بيروت | Clouds 28.7 c

بعد إسقاط الطائرة المسيّرة الأميركية: بات حوار اميركا – ايران أكثر يسراً/ بقلم السيد صادق الموسوي

بعد إسقاط الطائرة المسيّرة الأميركية: بات حوار اميركا – ايران أكثر يسراً/ بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 28 حزيران 2019 العدد 1906

 

كانت ايران الشاه أهم نقطة ارتكاز للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط إلى جانب الكيان الصهيوني في فلسطين، وقبل أن تنساق دول المنطقة حسب الأوامر الأميركية إلى القبول بالكيان الغاصب فإنها كانت تنحني إجلالاً واحتراماً للشاهنشاه محمد رضا بهلوي وتقبل يده أحياناً وهذا موثق بالأفلام والصور، لكن بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني رضوان الله عليه وإزالة سفارة ((إسرائيل)) وطرد 50000 مستشار أميركي وإلغاء قانون الحصانة القضائية الخاصة بالمواطنين الأميركيين ومَن وما يتصل ويتعلق بهم، وفقدانهم لأهم موقع في الشرق لمجاورته الإتحاد السوفياتي السابق، وأيضاً ساحله الممتد على كامل الضفة الشمالية في الخليج وامتداده لجزء من بحر عمان وبحر العرب، وامتلاكه لمضيق هرمز الإستراتيجي والحيوي، ووجود مخزون كبير جداً للنفط والغاز فيه، بعد هذه الخسارة ازداد الأعتماد الأميركي على الصهاينة وبدأ العمل بقوة لفرض التطبيع مع ((إسرائيل)) على دول المنطقة، من خلال تخويف زعمائها من إيران الثورة وإيهامهم بأن عروشهم زائلة وكياناتهم ساقطة ومصالحهم مهددة من خلال تأثيرات انتصار الثورة الإسلامية في المنطقة والعالم.

لكن هؤلاء الزعماء لم يفكروا لحظة بأن شاه إيران قد انخدع قبلهم بالتطمينات الأميركية واطمأن باله بوجود عشرات ألوف المستشارين الأميركيين وبالعديد من القواعد العسكرية الأميركية في أنحاء البلاد، وأمام قوة الشعب الإيراني الثائر انهزم الأميركي بكل جنوده وترك على وجه السرعة قواعده كلها، وأوصى الشاه بضرورة مغادرة طهران على عجل، ولم يعد كل أولئك الحلفاء والأصدقاء يجرؤون على استقباله واستضافته على أرضهم وحتى أميركا التي خدمها طوال أكثر من خمسين عاماً لم تغامر باستقباله على أراضيها إلاً بصفته مختلاً ووضعته في مستشفى للأمراض العقلية، وأخيراً مات شرّ ميتة وتدخل انور السادات شخصياً ليجد من يصلي على جنازته قبل دفنها.

ومن بعده تعامل الأميركيون مع صدام حسين بالمنهاج نفسه، حيث دفعوه إلى شن الحرب ضد إيران وزوّدوه بما يحتاج من دعم ومساندة وغطاء سياسي وحتى صور الأقمار الصناعية، لكن في لحظة استغنى عنه ساكن البيت الأبيض فاخترعوا له موضوع ((المدفع العملاق)) ولاحقوه هنا وهناك بدعوى اكتشاف قطع من ذلك المدفع، وبعده اخترعوا سيمفونية ((الصاعق النووي)) وسلطوا الأضواء عليه لفترة من الزمن، ثم جاءت مزاعم امتلاكه أسلحة الدمار الشامل وهي التي باعتها له الدول الأوروبية ووضعتها تحت تصرفه وبررت له استعمالها، وأخيراً استطاعت السفيرة الأميركية في بغداد توريطه فقام بغزو الكويت، فوجد الغرب الحجة لدخول الحرب ضده وفرض الشروط المذلة عليه ثم مهاجمته وإسقاط نظامه وتسليمه إلى المقصلة.

ومن بعده تعامل الأميركيون بالطريقة نفسها مع الرئيس المصري محمد مرسي حيث أخذوه بالأحضان وتورط في تعيين سفير لدى الكيان الصهيوني الغاصب، وفي لحظة تخلوا عنه حتى مات في قفص الإتهام، وها هم القضاة الذين نصبهم والقائد الذي عيّنه للقوات المسلحة انقلبوا عليه وتولوا محاكمته، ولم يرفّ للأميركيين جفن.

لكن الإمام الخميني قرر منذ البداية التوكل على الله سبحانه وحده ثم الإستناد إلى شعبه الوفي ولم ينخدع بالرسائل الأميركية التي لم تتوقف يوماً وهي تتودد للإمام الخميني ومن بعده لآية الله خامنئي، ولم تنجح كافة المحاولات لخلق قلاقل داخلية، وفشلت جميع المؤامرات لانقلابات عسكرية، وانهزمت الجيوش التي هاجمت ايران مستغلة انفراط عقد القوة العسكرية فيها، وانطلقت ايران التابعة للإمبريالية لتكون المشاكِسة للسلطة الغاشمة العالمية المتمثلة في الولايات المتحدة.

إن ايران التي كان الشاه يقول بأنها على أبواب الحضارة الشاهنشاهية العظيمة تبين أنها تفقد كل مقومات الثبات والإستمرار بمعزل عن أميركا، فبمجرد انفصالها عن المنظومة الأميركية وترك المستشارين الأميركيين لها تحولت إلى دولة متخلفة فاشلة، وجميع القطع العسكرية والتقنيات تعطلت وصارت بلا فائدة ولا جدوى لأن منطق الإستعمار هو الإنفراد بالمعلومات وحجبها عن أبناء الدول الأخرى لتبقى دوماً محتاجة إليها وذليلة أمامها، وهذا الواقع هو ما شجع صدام حسين ليأخذ قرار شنّ الحرب إذ تأكد أن الأخصائيين الإيرانيين لا يجيدون استعمال الإمكانات العسكرية بسبب خروج الخبراء الأميركيين، والأميركيون وعدوا بوضع المعلومات التي يملكونها تحت تصرف نظام صدام فضَمن بذلك نجاح خطته، لكن الذي حدث أن اندفاع الشباب المتحمس للثورة والغيارى المدافعين عن الوطن فجّر القدرات الكامنة لدى الإيرانيين، فبعد أن كانت إيران لا تملك مضادات للتصدي لغارات الطيران العراقي على المدن وكانت الصواريخ التي تدكّ بين الفينة والأخرى العاصمة العراقية والمدن التي لا تبعد أكثر من 80 كيلومتراً تأتي إلى العاصمة الإيرانية مع طواقمها من ليبيا ومنصات إنتاج النفط في الخليج كانت تفتقد لبطاريات الدفاع والسفن الإيرانية التي تتحرك في مياه الخليج معرضة في كل حين للغارات العراقية، وكان المقاتلون في الجبهات لا يملكون مقصات لقطع الأسلاك الشائكة الفولاذية التي كانت لدى جيش صدام ولم يكن لدى إيران إمكانية تأمين الأقنعة الواقية من الأسلحة الكيميائية لمقاتليها، وقبل هذا كله كان فرض الحصار العسكري والإقتصادي الكامل من جانب الأميركي والغربي عموماً وحجز الأموال الإيرانية في مختلف مصارف العالم بذرائع واهية، ورغم هذا الواقع المرير الذي لا يعرف حتى اليوم الكثيرون جوانب خافية منه فقد استطاعت الجمهورية الإسلامية أن تنتصر على نظام صدام المدجج بأحدث أنواع الأسلحة الشرقية والغربية والمغطى سياسياً واقتصادياً ومالياً من كافة الدول في المنطقة وعلى مستوى العالم، وأن تأخذ الدروس والعبر من الماضي وتعمل بقدراتها الذاتية على التقدم في المجالات المختلفة وفي مقدمتها الصناعات العسكرية بكافة شعبها، فأصبح الصاروخ الإيراني الصنع اليوم يصل مداه إلى 3000 كيلومتر ويصيب هدفه بدقة متناهية وهو قادر على إيصال قمر صناعي إلى الفضاء الخارجي، وهي تملك قدرة نووية تهابها أميركا والغرب ويرتعب منها الكيان الصهيوني خصوصاً، ولإيران امتداداتها وأذرعها في مختلف بلاد العالمم من خلال محبي الحرية من أبناء الشعوب المقهورة قبل أن يكونوا من مختلف مذاهب المسلمين ومن أبناء الطائفة الشيعية المنتشرين في العالم، والأميركي الذي أسقط العام 1988طائرة ((إيرباص)) المدنية الإيرانية المتجهة من مطار بندر عباس نحو مطار دبي والذي أدى إلى مقتل جميع ركابها البالغ عددهم 290 شخصاً، وتباهت الولايات المتحدة يومئذ بذلك وأعطت ميدالية للذي قام بإسقاط تك الطائرة، أصبحت تواجه اليوم دفاعات ايرانية تُسقط أحدث طائراتها المسيّرة وأغلاها ثمناً على علو 20 كيلومتراً وتُنزل أحدث 6 نمادج من صناعاتها تلك سالمة دون أن تتمكن الأقمار الصناعية المتطورة من رصد تحركاتها والتأثير على نشاطها، بل أصبحت طائرات الإستطلاع الإيرانية المسيّرة تحلق فوق حاملات الطائرات الأميركية وتأخذ الصور الواضحة عنها دون أن تتمكن أجهزة الرصد والتشويش الأميركية المتطورة من عرقلة عملها، وفي المجال النووي صار الهمّ العالمي هو إقناع الجمهورية الإسلامية بعدم تخصيب اليورانيوم بـ20 % وأن لا تخزّن لديها الفائض من إنتاجها أكثر من حد معين، وقد أعلن آية الله خامنئي بصراحة أمام رئيس وزراء اليابان الذي زار طهران مؤخراً أننا قادرون لو أردنا أن نزيد من نسبة التخصيب فوق الـ 20 % وأن نصنع قنبلة نووية دون أن يتمكن أحد من ردعنا، لكن ذلك محرّم علينا في ديننا.

إذن لم يعُد مطروحاً أبداً خروج إيران من نادي الدول ذات القدرة النووية، بل صار كل التركيز الأميركي على التأكد من عدم صنع إيران قنبلة نووية، وصار الخوف الصهيوني من امتلاك ايران للتقنية النووية المتطورة، وصار الأسطول الحربي الإيراني يصل اليوم إلى سواحل القارة الأميركية دون استئذان من أحد (سواحل فنزويلا) كما يصل الأسطول الحربي الأميركي إلى سواحل بلادنا من دون طلب من أحد، وباختصار أصبح الأميركي يقول بأنه فقط يدافع عن نفسه ولا يريد التحرش بالجمهورية الإسلامية الإيرانية فيما كان على إيران في الماضي تلقي الهجمات من دون القدرة على التصدي لها والدفاع عن نفسها، بل إن إيران تؤكد اليوم أنها تحاشت إسقاط طائرة عسكرية أميركية أخرى وقت اسقاط الطائرة المسيرة من دون ركاب تفضلاً منها وتلطفاً لأن فيها ركاباً وذلك حفاظاً على حياتهم، وهذا الأمر استدعى شكراً خاصاً من ترامب لإيران.

وكم هو مُحزن أن يرى المواطن في الخليح طائرات وطنه تحتمي بالطائرات الأميركية لتتمكن من التحليق فوق مياه الخليج في وقت تتهاوى أحدث طائرات الولايات المتحدة ودرّة صناعاتها العسكرية بنيران الصواريخ الإيرانية، بل إن السلطات الأميركية تعلن صراحة أن المجال الجوي الدولي الذي كان تحت سلطتها طوال عقود قد أصبح اليوم غير آمن بالنسبة إليها، وكم هو مؤسف أن يطالب الرئيس الأميركي بكل وقاحة بثمن تواجده العسكري في منطقتنا من حكام دولها ويضع هو السعر الذي يرتأي للقطع التي يتم بيعها أو استعمالها ويقبض الثمن دون أن يكون لأي حاكم حق المناقشة، ثم يذهب ليُباهي أمام شعبه بأن اقتصاد بلاده أصبح ولأول مرة في التاريخ بهذا المستوى من النمو.

إن تفاعلات إسقاط الدفاعات الجوية الإيرانية للطائرة الأميركية المسيرة والتخبط الأميركي في التعامل معه والتبرير المضحك لوقف مهاجمة المواقع الإيرانية، والتوسل شبه اليومي من قبل الرئيس ترامب شخصياً للقاء مع القادة الإيرانيين بدون أية شروط ورفض مطلبه من قبل الطرف الإيراني، كل هذا يبين للقاصي والداني أن عصر العنجهية الأميركية قد ولّى وأن دول المنطقة لا تحميها الأساطيل القادمة من وراء المحيطات سواء كان ذلك الأسطول الرابع أو الخامس أو السادس أو غيره، بل إن على قادة الدول في منطقتنا أن يتحاوروا فيما بينهم ويقبلوا بخصوصيات شعوب البلاد وأنظمتها، وأن يعملوا على تقريب النفوس بدل بثّ الشحناء بين أبناء الأمة الواحدة، وأن يمدّوا يد الأخوة لمن هم على ملة واحدة بدل أن يرموا بأنفسهم أذلاّء في أحضان اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وعند ذلك فقط يسترد العرب والمسلمون مكانتهم وعزتهم التي وعد الله، ويومئذ فقط تنظر دول العالم بعين الإحترام لدولنا وتتعامل بإكبار مع شعوبنا، ولا يقول بعد ذلك أحد إن دولنا الثرية هي فقط بقرة حلوب، ولا يمنّ أحد على قادتنا بأن له الفضل في بقائهم في مناصبهم وعلى عروشهم، ووعد الله حق والتجربة أكبر برهان.

السيد صادق الموسوي

 

الوسوم