بيروت | Clouds 28.7 c

السيدة تحية تتحدث عن ايام عبدالناصر الحزينة

السيدة تحية تتحدث عن ايام عبدالناصر الحزينة

مجلة الشراع 27 أيلول 2019 العدد 1918

 

في ذكرى رحيل جمال عبدالناصر الـ 49 تنشر ((الشراع)) ملفاً خاصاً عن الزعيم يتضمن فصلاً من كتاب السيدة الراحلة عقيلته تحية الذي حمل عنوان ((ذكريات معه)) كما ننشر مقالاً لعضو مجلس نقابة الصحافة اللبنانية الزميل د. فؤاد الحركة.

 

*لدى حصول الاعتداء الاسرائيلي على سورية قال عبدالناصر ان اليهود سيعتدون على مصر وحصل العدوان في اليوم الذي حدده

*عبدالحميد قال لي لدى تنحي عبدالناصر: هذا أفضل له لكي يستريح

*المسؤولون ملأوا بيتنا بعد تنحيه وكانوا يخرجون وهم ينتحبون

*بعد احباطه مؤامرة عبدالحكيم عامر.. تلقى نبأ انتحار المشير بحزن عميق

*هكذا أوقف التدخين خلال رحلة علاج الى الاتحاد السوفياتي

*انشغل ببناء جيش قوي وكان يتابع حتى في الليل أخبار العمليات وكان يحزن عندما تقع خسائر

*أول نوبة قلبية حصلت له عام 69 بسبب المجهود الزائد

*بعد عودته في احدى المرات من الجبهة قال لي: تمنيت لو ان أبقى هناك حتى لو أموت

*قال لي عن السادات انه يحبه وانه لا ينسى فضلي عليه

*عاد الى التدخين بسبب الضغوط وأول ما اكتشف ذلك ابننا عبدالحميد

 

عدوان 5 حزيران/ يونيه أول يونية 1967..

كان الاعتداء الإسرائيلي على سورية وكان الرئيس يجلس معنا في الصباح.. قال: إن اليهود سيعتدون على مصر، وحدد بالضبط يوم الاثنين المقبل.. وحصل الاعتداء الإسرائيلي في اليوم الذي حدده الرئيس.. 5 حزيرن/ يونيه 1967 في الصباح. في يوم 9 حزيران/ يونيه ألقى الرئيس خطاباً، وكنت جالسة في الصالة كعادتي وقت إلقائه خطاباته أمام التليفزيون ومعي أولادنا، وسمعته وهو يعلن تنحيه عن الحكم، ورأيت الحزن على وجهه وهو يتكلم، ولم أكن أعرف أو عندي فكرة أبداً عن التنحي، وكان يجلس معي عبدالحميد وعبدالحكيم أصغر أبنائي - وكان في الثانية عشرة - فرأيت على وجهيهما الحزن، ودخل ابني خالد الصالة أيضاً فقلت لهم: إن بابا عظيم وهو الآن أعظم فلا تزعلوا. رد عبدالحميد وقال بالحرف: أحسن يا ماما علشان بابا يستريح.

لم تمضِ دقائق حتى علا صوت الجماهير حول البيت.. وحضر الرئيس وصعد للدور الثاني ودخل حجرته وخلع بدلته ولبس البيجاما ورقد على السرير.

انسد الشارع وتعذر الدخول للبيت، ومنهم من لم يستطع الوصول للشارع الذي فيه بيتنا. حضر معظم المسؤولين.. نواب الرئيس ووزراء وضباط وامتلأ الدور الأول، ومنهم من كان يبكي ويصعد السلالم ويطلب الدخول للرئيس في حجرته. ورأيت بعضهم جلس على السلالم ينتحب وكنت أسمع صوت بكائه.. فكنت أدخل للرئيس في الحجرة وأخبره عمن يطلب مقابلته. وقد سمح لعدد قليل بالدخول إلى حجرته.. ثلاثة أو أربعة وأراهم يخرجون من عنده وهم ينتحبون، ثم قام وارتدى البدلة ونزل للدور الأول ومكث معهم لوقت قصير. وصعد إلى حجرته مرة أخرى وخلع البدلة وارتدى البيجاما ورقد في السرير وأخذ مهدئاً وقال: سأنام. وكان محمد علوبة الخاص بخدمته قد صعد وخبط على الباب ومعه مذكرة وأوراق فقال لي الرئيس: قولي له لا يحضر أي أوراق وينصرف، وبقيت بجانبه وأصوات الجماهير تزداد حول البيت.

نمت حتى الصباح وقمت كالعادة وأصوات الجماهير والهتافات لم تنقطع وتعلو بشكل لا أقدر أن أصفه، وخرجت من الحجرة وظل هو راقداً على السرير.. وكنت عندما أخرج من الحجرة في الصباح أخرج بهدوء ولا أدخلها حتى أسمع الجرس ليدخل الخاص بخدمته. وبعد وقت أدخل له ونتبادل تحية الصباح ثم أتركه ويكون قد بدأ في القراءة والاتصالات.. حتى يطلب الإفطار ويطلبني لأجلس معه. لم أدخل الحجرة في هذا الصباح إذ كان يدخل له زوار فرادى يمكثون وقتاً قصيراً ويخرجون.. وهو في حجرته لم يغادرها.

وقت الظهر وجدت الحديقة من الخلف يرص فيها كراسي صفوفاً، ووجدت الإذاعة والتليفزيون تجهز في الحديقة، ورأيت مذيعاً من الإذاعة وفريقاً من الأخبار في التليفزيون، ونظمت الكراسي ووضعت منضدة أمام الصفوف. سألت: ما هذا؟! فقيل لي إن مجلس الأمة سيجتمع هنا. وكان ترتيب الكراسي والصفوف بشكل أدهشني وكأنها صالة مجلس الأمة في الهواء الطلق.. فقلت في نفسي: لقد رأيت كثيراً من المواقف والمفاجآت الغريبة في حياتي، وها هي تختتم بمجلس أمة في البيت.

تركت الفراندة، وكنت أعد أكلاً خاصاً للرئيس فذهبت لإكماله.. فدخلت ابنتي منى وقالت: يا ماما أنور السادات - وكان في منصب رئيس مجلس الأمة - يعلن في التليفزيون أن بابا رجع رئيساً للجمهورية وأنت يا ماما هنا؟ فذهبت للصالة ورأيت أنور السادات وقد قرب من الانتهاء من الحديث فسألت: وما هذا مجلس الأمة الذي أعد في البيت في الحديقة والإذاعة والتليفزيون؟ فقالوا لي: إن أعضاء مجلس الأمة لم يمكنهم الحضور لشدة ازدحام الشوارع بالجماهير، وهم مجتمعون الآن في مقر المجلس بعد أن قبل الرئيس بالعدول عن التنحي. كل هذا والرئيس في حجرته لم يخرج منها.. دخلت له في الحجرة ووجدته راقداً على السرير.. ولم أقل شيئاً.

في صيف سنة 1967 بقينا في القاهرة حتى شهر آب/أغسطس فقال لي الرئيس: اذهبي إلى إسكندرية مع الأولاد، وظل هو في القاهرة. وفي شهر أيلول/ سبتمبر حضر الرئيس للإسكندرية بعد أن أحبط مؤامرة دبر لها المشير عبدالحكيم عامر للرجوع لمنصبه بالقوة، بعد تغيير الرئيس للقيادة في القوات المسلحة. أمضى جمال أياماً قليلة معنا وفوجئ بانتحار المشير.. تلقى النبأ بحزن عميق ورجع للقاهرة.. ورجعت مع الأولاد في اليوم التالي. وجدت الرئيس حزيناً وأشد ما أحزنه أنه عبدالحكيم عامر الصديق، وظل مدة على وجهه الحزن.

كان الرئيس يعمل باستمرار.. وأثناء الليل كنت في أي وقت وبعد أن ينام أسمع جرس التليفون ويكون من القيادة.. والقائد يطلبه في أي وقت وهو يطلبهم ويعطي أوامر وتوجيهات، وتكون عمليات عسكرية مرتبة وينتظر معرفة النتيجة، ومنها ما كان لا ينفذ حسب تعليماته وتوجيهاته وتحدث أغلاط فكان ينفعل.. وهذا أثناء الليل وأنا بجانبه وأرى على وجهه الضيق.

سنة 1968..

شعر الرئيس بألم في ساقه استمر لأشهر، ولم أره قد قلل من شغله أو استراح أبداً. قابل السفير محمد عوض القوني فأخبره أنه كانت عنده الأعراض نفسها في ساقه، وذهب لبلد في الاتحاد السوفياتي حيث توجد مياه معدنية تعالج هذه الحالة، وعمل حمامات لمدة ثلاثة أسابيع وشفي تماماً بعد فترة، وكررها في العام الذي تلاه وأصبح لا يشعر بتعب وقد مضت عدة سنوات. وكان الرئيس في زيارة للاتحاد السوفياتي في الصيف، وقبل عودته للقاهرة عمل له فحص طبي هناك وطلب منه الأطباء أن يقلع عن التدخين.. وتوقف عنه وهو في الاتحاد السوفياتي، وكانت آخر سيجارة أطفأها هناك. قالوا له أيضاً عن العلاج بالحمامات بالمياه المعدنية فرد: سأحضر للعلاج.. وكان ترحيباً بالغاً وعاد للقاهرة.

كان أول حديث له معي أنه توقف عن التدخين قبل يومين، وحدثني عن السفر للاتحاد السوفياتي للعلاج وقال: سترافقيني - إن شاء الله - وسيرافقنا أولادنا خالد وعبدالحكيم وعبدالحميد.

في آخر تموز/ يوليو غادرنا القاهرة على طائرة سوفياتية خاصة بالرؤساء جاءت للقاهرة خصيصاً لنسافر عليها. وصلنا لجمهورية جورجيا في مطار حربي، وكان في استقبالنا رئيس الجمهورية وزوجه، ورافقونا لبلدة سخالطوبو التي توجد فيها المياه المعدنية والحمامات لعمل العلاج، وتبعد نصف ساعة بالعربية عن المطار، وهي بلد صغير فيه ثلاثة أو أربعة مصحات، ومنظم لإقامة المرضى ومرافقيهم من أهلهم فقط، وبه شارع كبير واسع حوله أشجار منسقة ومقاعد، وفي آخر الشارع توجد محال أغلبها لبيع المرطبات والفاكهة، وكل شيء لخدمة المرضى والمرافقين لهم، ولا توجد مبان للسكن، ولا يذهب إليها إلا المواطنون الروس.

 أخليت مصحة لإقامة الرئيس، وكان يزوره كبار الأطباء، وأقام معنا طبيب ليتولى مباشرة العلاج، وكان الرئيس قد أبدى رغبته بأن تكون الزيارة للعلاج فقط ولا يقابل المسؤولين هناك.

انتهت أيام العلاج ورجعنا للقاهرة وقد مضى 23 يوماً.. وكان الأطباء الروس قد قالوا إن نتيجة العلاج سوف لا تظهر مباشرة، وسيستمر الألم في الساق لأكثر من شهر ثم يزول بالتدريج.. وشفي الرئيس وذهب عنه الألم الذي كان في ساقه والحمد لله.

الانشغال بالقوات المسلحة

الرئيس مشغول جداً وأهم ما يشغله هو القوات المسلحة وإعادة بناء جيش قوي وطرد اليهود. كان يتصل في أي وقت من الليل بقائد القوات المسلحة، والمقاتلون يقومون بعمليات داخل سيناء، وينتظر رجوعهم ولا ينام حتى يعرف النتيجة. وإذا حصلت خسائر أرى الحزن على وجهه.. هذا في الوقت الذي أكون فيه بجانبه، وعند نجاح العمليات أرى على وجهه الارتياح. وفي مرة كان الطيران قد قام بعملية وطائرة فقدت وكان الوقت بعد الظهر، حزن على الطيار.. وكنت معه في الحجرة وسمعت ما دار من حديث.

وفي المساء.. وكنت أمشي في الحديقة ونزل.. وكان يمشي أحياناً لدقائق قبل حضور زائر، فقابلني وقال لي: لقد وجد الطيار وهبط بالمظلة سالماً.. ورأيت على وجهه الارتياح وقال لي: إني أخبرك لأني أعرف أنه يسعدك أن تعلمي بسلامة الطيار. وكنت أتأثر جداً عند سماعي لخسائر وأرتاح لنجاح العمليات، ولا أعلق بكلمة كما هي عادتي.

 وكان الرئيس يطلب مني كثيراً الدعاء بالنصر أثناء تأديتي للصلاة ويقول لي: ادعي على اليهود.

لم أكن أتكلم معه فيما يختص بالسياسة أبداً إلا إذا هو تكلم.. وكان قليلاً ما يتكلم معي في موضوع يتعلق بالسياسة. وفي مرة كنت أتحدث معه فقلت له: أنا لا أتحدث إلا عن أشياء عادية ربما تضايقك فقال لي: تكلمي كما أنت.. وهذا يعجبني منك ويسليني ولا يضايقني أبداًَ بل العكس إنه يريحني حديثك الذي يبتعد عما يتعلق بالشغل أي السياسة.

النوبة القلبية الأولى  صيف 1969

بعد انتهاء امتحان خالد وحكيم ذهبت إلى إسكندرية إذ كان الرئيس يحب أن أكون مع الأولاد هناك، وكان يذكرني بأن أنبههم ألا يذهبوا بعيداً في البحر، وظل هو في القاهرة في منشية البكري حتى شهر آب/ أغسطس. حضر إلى الإسكندرية.. وبقي بضعة أيام أمضاها كلها في مقابلات وشغل.. يجلس في صالون يطل على البحر أو في مكتبه وأمامه دوسيهات يعمل باستمرار.

قال لى إنه سيسافر - إن شاء الله - للاتحاد السوفياتي ويقابل المسؤولين في موسكو، ثم يذهب لسخالطوبو لعمل العلاج بالحمامات هناك مرة أخرى، وكان الأطباء السوفيات نصحوه بأن يكرر العلاج بعد سنة. وقد بني بيت جهز لاقامة الرئيس وقت العلاج، وقال لي الرئيس: سترافقيني، وسيكون السفر في شهر أيلول/سبتمبر في الأسبوع الأول إن شاء الله. رجع الرئيس إلى القاهرة، وبقيت في إسكندرية حتى شهر آب/ أغسطس.

 فى أول أيلول/ سبتمر (1969) قامت ثورة ليبيا وانشغل الرئيس بأخبارها وتأجل السفر للاتحاد السوفياتي، ولم تمضِ إلا أيام قليلة وحضر قادة الثورة في زيارة للرئيس.. فقال لي: إن السفر سيكون في منتصف ايلول/سبتمبر - إن شاء الله.

بعد أيام شعر بتعب وارتفاع في درجة الحرارة، وأشار عليه الأطباء بالراحة في السرير.. وكانت النوبة القلبية. لم يخبرني وقال لي إن عنده إنفلونزا، وكان قد أوصى الأطباء بألا يخبروني عن مرضه. وبعد أيام.. وكنت أقابل ضيوفاً في المساء في الدور الأول.. وبعد انتهاء الزيارة وجدت أدوات بجوار السلم فسألت: ما هذا؟ فقالوا لي إنها لعمل أسانسير.. ففهمت وصعدت السلالم وأنا أبكي. قابلني الدكتور الخاص خارجاً ووجدني أبكي فقلت: إني رأيت استعداداً لعمل أسانسير.. إن الرئيس به شيء في قلبه. وطبعاً الدكتور نفى وقال لي: إن أحد الأطباء المعالجين له مريض بالقلب ولا يستطيع أن يصعد السلالم، وسيجهز الأسانسير من أجله.. وطبعاً الدكتور فوجئ ولم يجد كلاماً يقوله لي غير هذا.

ودخلت حجرتي وبكيت كثيراً. لم أظهر أي شيء أمام الرئيس ولم أذكر الأسانسير.. وبقيت كما أنا بجانبه.

كيف أمضى الرئيس أيام المرض؟

كان يتحدث بالتليفون طوال اليوم في توجيهات مع القوات المسلحة والوزراء وغيرهم، وقد لاحظ ذلك الطبيب الخاص الصاوي حبيب الذي كان يقضى وقتاً في البيت، ويقوم بتحضير الدواء في أوقاته وينتظر حتى تنتهي المكالمة. وكنت قد لاحظت المجهود الزائد الذي يقوم به الرئيس رغم أني لم أكن أعلم عن المرض في الأيام الأولى إذ كان يطلب وجبات الطعام تجهز على ترابيزة صغيرة في الحجرة، وأجلس معه ونتناول الطعام سوياً.. أي لم يكن يرقد في السرير كما أعرف عن مرضى القلب.. ويقوم للحمام ويحلق ذقنه كالعادة، وكل ما كان يفعله ألا يذهب للصالة حيث حجرة الطعام الملحقة بها، أي أنه لم يكن يستريح في السرير كل الوقت، وأحياناً كان يجلس على فوتيه موجود في الحجرة في مكانه للآن.

وقد أخبر الطبيب الخاص الأطباء المعالجين فنصحوه بالراحة التامة لكنه ظل كما هو. وبعد أقل من أسبوعين كان يطلب الزائر، ويصعد للدور الثاني ويقابله في المكتب الملحق بحجرته ويجلس معه لوقت.. والمقابلة شغل. وبعد شهر سألني: هل انتهى عمل الأسانسير؟ فظهر عليّ الارتباك.. فقال: إني أعلم أنه يجهز في البيت أسانسير، وقد سألني الأطباء ووافقت وإنك لم تقولي لي عنه.. فقلت: نعم إنه انتهى العمل فيه.. وقال: غداً - إن شاء الله - سأنزل للدور الأول. وفي اليوم التالي حضر مقابلة، وظل حوالى شهر يقابل الزوار في الدور الأول، وأحياناً في مكتبه في الدور الثاني. بعد مضي شهرين حكى لي الرئيس عن مرضه وقال: إنه كان نوبة قلبية لكن حاجة بسيطة الحمد لله.. فقلت: إني فهمت وكنت أعرف، وابتدأت أشعر بالدموع فخرجت من الحجرة..

بعد شفائه جاء شهر رمضان.. وكان أول مرة يفطر فيه الرئيس ولم يصمه.. يتناول وجبة خفيفة وقت الظهر ويتناول معنا الإفطار وقت المغرب.

عودة إلى العمل المكثف

فى شهر كانون الثاني/ يناير سنة 1970 سافر الرئيس لموسكو ورافقه طبيب اختصاصى مع الطبيب الخاص في زيارة قصيرة لمدة أربعة أيام.

 استمر الرئيس يخرج فى المساء، ويجتمع بالضباط في القيادة، ويسهر لساعة متأخرة كما كان يفعل قبل مرضه.

كان بعد أن ينتهي من الشغل والمقابلات في الدور الأول.. يطلب البالطو وقت الشتاء ويخرج، ولم يقلل من شغله أبداً، وكان الأطباء يطلبون منه الراحة ويقول لهم: إني أنفذ كل ما تطلبونه من علاج إلا أن أستريح وأقلل من الشغل.. فهذا ليس في إمكاني تنفيذه. وكان يذهب للجبهة ويجتمع مع المقاتلين ويبقى يوماً أو يومين.

وفي مرة بعد عودته من زيارة الجبهة قال لي: كنت أتمنى لو أبقى هناك حتى لو أموت.. وكان قد أمضى يومين بين المقاتلين وحرب الاستنزاف على أشدها.. مع المجندين والكثير منهم من خريجي الجامعات والمعاهد ويقومون بعمليات بطولية داخل سيناء.

كان الرئيس عند حدوث خسائر يحزن حزناً شديداً.. وقال لي يوماً: عندما أرى خالد ابني أكاد لا أقدر أن أنظر اليه ويزداد حزني إذ أراهم مثله تماماً ويذكرني بهم.. وكان خالد وقتها طالباً في كلية الهندسة جامعة القاهرة.

ذهب الرئيس لاستراحة القناطر الخيرية وكنت في منشية البكري، وكان يوم عيد ميلاده في 15 كانون الثاني/ يناير 1970. ذهبت والأولاد لنقضي اليوم معه في القناطر، وكنا - أولاده وأنا - كل واحد يقدم له هدية رمزية ونحتفل بعيد ميلاده.

ولم يكن يشاركنا أبداً في الاحتفال، ونحضر حلوى ونضع عليها الشموع ونطفئها كلنا، وكان يخرج من حجرته لينزل للدور الأول فيرى الحلوى على الترابيزة في حجرة السفرة الملحقة بالصالة فيبتسم ويحيينا وينزل لمكتبه أو يخرج.. وكان البيت يملأ بالأزهار المهداة للتهنئة بعيد ميلاده.

رجعت بعد الظهر لمنشية البكري واحتفلنا بعيد ميلاده وأطفأنا الشموع، وظل هو في استراحة القناطر حيث أمضى يومين.

نجح ابننا عبدالحكيم في الثانية ثانوي بمجموع 84 % فسأله والده عن الهدية التي يريدها: رد عبدالحكيم قائلاً: يا بابا أنا لا أريد شيئاً السنة دي.. أريد أن أذهب إلى لندن لمدة أسبوع مع مهندس الطائرة سعد الصيرفي، الذي كان يرافق الرئيس في رحلاته، وكان حكيم يقابله في مكتب السكرتارية.. فقال له الرئيس، وكنت في الحجرة وقت دخول حكيم: إن لك أخوة في الجبهة الآن في الحر وأنت تذهب إلى لندن؟ إن شاء الله بعد ما نطلع اليهود أرسلك تسافر كما تشاء حتى لو طلبت أن تذهب لطوكيو.

أنور السادات

كنت أجلس مع الرئيس في حجرته وتحدث معي عن أنور السادات نائب الرئيس وقال: إنه أطيب واحد ويحبنا.. ولا ينسى أبداً.. ودائماً يقول لي أنا لا أنسى فضلك.. لم أكن في الثورة وأنت بعت لي وجبتني، وقال لي الرئيس: إنت عارفة إنه ما كانش في الثورة وأنا بعت جبته؟ فقلت: نعم أعرف ذلك. ولم يكن أنور السادات في القاهرة وقت قيام الثورة وأرسل الرئيس في طلبه من رفح.

آخر خطاب في عيد الثورة

 كان يوم 23 تموز/ يوليو 1970 في المساء وجلست كالعادة أمام التليفزيون مع أولادي نستمع لخطاب الرئيس، الذي أعلن فيه الانتهاء من بناء السد العالي وهنأ الشعب ببناء السد.. وكان آخر خطاب له في عيد الثورة.

عبدالحميد

 طلبني عبدالحميد بالتليفون، وقال: لقد قالوا لي أن أخرج وأحضر للبيت اجازة من الكلية البحرية.. يا ماما أنا لا أريد أن أخرج بمفردي في غير وقت الخروج، إني أشعر بإحراج (من زملائه) ولا أريد الحضور للبيت الآن.. وسألني: هل طلبتم خروجي؟ وكان متضايقاً وهو يتحدث.

 ودخل الرئيس أثناء الحديث فقلت له: عبدالحميد يتحدث.. فأخذ السماعة وحياه بحرارة وقال له: وحشتني جداً يا ميدو.. كما تريد.. افعل ما يريحك.. فقلت: فليحضر لنراه.. فقال لي الرئيس: إنه جدع حساس وضحك، وقال: إنه وزير الحربية الذي طلب خروجه بعد الحديث في القطار، ثم دخل حجرته.

بعد وقت قصير.. وكان يتحدث بالتليفون وكنت في الصالة ورأيت عبدالحميد أمامي. استقبلته بحرارة ودخلت معه للرئيس في الحجرة فصافحه وقبله ثم قال له وهو يضحك: إنك تدخن.. وسأله عن عدد السجائر التي يدخنها، وقال له: لا تدخن كثيراً حتى لا تضر بك، وبعدين لما تكبر يقول لك الأطباء لا تدخن.. ثم استمر في الحديث بالتليفون. وكان الذي يتحدث معه هيكل.. وحكى له وهو يضحك عن عبدالحميد، وكيف أنه شم رائحة السجائر وهو يقبله، وكان الرئيس لم يدخن ولو سيجارة واحدة منذ أن كان في الاتحاد السوفياتي في شهر تموز/ يوليو 1968 وطلب منه الأطباء عدم التدخين.

جلسنا نتناول العشاء، وقال عبدالحميد: لقد رفضت الخروج، وبعد شوية قال لي الضابط النوبتشي: إنك يجب أن تخرج الآن فلدينا أمر بخروجك، فسأله الرئيس ومتى سترجع الكلية؟ قال: إنهم قالوا لي ارجع الكلية الساعة العاشرة صباح الغد، لكن يا بابا أريد أن أرجع الليلة حتى أكون مع الطلبة في الصباح.. فقال له الرئيس: اذهب يا بني كما تريد، وصافحه ودخل حجرته.. وغادر عبدالحميد البيت للكلية بعد تناوله العشاء معنا.. وكانت آخر مرة رأى فيها الرئيس ابنه الطالب في الكلية البحرية في السنة الثالثة.

انا أعمل من أجل هؤلاء

 قال لي وهو يشاهد الأهالي من نافذة القطار: إنني أشتغل من أجل هؤلاء.. فقلت: إنهم في مظهر أحسن من قبل، فرد، وقال: أريد أن ينال هؤلاء الأطفال فرصة التعليم والعلاج والمظهر كخالد ابننا.. لم يحن الوقت بعد.

وكان الرئيس يتأثر عند رؤيته لطفل يشتغل عند أسرة كخادم، وكان يقول لي: إنها مشكلة لا تحل إلا بالتدريج، ويستطرد: ليس في وسعي عمل شيء إلا العمل باستمرار على رفع مستوى الفلاح في القرية والكادحين ونشر التعليم.. وإن شاء الله تتلاشى.

أخبار الاعتداء على الفلسطينيين في الاردن ومؤتمر القمة في الهيلتون

بقينا في اسكندرية حتى يوم الاثنين 12 ايلول/ سبتمبر.. لم أره يستريح، وكل وقته كان مشغولاً بمتابعة أخبار الاعتداء على الفلسطينيين في الاردن.

وأمضى يوم الاحد والاثنين يمهد لمؤتمر قمة عربي، ويطلب الرؤساء والملوك العرب بالتليفون ويتحدث معهم، وقال لي: سنغادر الاسكندرية في المساء. وكان في الصباح – وهو يوم الاثنين – وقد علم بوفاة زوج خاله فقال: سأذهب لتعزية اولاد خالي ونحن في طريقنا للقاهرة، اذ يقيمون في اسكندرية. مكثنا عندهم نصف ساعة.. وفي الساعة السابعة مساء غادرنا اسكندرية للقاهرة.

أثناء الطريق تحدث بالتليفون وهو في العربة وعلم ان الرئيس الليبي معمر القذافي يصل في الليل فقال لي بعد وصولنا: سأخرج لأجتمع مع الرؤساء الذين وصلوا فقلت: الأحسن ان تستريح الليلة.. فرد لقد عملت ترتيب مقابلتهم.

ورجعنا البيت بمنشية البكري وكانت الساعة حوالى العاشرة مساء. استبدل الرئيس ملابسه وخرج.. وكنت قد رقدت في السرير استريح، وانا أعرف ما بذله من مجهود طوال اليوم وأراه يخرج.. رجع في الساعة الثالثة صباحاً.

اليوم التالي الثلاثاء خرج في الصباح ورجع قبل تناول الغداء، وفي المساء خرج ورجع بعد تناول العشاء مع الضيوف في قصر القبة.

يوم الأربعاء خرج في الصباح وتناول الغداء مع الضيوف وظل خارج البيت، وفي المساء خرجت لزيارة احدى قريباتي وتسكن في الدقي.. دعوتها ان تحضر معي للبيت لتشاهد فيلماً في السينما. عندما رجعت الى البيت وجدت الرئيس في حجرته. دخلت له فوجدته يستعد للخروج.. تبادلنا التحية وقلت له: لقد كنت عند قريبتي وأحضرتها معي لنشاهد فيلماً فقال: أحسن فلتتسلي معها، ثم أضاف: سأذهب وأبقى في الهيلتون مع الضيوف حتى ينتهي المؤتمر.. وحياني وخرج حتى المدخل بجوار السلم.. وخرجت معه ووقف حوالى دقيقتين يقرأ في نوبة صغيرة ثم حياني ونزل السلالم.. وبقيت واقفة فنظر لي مرة ثانية وهو ينزل السلالم وحياني بيده.. وكان ذلك من عادته قبل خروجه اذا كنت واقفة أثناء نزوله السلم.

خرج وقريبتي جالسة في الصالون في الدور الثاني، وكان يدخل الصالة ويصافح الضيوف الموجودين ويكونون عادة من الأقارب، لكنه لم يدخل في هذه المرة.

اللحظات الأخيرة

لبث الرئيس في الهيلتون.. وكنت أتتبع الأخبار في الجرائد والإذاعة والتليفزيون. وفي يوم الأحد، وكنت جالسة أمام التليفزيون وكانت نشرة الأخبار الساعة التاسعة مساء تقرأها المذيعة سميرة الكيلاني، وقالت: لقد تم الوفاق واختتم المؤتمر أعماله، وغادر الضيوف من الملوك والرؤساء القاهرة، وكان في توديعهم الرئيس وسيغادر الباقي غداً.. فهللت من الفرحة وصفقت بيدي، وكانت ابنتي منى حضرت في هذه اللحظة، وبعد انتهاء نشرة الأخبار قالت لي: نشاهد يا ماما فيلماً في السينما؟ ونزلنا للدور الأول.

وفي الساعة العاشرة والنصف جاء لي السفرجي يقول: لقد حضر سيادة الرئيس.. فقلت لمنى: فلتكملي أنت الفيلم وسأصعد، وتركتها. دخلت الحجرة وجدت الرئيس راقداً على السرير.. صافحته بحرارة وقلت له: الحمد لله لقد سمعت نشرة الأخبار وفرحت جداً وهللت.. فقال: الحمد لله.. وكان قد طلب العشاء وسألني: هل تناولت عشاءك؟ فقلت: نعم.. وجلست معه ولم يأكل إلا لبن زبادي ورجع إلى السرير.

لم تستكمل منى مشاهدة الفيلم وطلعت ودخلت حجرة والدها وصافحته وجلست معه على طرف السرير، وحضر خالد أيضاً وصافحه وجلسا في الحجرة قليلاً يتحدثان مع والدهما.

ظل الرئيس يتحدث في التليفون حتى الساعة الثانية عشرة ثم قال: سأنام مبكراً، وغداً سأذهب في الصباح لتوديع الملك فيصل وأمير الكويت.. وأطفأ النور ونام. في الصباح استيقظ الرئيس قبل الثامنة، وحضر الطبيب الخاص وكنت قد قمت وخرجت من الحجرة ودخلت حجرتي، استعداداً للدخول الى الرئيس في حجرته لأتناول معه الإفطار فدخل لي في الحجرة لتحيتي قبل خروجه وقال: سأذهب للمطار.. ووجدت الإفطار قد جهز في حجرته ولم يتناول شيئاً، وعلمت أنه تناول فاكهة فقط.

 رجع الرئيس في الساعة الثانية عشرة وحضر الطبيب الخاص ودخل له، وكنت سأدخل للرئيس ووجدت الدكتور يجري له فحص رسم قلب فرجعت ولم أدخل له في الحجرة، ثم بعد ذلك خرج الرئيس مرة ثانية لتوديع أمير الكويت.

رجع الرئيس من المطار في الساعة الثالثة بعد الظهر، وعند خروجي من حجرتي وجدت ابنتي هدى تستعد لتذهب إلى بيتها بعد أن انتهت من الشغل، وكانت تجلس في مكتب والدها في الدور الثاني تعمل سكرتيرة له منذ عام.

وكان الرئيس بعد مضى بضعة شهور من شغلها معه قال لي: إن هدى الآن تدربت على العمل معي وتعلمت وتريحني.. وكان سعيداً بها.

قالت لي هدى بصوت خافت.. وكنت قد مشيت حتى باب حجرة النوم: إن بابا تعبان وسينام.. فرآني وقال: تعالي يا تحية.. فدخلت الحجرة، وأشار لي بيده وهو راقد على السرير أن أجلس.. فجلست على طرف السرير فسألني: هل تناولت الغداء يا تحية؟ قلت: نعم تناولته مع الأولاد.. فقال لي: أنا مش هاتغدى.. وأشار لي بيده أن أبقى كما أنا جالسة.. فبقيت حوالى عشر دقائق وهو راقد لم يتكلم. وحضر الدكتور الصاوي حبيب فقال له الرئيس: ادخل يا صاوي فدخل، وقمت كعادتي عند دخول الأطباء له في الحجرة وخرجت إلى المكتب، فقال الدكتور: نريد عصيراً.. فذهبت وأحضرت عصير برتقال وليمون جهزته بنفسي بسرعة وحملتهما ودخلت له في الحجرة..وقلت: هذا برتقال محفوظ وليمون طازج فقال: آخذ برتقال، وشرب الكوب وأنا واقفة وقال لي: متشكر.

 خرجت من الحجرة وجلست في حجرة المكتب، وبعد دقائق حضر طبيب اختصاصي.. منصور فايز فقلت له بالحرف: أنت جيت ليه يا دكتور دلوقتي؟ أنا لما بأشوفك بأعرف إن الرئيس تعبان وبأكون مشغولة.. فرد: أنا معتاد أن أحضر كل أسبوع في يوم الاثنين واليوم الاثنين.. ودخل للرئيس.

بقيت جالسة فى حجرة المكتب وسمعت الرئيس يتحدث، وسمعت الراديو.. نشرة الأخبار في إذاعة لندن.

قالت لي منى ابنتي: بابا بخير والحمد لله.. تعالي نخرج من هنا. وخرجت معها وجلسنا على الترابيزة في حجرة السفرة، وبعد دقائق جاء لي الطبيب الاختصاصي وقال: الرئيس الآن تحسن وإذا أردت الدخول له فلتدخلي.. وأخذ يدخن سيجارة فقلت له: لا داعي حتى لا يشعر بأني قلقة.

بعد لحظات جاء الدكتور الصاوي يجري مسرعاً قائلاً: تعال يا دكتور.. ودخل الدكتور يجري، ودخلت لحجرة المكتب ومنعتني منى من الدخول لوالدها وقالت: إن بابا بخير لا تخافي يا ماما، وأجلستني في حجرة المكتب وجلست معي. وبعد فترة حضر دكتور آخر ثم ثالث.. فدخلت عنده ووجدت الأطباء بجانبه يحاولون علاجه.. وكنت أبكي وخرجت حتى لا يراني الرئيس وأنا أبكي، ثم دخلت له مرة ثانية وازداد بكائي وخرجت وجلست في حجرة المكتب، ودخل عدد من السكرتارية، ثم حضر حسين الشافعي ومحمد حسنين هيكل.. وكل واحد يدخل الحجرة ولا يخرج منها.. وكنت أبكي.

أصرت منى على أن أخرج إلى الصالة فكنت أمشي وأقول: جمال جمال.. ووجدت الكل يخرج وينزل السلالم فدخلت مسرعة.. رأيت حسين الشافعي يخرج من الحجرة يبكي ويقول: مش معقول يا ريس. وحضر خالد وعبدالحكيم فى هذه اللحظة ولم يكونا في البيت ولا يدريان شيئاً، ودخلا مسرعين، وحضرت هدى وكانت لا تعلم بما جرى بعد ذهابها لبيتها.

دخلت للرئيس ووقفت بجواره أقبله وأبكيه، ثم خرجت من الحجرة لاستبدل ملابسي وألبس ملابس الحداد. ونزلت مسرعة إلى الدور الأول ووجدت الكل.. الأطباء والسكرتارية وهيكل وحسين الشافعي وأنور السادات حضر.. والكل واقف في الصالون.

 قلت لقد عشت ثمانية عشر عاماً لم تهزني رئاسة الجمهورية ولا كوني زوجاً لرئيس الجمهورية وسوف لا أطلب منكم أي شيء أبداً.. أريد أن يجهز لي مكان بجوار الرئيس لأكون بجانبه.. وكل ما أرجوه أن أرقد بجواره.

خرجت إلى الصالة وجاء لي هيكل والدكتور الصاوي وطلبا مني أن أصعد للدور الثاني، ثم أدخلني الدكتور حجرتي وأعطاني بضع حبات دواء وظل بجانبي، ثم أعطاني حقنة. وحضرت إحدى قريباتي وظلت معي، وجاء عبدالحميد من إسكندرية ودخل لي في الحجرة وهو يبكي، وقال: لقد قالوا لي إن بابا تعبان وحضرت في طائرة، ودخلت هدى ومنى.. ولم أدر كم مضى من وقت.. فقمت لأخرج من الحجرة فقال لي الدكتور: لماذا قمت؟ فقلت سأذهب وأجلس بجانبه.. فقالت هدى: لقد ذهب بابا لقصر القبة.. وذهبنا معه.. فقلت: حتى الآن أخذوه!

والآن أعيش المرحلة الثالثة من حياتي حزينة أبكيه.. وقد زاد حزني حسرة، وسأظل أبكيه حتى أرقد بجانبه في جامع جمال عبدالناصر بمنشية البكري.. وقد جهز لي المكان كما طلبت.

 إنه جمال عبدالناصر الذي عاش عظيماً.. وهو في رحاب الله عظيم.. تاريخه وحده هو شاهده.

تحية جمال عبدالناصر

 

الوحدة بين الانفصال والرحيل / د. فؤاد الحركة

يعتبر يوم 12 شباط/ فبراير 1958 يوماً مشهوداً في التاريخ العربي الحديث، حيث أعلن الرئيس جمال عبدالناصر قيام الجمهورية العربية المتحدة بين الاقليم المصري ((الجنوبي)) والاقليم السوري ((الشمالي)) بحضور المواطن العربي الأول الرئيس شكري القوتلي حيث قال في خطابه الى الامة: ((لقد قامت دولة كبرى في هذا الشرق ليست دخيلة فيه ولا غاصبة، ليست عادية ولا مستعدية، دولة تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تقوي ولا تضعف، توحد ولا تفرق، تسالم ولا تفرط، تشد ازر الصديق، ترد كيد العدو، لا تتحزب ولا تتعصب، لا تنحرف ولا تنحاز، تؤكد العدل، تدعم السلام، توفر الرخاء لها ولمن حولها للبشر جميعاً بقدر ما تتحمل وتطيق)).

وبتاريخ 2 كانون الأول/ ديسمبر 1971 كان يوماً خالداً حيث تم اعلان قيام اتحاد متماسك بين سبع امارات ((ابو ظبي، دبي، الشارقة، عجمان، ام القيوين، رأس الخيمة والفجيرة)) بإسم ((دولة الامارات العربية المتحدة، بقيادة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وبعد رحيله تسلم الراية الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائباً للرئيس ورئيساً لمجلس الوزراء.

وفي 22 ايار/ مايو 1990 أعلن من عدن قيام وحدة بين شطري اليمن الشمالي واليمن الجنوبي بإسم الجمهورية اليمنية وعاصمتها صنعاء.

ان الأمل المشترك الذي يراود العرب منذ زمن بعيد هو تحقيق وحدتهم القومية التي كانت تظللهم في كنف الدولة الاسلامية.

ولكن كانت تجربة الوحدة بين مصر وسورية عرضة للعديد من المشاكل بسبب عملاء الداخل وتهديد دول الاستعمار الغربي التي لا يناسبها قيام دولة عربية قوية مناهضة لدول الاستعمار، وكذلك لعدم وجود حدود مشتركة بين مصر وسورية كما هي الحال في دولة الامارات العربية المتحدة والجمهورية اليمنية.

ولم يقدر لدول الوحدة ان تواصل مسيرتها، وانكشفت التناقضات بين القوى السياسية في الاقليم السوري، ما أدى الى نجاح قوى الاستعمار في فرض نفوذها على قوى المعارضة الداخلية المتمثلة بالشركة الخماسية التي أعلنت انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة بتاريخ 28 ايلول/ سبتمبر 1961 والذي اعتبر أكبر ضربة لفكرة الوحدة العربية التي جسدها جمال عبدالناصر، الذي وجه في 5 تشرين الأول/ اكتوبر 1961 خطاباً الى الأمة عن عملية الانفصال فقال: اني اشعر في هذه اللحظات الحاسمة انه ليس من المحتم ان تبقى سورية قطعة من الجمهورية العربية المتحدة ولكن من المحتم ان تبقى سورية.

بعد عملية الانفصال ورحيل القائد، تقزمت القيادات وانهارت التقاليد والعادات وضاعت القيم والاخلاق ودبت الفوضى والسرقات والفساد وانتشرت أعمال التدمير والتفجير والقتل في بعض الدول العربية.

لقد ربط القدر بين يوم الانفصال السوري في 28 ايلول/ سبتمبر 1961 وبين رحيل القائد العظيم جمال عبدالناصر في 28 ايلول/ سبتمبر 1970.

رحل القائد بعد ان بنى الجيش المصري من جديد، وبدأ حرب الاستنزاف العسكري ضد العدو الصهيوني، وتابع المسيرة واعداد الخطط المختصين في القيادة باشراف الفريق أول سعدالدين الشاذلي ر.ا.ح.ق.م.م. وتمت عملية العبور وتحطيم خط بارليف في تشرين الأول/ اكتوبر 1973 ((العاشر من رمضان)) وهكذا انتهت اسطورة جيش العدو الذي لا يقهر.

د. فؤاد الحركة

 

الوسوم