بيروت | Clouds 28.7 c

المولد النبوي الشريف وانبلاج نور الحق /بقلم الشيخ أسامة السيد

المولد النبوي الشريف وانبلاج نور الحق /بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 8 تشرين الثاني 2019 العدد 1924

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى: ((لقد جآءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيم)) سورة التوبة.

وعن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله اصطفى كِنَانة من ولَدِ إسماعيل واصطفى قريشًا من كِنَانة واصطفى من قريشٍ بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)) رواه مسلم.

فنبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم خِيارٌ من خِيارٍ من خِيار بل هو نور الدنيا وأكثر.

أنشد أُخيَّ وهَاتِها هدَّارةً                                إنَّا بغير محمدٍ لا نقتدي

هاتوا لنا من صفحةِ الأمجاد مَنْ                        مثل النبي الهاشمي محمدِ

فوالله لا يَرقى رُقيَّ محمدٍ أحدٌ وليس فوق قَدرِ محمدٍ بشر.

ومع مُرور الأيام وتوالي الأعوام يتجدد مجد سيدنا محمد، وينسى الناس مع الزمان مآثر فلانٍ وفلان ولا تنسى الأمة فضل سيدنا محمد، وتغيب في الدَّهر أسماء ٌكثيرة ويتألق اسم سيدنا محمد، وإذا ما ادلهمَّت الخطوب وعَصَفت بنا المحن نتوسَّل إلى الله بجاه سيدنا محمد.

الرَّحمة المهداة

وها هو هلال شهر المولد الشريف يهلُّ فتغمُر الفرحة قُلوب المؤمنين وتعمُّ الاحتفالات أقطار البلاد الإسلامية في شتَّى أنحاء المعمورة تعظيمًا لمن قال الله تعالى فيه: ((وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين)) سورة الأنبياء. فهو بحقٍ الرحمة المهداة الذي فَتَح الله به أفئدةً غُلفًا وأعينًا عُميًا وآذانًا صمًا ونَوَّر بهُداه العُقول بعدما انتشر الفسَاد في الأرض وطغت الجاهلية فأغرقت الناس في مستنقعات الضلال، إذ عُبدت الحِجارة من دون الله الواحد الذي لا شريك له، وغدا إبليس يصول ويجول بين تلك القلوب القاسية التي اشترت الضَّلالة وبَاعت الهدى وانقادت للطّاغوت وتذلَّلت لأوثانٍ منحوتةٍ من الصَّخر أو التمر، حتى كان أحدهم يعبُد الصنم يتَّخذه من تمرٍ فإذا جاع أكله، قال تعالى: ((ويَعبُدون من دون الله ما لا يضُرُّهم ولا ينفعُهم ويقولون هؤلآء شُفعَآؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلمُ في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمَّا يُشركون)) سورة يونس. وقامت الحروب الطاحنة لأسبابٍ تافهةٍ جدًا فأكل القوي الضَّعيف ودُفنت الوليدة وهي تحيا خوف عارٍ اعتقد قاتلها أنها تجلبُه أو فقرٍ زعم أنه يتأتَّى بسببها، وجهِل أن الله الذي خَلقَها يرزقُها ويرزُق أهلها فبئس ما كانوا يفعلون، قال تعالى: ((وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظلَّ وجهه مُسودًا وهو كظيم يتوَارى من القوم من سوءِ ما بُشِّر به أيُمسكه على هُونٍ أم يدُسُّه في التراب ألا سآء ما يحكمون)) سورة النحل. وظُلمت المرأة واضطُهد الصغار فكانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ويقولون: ((إنما يحوز المال من يضرب بالحُسام (السيف) ويطعن بالسَّنان (الرمح))) وقد مزَّقتهم الأهواء وأكلت أكبادهم الشحناء فهذا يكيدُ لهذا وذاك يضرب عنق ذاك، وتطول القُرون ويتلقَّف الجهلَ جيلٌ بعد جيل وينقطع الوحي من السماء فيما بين رفع المسيح عيسى عليه السلام وبعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم نحو ستمائة سنة، ثم كان المولد النبوي الشريف بعد كل تلك المآسي التي دمَّرت البلاد وأهلكت العباد في زمنٍ ما زلنا ننعته بزمن الجاهلية، فبزغ مع خروج سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا فجرُ الحق المبين فكان ضياءً وهَّاجًا ونورًا يؤذن بزوال تلك العُصور المظلمة وشعاعًا يذوب أمام حرارته عتاة الشياطين.

وكانت إشراقة هذا النور العظيم في أفضل بلاد الدنيا مكة المكرَّمة ثم ما زال هذا الضياء يكبُر وينتشر حتى عمَّ الآفاق والأنحاء ولا يزال نبراسًا لكل مهتدٍ ومسترشدٍ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم النعمةَ الكبرى والرَّحمةَ المهداة وهو الذي قال عن نفسه: ((إنما أنا رحمةٌ مهداة)) رواه الحاكم عن أبي هريرة. فأنعِم وأكِرم وأعظِم به من نبي كريمٍ وإمامٍ عظيمٍ وسيدٍ فاق الأنام حتى غدا إمام كل إمام.

المولد الشريف

لقد ولُد الحبيب محمدٌ صلى الله عليه وسلم والمجتمع في جاهلية كما وصفنا بعض جوانبه، فنشأ نشأة الطُّهر والشرف ولم تُعرف عليه رذيلةٌ ولا فاحشةٌ ولا شائنةٌ بالرغم من كل ما كان يعصف بالناس من ذلك، بل حماه الله وصانه فألهمه الإيمان والتوحيد قبل النبوة فلم يعبُد صنمًا ولم يركع لحجرٍ ولم يتلوث بشيءٍ من أقذار تلك البيئة المنحرفة المتخبطة في شَرَك إبليس، وما زال ربه يحفظه ويرعاه فلمَّا بلغ أربعين سنة وكان قد اعتزل ذلك المجتمع الفظيع وراح يتعبَّد الأيام والليالي في غار حِراء وهو موقنٌ بربه الذي خلق كل شيء فلا يُشبه شيئًا ولا يشبهه شيءٌ، وهو كارهٌ لما عليه أهل ذلك الزمان من ضلالٍ وظلمٍ وإفك، نزل عليه جبريل الأمين بالوحي المبين ليكون مرسلاً إلى كافة العالمين هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا، فهدى الله به الأمة وكَشف الغُمَّة وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، فكان ذلك الإنقلاب التاريخي المذهل وكان ذلك الخير العظيم الذي أجراه الله على يد خاتم الأنبياء محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وما زلنا رغم مئات السنين نسعى في ذلك النور الذي هدانا الله به، وإنما يُفلح السعداء منا ويدخُلون الجنة وينجون من العذاب الأليم باتِّباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

وإذا ما كان المرء يُحسن أحيانًا لأخيه فيحفظ له المعروف ويشكره عليه بل ويمدحه فجديرٌ بنا أن نُعظِّم سيد السادات وإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم فإنه ليس أعظم من معروفه الذي منَّ الله به علينا، وما إظهار الفرح والاعتناء بمولده الشريف إلا من باب التعظيم لهذا النبي الذي أمرنا الله بتعظيمه فقال: ((فالذين ءامنوا به وعزَّروه ونصروه واتَّبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون)) سورة الأعراف. ومعنى ((عزَّروه)) وقَّروه وعظَّموه كما قال الطبري في ((تفسيره)) ولذلك فإننا نرى أن الاعتناء بالمولد الشريف في شهر ربيعٍ الأول إجلالاً للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم بشير خير لأنه يدل على تعلُّق المؤمنين بنبيهم الكريم ومحبتهم لمن أنقذهم الله به وهذا بلا شك من أعظم البركات.

 والحمد لله أولاً وآخراً.   

الوسوم