بيروت | Clouds 28.7 c

أثر التربية في صلاح المجتمع / بقلم الشيخ أسامة السيد

أثر التربية في صلاح المجتمع / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 27 ايلول 2019 العدد 1918

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى: ((يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)) سورة التحريم.

ليُعلم أن الأولاد أمانة في أعناق والديهم ولهم عليهم حقوقٌ كما أن للوالدين حقوقاً، فينبغي أن لا يُهمل الأبوان أمر أولادهم، كما ينبغي للأولاد أن لا يُبادلوا إحسان الوالدين بالعقوق، وقد أعطى الشرع لكل ذي حقٍ حقه فينبغي لكل شخصٍ أن يعرف ما له وما عليه ليُحسن الالتزام بما أوجبه الله عليه، ولا تتأتى معرفة ذلك إلا بطريق العلم ولذلك أُمرنا بالعلم حيث إن سبيل الوقاية من النار لا يُعرف إلا بالتفقه في الدين.

أخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم قال: ((تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ((قوا أنفسكم وأهليكم نارا)) فقالوا: ((يا رسول الله كيف نقي أهلنا نارا؟ قال: تأمرونهم بما يحبه الله وتنهونهم عما يكره الله)). وروى البيهقي عن سيدنا علي في تفسيرها قال: ((علّموا أنفسكم وأهليكم الخير)).

 

التربية الحقيقية

وليست التربية أن تؤمّن لأولادك الطعام والشراب واللباس والمسكن فقط، بل إن المطلوب منك أيها الأب أعظم من ذلك ولا يعني هذا إهمال تعاطي أسباب المعيشة، ولكن الأولى أن تهتم لأمر دينهم فتقدِّم لهم ما هو ضروري من علوم العقيدة بأن تزرع في قلوبهم التنـزيه ببيان أن الله لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيءٌ ولا يكون إلا ما يريد ولا يحويه مكانٌ ولا يجري عليه زمان، وأن الله خلق جنةً وخلق نارًا وأنه سيُفني الجن والإنس ثم يبعثهم للحساب، وتعلّمهم ما يحتاجونه من مسائل الطهارة والصلاة وغير ذلك، وتبين لهم حرمة الزنى والكذب والسرقة ومشروعية السواك وصلاة الجماعة وغير ذلك من الأمور الظاهرة بين المؤمنين، فقد روى ابن ماجه في ((سننه)) عن جندب بن عبد الله قال: ((كنا ونحن فتيانٌ حَزَاورةٌ فتعلّمنا الإيمان قبل أن نتعلّم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا)) وقوله ((حَزَاورة)) جمع حَزْور وهو المراهق أي الذي قارب البلوغ.

وإننا نرى كثيرًا من الناس يجلبون لأولادهم المعلمين من أجل الدروس الخاصة في المنازل ويدفعون في ذلك الأموال ليكون الولد قويًا في مادة كذا ومادة كذا من العلوم الكونية وهذا عملٌ لا نعترض عليه، ولكن المؤسف أننا قلّ أن نرى من يهتم لتمكين أولاده بعلم الدين وأن نرى من يسعى لجلب معلم ليُدرّس ولده ما لا بد من معرفته من المسائل والأحكام الشرعية الضرورية، فصار علم الدين عند كثيرٍ من الناس على هامش الحياة كأنه فَضْلَة، وصرنا نرى نتيجة ذلك التخلُّف والتراجع والجهل فأحدق الخطر بأمتنا من كل جانب، وصار كثيرٌ من الناشئة بسبب الإهمال وسوء التربية عونًا للعدو من حيث لا يشعرون. وقد طال هذا الفساد كثيرًا من المدارس والمعاهد والجامعات فلربما انتسب الشاب إلى معهدٍ من هذه المعاهد أو الجامعات فدخله مؤمنًا وتخرَّج منه مُلحدًا أو متطرفًا. نقول هذا ولا نُبالغ ويعرف ذلك من يعرف.

 

ناشئةٌ أبطال

ومن هنا فإننا نتوجه بنصيحة صادقة ندعو من خلالها الآباء إلى النظر في شؤون أبنائهم وإعطائهم العناية والرعاية المطلوبة، فإنه ينبغي أن يُربَّى الولدُ والبنتُ على أمورٍ منها الأدب والخشوع والتقوى ومحاسبة النفس والإخلاص والصدق وحب الخير للغير وحسن الاستماع لأهل العلم والفضل والاقتباس من هديهم، وأن يُهتم لأمر إطعامهم بحيث يحرص مُعيلهم على تقديم الحلال لهم كي لا يدخل إلى جوفهم حرام فتنعجن طينتهم به فيشب الولد وقد غُذي بالحرام فيكون ذلك سببًا في انحرافه، فعن سيدنا أبي بكر الصدِّيق قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل جسدٍ نبت من سُحتٍ (حرام) فالنار أولى به)) رواه البيهقي.

ولو أمعنا النظر عبر التاريخ لوجدنا كم كان لحُسن التربية والاهتمام بأمر الناشئة من أثرٍ طيب، فقد ولّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسامةَ بن زيد قيادةَ جيشٍ فيه أبو بكرٍ وعمر، وأسامة يومها في العشرين من عمره، وقاد محمد بن القاسم المجاهدين أيام بني أمية فافتتح من أرض العجم بلادًا وحُصونًا كثيرة وهو ابن سبع عشرة سنةً، وفتح السلطان محمد الثاني الفاتح العثماني القُسطنطينيةَ بعدما تراجعت عند أسوارها الجيوش عبر التاريخ ولم تتمكن من حصونها وله نحو عشرين سنة من عمره، وتحقق فيه الحديث الشريف الذي رواه أحمد وغيره عن بشرٍ الخثعمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتُفتَحنَّ القُسطنطينيةُ فلنِعْمَ الأميرُ أميرُها ولنِعْمَ الجيشُ ذلك الجيش)) وكان هذا الفتح بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانية قرون. ولقد بنى السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي المدارس الصلاحية لتلقين أبناء المؤمنين العقيدة الحقة فأعدَّ جيلاً استطاع أن يزحف به لتحرير بيت المقدس وأن يهزم أربعة عشر ملكًا من ملوك أوروبا مع كل ملكٍ كذا وكذا من الجحافل، وما زال التاريخ يتغنّى بذلك المجد الذي لا ينمحي رغم أعاصير الزمان، وقد كان من أثر حسن التربية قديمًا أن يُرى الولد يحفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع أو تسع سنين بل قد بلغ الشافعي درجة الإفتاء بالاجتهاد وهو ابن أربعة عشر عاماً، وأين شيوخ اليوم بالنسبة لفتيان الأمس؟!!

أين كل هؤلاء من أبطال وأكابر تاريخنا العظيم الذين قدَّموا للبشرية نموذجًا باهرًا في أن العبرة ليست بمجرد السن، وأن الولد إن اهتممت به حق الاهتمام يمكن أن يتحقق على يده ما عجز عنه كثيرٌ من الكبار.

 إن ولدك أمانة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته الإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيته والمرأة راعيةٌ في بيت بعلها ومسؤولةٌ عن رعيتها والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤولٌ عن رعيته)) رواه البخاري عن عبدالله بن عمر.

والحمد لله أولاً وآخراً.

الوسوم