بيروت | Clouds 28.7 c

مصر بين العروبة والفرعونية / بقلم السيد صادق الموسوي

مصر بين العروبة والفرعونية / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 26 تموز 2019 العدد 1910

 

يدور جدل واسع بين المصريين منذ أمد بعيد حول الهوية المصرية هل هي فرعونية قبطية أم هي عربية إسلامية، فرأس الكنيسة القبطية بالعالم هي في مصر ورأس الإفتاء الإسلامي المتمثل بمشيخة الأزهر أيضاً في مصر، ولكلٍ من الرأسين مؤيدوه ومناصروه.

ورد في القرآن الكريم أن سكان أرض مصر كانوا من القبطيين وأن بني إسرائيل أي أبناء النبي يعقوب على نبينا وآله وعليه السلام جاءوا من البدو واستوطنوا في أرض مصر بعدما تبوّأ النبي بوسف عليه السلام السلطة فيها وتعرف عليه إخوته الذين ألقوه من قبل في الجب، حيث خاطبهم قائلاً: ((اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين))، وطوال عقود توالد وتناسل أبناء يعقوب عليه السلام أو بنو إسرائيل في مصر حتى اعتلى أحد الفراعنة العرش واستكبر فيها وجعل نفسه إلهاً يُعبد من دون الله.

وبسبب التزام بني إسرائيل بالعقيدة التوحيدية ورفضهم لعبادة فرعون واجهوا أشد أنواع العذاب على أيدي جلاوزته كما جاء في القرآن الكريم واصفاً حالهم: ((وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)).

ولما أعلمه بعض حاشيته بأن سلطانه مهدد من قبل مولود سيولد في بني إسرائيل أمر فرعون بقتل كل مولود ذكر في مصر فور ولادته، لكن التقدير الإلهي كان أن تخلص الطفل موسى من القتل بل صار في حضن زوج فرعون نفسه وتربى في قصر من سيقضي على حكمه مستقبلاً.

وكان مطلب موسى وأخيه هارون الوحيد من فرعون وبأمر من الله سبحانه بعد جعلهما نبيين هو: ( فأتيا فرعون وقولا إنّا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم ).

وبسبب نصرته لرجل من قومه أثناء شجار له مع رجل من الأقباط أدى إلى مقتل القبطي اضطر موسى للخروج خائفاً يترقب لأنه علم بأن هناك قراراً بقتله من جانب ذوي القتيل القبطي ((وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين)).

وهناك تصريحات كثيرة في القرآن الكريم تؤكد أن الأقباط هم سكان مصر السابقون وأن بني إسرائيل استوطنوا مصر لاحقاً ولفترة غير طويلة، حيث خرجوا مع النبي موسى عليه السلام إلى سيناء عابرين النيل، ثم عاشوا في التيه أربعين سنة كما جاء في القرآن الكريم، ثم استوطنوا فلسطين في ضيافة أهلها الأصليين فأصابهم الإنحراف عن الشريعة الإلهية، بل صاروا يقتلون الأنبياء وهداتهم إلى الصراط المستقيم حتى وُلد عيسى عليه السلام بالطريقة الإعجازية المعروفة في فلسطين وكان وجهته أيضاً بني إسرائيل ((ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم .. ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حُرّم عليكم)).

والدليل الأوضح على اختصاص رسالة عيسى عليه السلام ببني إسرائيل هو ما ورد عن لسان الجن في القرآن الكريم لما سمعوا تلاوة الرسول صلى الله عليه وآله لآيات من القرآن الكريم: ((قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم)) إذ لم يؤتوا على ذكر  ايالإنجيل وعيسى بل جعلوا القرآن الكتاب التالي للتوراة.

أمام هذه الحقائق الدامغة فلا يمكن لأهل مصر الحاليين إلاً اختيار العقيدة الإسلامية والتمسك بالدين

 الذي لا يختص بقوم ولا يقتصر على مكان بل هو للناس أجمعين وخاتم الأديان إلى يوم الدين، وإلا  فلا فخر لهم ولا فضل لأن الماضي المُشين هو لفرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيَعاً يستضعف طائفة من الناس يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، حسب صريح كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وفي الإطار الإسلامي فإن تاريخ مصر منذ العصر الأول لدخول المسلمين إليه ممزوجاً بحب آل بيت الرسول صلى الله عليه وآله حيث أرسل الإمام علي عليه السلام محمد بن أبي بكر والياً من قبله عليه وأرسل معه عهداً يبين له أسلوب إدارة أمور الناس بالعدل ( أوردنا نص العهد في " تمام نهج البلاغة " ، ولما اغتيل محمد بن أبي بكر وهو في طريقه إلى مصر لاستلام مهامه، أرسل الإمام علي مالك الأشتر النخعي وأرسل معه أيضاً عهداً إلى أهل مصر واصفاً إياهم بـ ((أعظم أجنادي أهل مصر ((أوردنا أيضاً نص العهد كاملاً في ((تمام نهج البلاغة)) وتمّ قتله أيضاً قبل بلوغه مصر بالسمّ.

ورغم غلبة أعداء آل البيت عليهم السلام على أرض الإسلام المترامية الأطراف طوال قرون إلاّ أن ميل أهل مصر لآل بيت الرسول كان متمكناً في القلوب حيث استقبلوا جيش الفاطميين القادم من بلاد المغرب وتعاطفوا مع مبادئهم ومالوا إلى مذهبهم، فكانت النهضة العلمية والفكرية في مصر على أيديهم، حتى أصبح في مصر ما يُعرف بجامعة الأزهر التي كان اسمها في الأساس جامعة الزهراء تيمناً باسم فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وآله، وجاءوا برأس الإمام الحسين عليه السلام من عسقلان في فلسطين في موكب مهيب واستقبله أهل مصر قرية قرية بالورود والعطور والفرح والسرور حتى وصل القاهرة واستقبله أهلها حفاة الأقدام إجلالاً للقادم العظيم المنزلة؛ ولا يزال عموم المصريين يفتخرون بمقام رأس الحسين عليه السلام ويقيمون الأفراح كل عام حتى يومنا هذا في ذكرى وصول الرأس الشريف إلى مصر،  ومسجد رأس الحسين صار رديفاً لإسم مصر عند أهله ومن المعالم الرئيسية التي يرتادها زوار مدينة القاهرة، وذلك في مقابل الأهرامات التي ترمز إلى عصر الفراعنة والملوك الجبابرة.

أما مقام السيدة زينب عليها السلام فله أيضا قصة حيث يعتقد المصريون أن السيدة زينب بنت علي أمير المؤمنين عليه السلام انتقلت إلى مصر بعد وصولها إلى المدينة المنورة إثر عودة آل البيت الذين أخذوا سبايا إلى الشام بعد شهادة الإمام الحسين سبط الرسول صلى الله عليه وآله في كربلاء وأنها ماتت هناك؛ ولقد قام والي مصر العثماني علي باشا سنة 951 هـ/1547 م بتجديد المسجد الذي كان على قبرها ثم أعاد تجديده مرة أخرى الأمير عبدالرحمان كتخدا عام 1171 هـ/1768 م، وفي عام 1940 م قامت وزارة الأوقاف المصرية بهدم المسجد القديم تماماً وأقامت المسجد الموجود حالياً.

أما قبر السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب فله منزلة كبيرة لدى عموم المصريين ويقوم الآلاف طوال أيام الأسبوع بزيارة المقام وخصوصاً يوم الجمعة حيث تقام الصلاة بمشاركة كثيفة في المسجد المجاور لقبرها وبعد الصلاة يصرّ الجميع على مغادرة المسجد بالمرور على ضريحها والسلام عليها.

وخلاصة القول أن العلاقة المتينة بين أهل مصر وآل بيت الرسول صلى الله عليه وآله قديمة ومتجذرة حتى أن طريقاً طويلاً في القاهرة يسمى بطريق أهل البيت عليهم السلام يبدأ بمقام الحسين الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام وينتهي بمقام السيدة زينب بنت الإمام علي مروراً بالسيدة نفيسة بنت الحسن والسيدة سكينة بنت الحسين والسيدة رقية بنت الإمام علي ومحمد بن الإمام جعفر الصادق والسيدة عاتكة عمة الرسول صلى الله عليه وآله؛ وهذا أدلّ دليل على عمق العلاقة المتبادلة بين أهل مصر وأهل البيت عليهم السلام.

ورغم المحاولات الحثيثة منذ القرون الماضية وبالذرائع الواهية وبالأساليب الخبيثة لم ينجح أعداء أهل البيت في مساعيهم كافة قطع العلاقة القلبية والعاطفية بين مصر وأهل بيت النبوة، وقلوب المصريين مليئة بحب الرسول وآله ولا يقبلون بالفصل بين النبي وآله بأي حال، حيث يحاول المنافقون الإنفراد بالرسول وعزله عن أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وهكذا تتكرس العروبة الحقيقية التي يعتز بها أهل مصر، وبدونه تكون فرعونية لا يمكن الاعتزاز بها.

 

الوسوم