستضعفين كبيراً، فان الله قال في كتابه: ((ونريد أن نمنّ على الذي استُضعِفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

 

 

الوسوم