بيروت | Clouds 28.7 c

من هنا نبدأ - شيعة لبنان لن يتخلوا عن نصرالله كما تخلى شيعة العراق عن أهل البيت / بقلم: حسن صبرا

من هنا نبدأ - شيعة لبنان لن يتخلوا عن نصرالله كما تخلى شيعة العراق عن أهل البيت / بقلم: حسن صبرا

مجلة الشراع 31 أيار 2019 العدد 1903

 

نحدثكم عن تاريخ الانقلابات الشيعية عبر الزمان في المواقف السياسية الحاسمة في مراحل مختلفة، ولا نجد بداية أسوأ من ملحمة كربلاء، ولا نجد مكاناً أوضح من الكوفة، ولا نجد أناساً أجرأ من أهلها في الانقلاب، ولا نجد مظلومية في زمان مضى أكبر من تلك التي تعرض لها أهل البيت.

كانت الكوفة عاصمة الخلافة في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وله فيها أحبة ومشايعون وأنصار بالآلاف.. وبعد مقتله ظن أهل الجزيرة العربية وعلى رأسهم ابنه الامام الحسين ان هذه العصبية ستظل على ولائها له.. فلما عزم على الخروج اليها أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل لزيارتها، خصوصاً وان جماعة منها أرسلت الى الامام الشيخ ان أحضر سريعاً لنبايعك على الخلافة ونحن نراها في أهل بيت رسول الله ولا نراها في يزيد بن معاوية الذي أورثه والده السلطة مبايعة تراوح القبول بها بين الاكراه والشراء.. وكأنه استحضار لتوزيع الولاء بين بني هاشم ومنهم رسول الله وابنته فاطمة زوج ابن عمه علي والدة الحسن والحسين، وبين بني أمية ومنهم يزيد الذي يعود بالنسب الى أبي سفيان الأموي أشرس مقاتلي الرسول العربي محمد.

أرسل الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل الى الكوفة لملاقاة الانصار المحتشدين دعاة ابن علي للحضور، فتحلق حوله الآلاف، دخل المسجد ومعه المئات وخرج منه وحيداً بعد ان بلغت الجموع ان جند يزيد يبحثون عن عقيل بعد ان عرفوا غايته..

تاه مسلم في طرقات الكوفة باحثاً عن مأوى وشربة ماء وكسرة خبز فطرق أحد أبوابها لتطل عليه امرأة تدعى طوعة، فأعطته طلبه وأقفلت الباب خلفها، لتعود بعد لحظات فتجده ما زال على بابها تسأله غايته فيجيب انه لا مكان له في الكوفة ليبيت فيه، تدخله طوعة لتأويه في غرفة جانبية من دارها.. يختبىء مسلم بن عقيل وجند يزيد يبحثون عنه ليجدونه في مخبئه بعد ان أرشد ابن طوعة الى مكانه فيأخذه الجند معتقلاً.

لم يتسن لمسلم بن عقيل ان يرسل الى ابن عمه الامام الحسين ليحذره من المجيء بعد انقلاب أهل الكوفة عليه فجاء المظلوم الى حتفه ليقتل في كربلاء في العاشر من محرم.. بعد ان تخلى عنه شيعة والده وأهل البيت..

وكم عانى الامام موسى الكاظم بن جعفر الصادق في عهد هارون الرشيد وقد اعتقله وسجنه لمرات.. بسبب انتقاده بذخ الرشيد وظلمه ومجونه وفي كل مرة كان الحاكم الرشيد يخاف من ان شيعة آل البيت سيخرجون عليه،، فأبقى على حياته وأعطاه الحرية مرات وما وجد ان مخاوفه سوى خرافات إلا بعد ان تمكن من الامام الكاظم، وهو مدرك ان شيعته لن يحاربوا من أجل امامهم السابع..

وكم كان السيد محمد باقر الصدر موهوماً وهو قابع في داره محاصراً من جند صدام مستمعاً الى اذاعة ((عبادان)) التي كان يديرها الشيخ حسين كوراني تصفه بقائد الثورة الاسلامية في العراق، وخصصت له برنامجاً يحمل اسم العراق بحاجة الى ثورة الحسين.

كان السيد الصدر يظن ان جموع الانصار كانت ستزحف الى داره في النجف لتفك أسره بالقوة، او لتشكل سياجاً حول داره، وآخر حول جنود صدام.

كان موهوماً حتى انفض عنه الناس، واعتقلته سلطات بغداد بعد ان بات وحيداً لتأخذه الى السجن ثم ليعدم مع شقيقته بنت الهدى.

وللتاريخ الأقرب نقرأ حين قرر الامام الخميني خوض المواجهة مع رئيس الجمهورية الاسلامية جاء به الامام هو ابو الحسن بني صدر خلال الحرب العراقية – الايرانية كيف أحاط الايرانيون به يهتفون بما يستحضر تاريخ التذبذب الشيعي العربي في تعاملهم مع أئمتهم.

((فداك أرواحنا يا امام.. نحن لسنا كشيعة الكوفة، الذين تخلوا عن الامام المظلوم الحسين.. ونحن لسنا كشيعة الكوفة الذين هربوا من حول مبعوثه مسلم بن عقيل، ونحن لسنا كأهل العراق الذين تخلوا عن الامام موسى الكاظم.

انها ثقافة أخرى ظلت تعكس فروقات في صميم الولاء والانتماء بين شيعة العرب وشيعة الفرس.

ولم تكن ثقافة القبيلة والعشيرة والعائلة عند شيعة العرب لتستمر في التمايز (سلباً) مع ثقافة الحضارة الفارسية الثابتة.. مع مجيء الامام الخميني الى قيادة الامة الايرانية وتعميم ثقافة الولاء لآل البيت، واعتبار الامام الجديد استمراراً في النسب والسياسة والولاء لهم.

وفي حين نقرأ الصراعات السياسية حول خليفة رسول الله المسجى في داره منتظراً لقاء ربه، وهم في سقيفة بني ساعدة.. ثم الصراعات العسكرية بعد سنتين من خلافة ابي بكر الصديق، ثم مقتل عمر ثم عثمان ثم صراع علي وعائشة ثم علي ومعاوية قبل مقتل علي نفسه في مسجده.

فإننا نسجل للحضارة الفارسية انعكاس ثوابتها في نفوس الشيعة الذين استعادوا مع الجمهورية الاسلامية فرصة الثأر التاريخي حتى لو كانت في معارك الثأر هذه ليست كلها في الاتجاه السليم، بدءاً من الشعار الذي يرفعه بعض الشيعة جهلاً في ذكرى مقتل الامام الحسين وهو (يا ليتنا كنا معكم لنفوز فوزاً عظيماً) وهذا الشعار هو نسخ خاطىء ومسيء للآية الكريمة في سورة النساء رقم 73 ((يا ليتني كنت معهم فسأفوز فوزاً عظيماً).

الشيعة يقرأونها خطأ ويسقطونها خطيئة على تخلي شيعة الكوفة عن الامام الحسين بعد تخليهم عن مسلم بن عقيل، والله في كتابه العزيز يتحدث عن سلوك المنافقين واليهود الذين تخلوا عن الرسول وما شاركوا معه في احدى معاركه ظناً منهم بأنها خاسرة، فلما نصره الله فيها، وحصل المشاركون فيها على غنائم الحرب، كان قول الله عز وجل: ((يا ليتني كنت معهم فسأفوز فوزاً عظيماً)). مظهراً ندم الذين تخلوا عن الرسول الكريم وهم من المنافقين ومن اليهود.

ولم يكن تأثير الثورة الاسلامية في ايران وتعليمات قائدها الامام الخميني ليقف عند حدود الدعم السياسي والعسكري والاعلامي والمالي لشيعة العرب، حين وضع في الدستور في مادته الثالثة نصاً يلزم الجمهورية الاسلامية بدعم المستضعفين في الأرض (مرة أخرى يجري استخدام كلمة المستضعفين سواء كمادة في الدستور الايراني او كمصطلح ثوري تقدمه ايران للعالم في طريقة خاطئة لأن الله وصف بني اسرائيل في القرآن الكريم بأنهم المستضعفون في الأرض).

لعل الأكثر تأثيراً في بنية المجتمعات العربية هو ما قدمته ايران في المنهج الثقافي، وهو الأشد تأثيراً وثباتاً وامتداداً وخصوصية.

ولأن الشيعة عرباً وفرساً يشدهم الحنين.. فضلاً عن الشعور بالذنب نحو آل البيت بسبب ما لحق بهم وبأئمتهم من مظلومية في مختلف العهود والعصور وفي عدد من البلدان العربية فإن ايران ومنذ عقود قدمت نفسها رافعة لهموم الشيعة وسعي الكثيرين منهم للثأر، وتكفيراً عما يعتبرونه ذنباً ارتكبه أجداد أجدادهم سابقاً، وشعار ((هيهات منا الذلة)) في عاشوراء هو رافعة في المقابل لتكريس المشروع الايراني في دعم كل من يريد ان يثأر من مرحلة اعتبر نفسه فيها مظلوماً، وقد اختلطت في ثقافة الفارسي مجموعة عوامل جعلته يركز على المنهج الثقافي وسيلة للتأثير أكثر من المال او السلاح او المرجعية، فإذا ما كان للثقافة الايرانية الشيعية دعائم في المال وفي السلاح وفي المرجعية.. فإن ايران تزرع في أرض خصبة.. ولعل هذا ما تأمل في حصاده في حالتها الراهنة.. بتأثير ثقافتها.

زرعت ايران في قضية فلسطين وقد حصدت زرعاً أخضر حين أصبحت فلسطين أرضاً جدباء في كل بلاد العرب..

زرعت ايران في حزب الله الشيعي وفي الجهاد الاسلامي السني بعد ان توقف العرب جميعاً عن قتال اسرائيل.

زرعت ايران في عدوانها مع اميركا، وقد باتت اميركا السجان الأكبر لكل أنظمة العرب من المحيط الى الخليج.. الكل يطلب رضاها والكل يخشى عدوانها، وبعض الذين ينتقدونها من العرب ينطلقون من ان اميركا لا تساعدهم كفاية في عداواتهم مع عرب آخرين.

زرعت ايران في الثقافة الشيعية انها غير المسلمين الآخرين الذين لا يقاتلون اسرائيل أو اميركا، وبات هذا أمراً مسلماً به عندهم.

زرعت ايران في العالم كله، خصوصاً عند الروس والاوروبيين والاميركيين قبل ترامب أنها تمثل الاسلام المعتدل وان الشيطان كله موجود في ((داعش)) السنية و((القاعدة)) السنية وتشكيلات الاسلاميين الخارجة من رحم الاخوان المسلمين.. واليوم ليس في العالم من يتهم ايران بالارعاب الا اسرائيل وأميركا ومن يدعو الله من العرب ليل نهار كي يحارب ترامب ايران نيابة عنهم.

أعادت ايران في ثقافتها المنتشرة في لبنان عبر حزب الله وفي اليمن عبر انصار الله ومسميات أخرى في عدد من البلاد العربية والاسلامية الاعتبار للشيعة الثابتين على مواقفهم، بينما كانت السمة التي يتهم بها شيعة العرب انهم يتحركون وينقلبون وفق معادلة ((ألف قلبة ولا غلبة)) وما انتظم الشيعة العرب في سياق منطقي عادل ووطني الا عند سطوع نجم المشاريع العروبية الشاملة وآخرها مشروع جمال عبدالناصر الذي وجد له انصاراً ومبايعين في كل بلاد العرب، خصوصاً في لبنان واليمن وسورية وفلسطين والعراق والخليج العربي ودائماً في مصر.. وهو انتظام عرفه نظام البعث أيضاً في العراق.

في لبنان تشبّع شيعة حزب الله بثقافة الفرس الذين يبايعون قادتهم في السراء وفي الضراء، حتى لا يعيدوا صناعة ملاحم كربلاء ومقتل الامام الحسين ومسلم بن عقيل والامام موسى الكاظم ومحمد باقر الصدر.. وما بينهم من مظاليم آخرين من آل البيت وأنصارهم.

قويت شوكة شيعة لبنان تحت راية حزب الله بالمقومات التي أوردناها وهي السلاح والمال والمرجعية ودعامة كل هذا في ثقافة راسخة لكأن كل شيعي في حزب الله هو مشروع جندي مفترض في كربلاء الحسين.. انتقاماً وشعوراً بالذنب وتصوراً لمسار مختلف في التاريخ لو انتصر الحسين.

هل يمكن استعارة الشعارات لنكتب ان شعار ((هيهات منا الذلة)) يشابه شعار ((هيهات ان يعود الزمان)).

واليوم.

يخوض حزب الله في ظل ظروفه القاسية مادياً، والهجمة السياسية والاعلامية ضده تحدياً وامتحاناً بينه وبين نفسه أي بين قيادة الحزب ممثلة بالسيد حسن نصرالله وجمهوره الذي بلغ حماس بعضه له بأن يقدم ابنه قتيلاً فداء لحذاء السيد..

لا يملك أي عربي او مسلم ان يزايد في قضية ايثار السيد نصرالله الذي قدم ابنه على محراب القتال ضد اسرائيل حتى باتت كل ام التحق ابنها بالمقاومة ضد اسرائيل مماثلة لتلك الأم التي قالت هذا الكلام للسيد حسن، لكن هل هذا الشعار القاسي والخالي من أي حساب عاطفي في علاقة الأم بإبنها، ما زال ممكناً هذه الأيام حيث تشح الموارد المالية للحزب، وحيث يواجه حصاراً غير مسبوق سياسياً من اميركا وحيث يواجه تهديداً من اميركا واسرائيل.. وحيث مضى زمن جيل الرواد المؤمن والقادة الرسل والثقافة الشيعية العميقة، وحيث ايران اليوم هي ليست ايران الخميني او هي بعيدة في الزمان عنه ثلاثة عقود؟

هل يصح هذا الشعار الذي أطلق قبل 13 عاماً، حيث خرج الحزب في ثقافته وثقافة بيئته منتصراً على اسرائيل.. اليوم حيث تهدد اسرائيل بإحراق لبنان ويهدد ترامب بإغراق ايران؟

ناب نصرالله عن الحكام العرب في مقاتلة اسرائيل فحملته شعوب العرب كأيقونة عربية ذكرتهم بجمال عبدالناصر الأيقونة الكبرى لكن حزب الله ونصرالله الآن أمام تحدٍ آخر هو اثبات ان انقلاباً ثقافياً كاملاً حصل لدى شيعة العرب من لبنان الى اليمن الى العراق ليشابهوا شيعة الفرس في قبول التحديات وخوض الغمار من أجل ثالوثهم الثابت: تشيع + فرس + وطنية.

في ايران ثقافة الفرس مع الوطنية جلبت التشيع في بوتقة واحدة.

في بلاد العرب قبل ثورة ايران وآثارها الثقافية العميقة في الداخل الشيعي العربي اتهام لهم بأنهم تخلوا عن الحسين ومسلم بن عقيل والامام الكاظم ومحمد باقر الصدر.. فهل يتخلى شيعة لبنان عن السيد نصرالله هذه الايام أم يتذكروا ائمتهم المظلومين فيتنادون للوقوف خلف نصرالله لدعمه وأمامه لحمايته؟

قبل أي حساب مادي وأمني وعسكري ومرجعي دعونا نسأل الى أي مدى تعمقت الثقافة الفارسية في نفوس شيعة لبنان وهم عرب؟

لكن هل يجوز طرح سؤال آخر الى أي مدى ما زالت ثقافة شيعة الفرس التي حضنت الامام الخميني في مواجهة بني صدر وخلال الحرب مع العراق ثابتة وعميقة عند الايرانيين أنفسهم؟.. وهل يردفها الشعور الفارسي بالتفوق كما الشعور الوطني الايراني.

كلما أظهر الايرانيون صموداً في مواجهة ترامب.. وقدرة على استخدام القوة في السياسة وفي أراضيهم الخصبة وفي حسن مخاطبة العالم.

وكلما انكشفت ألاعيب ترامب في ابتزاز هذا العالم، وأخافته في حروب قد تضر بالجميع عرباً وفرساً وأوروبيين وصينيين، لتنجو منها اميركا لأنها قادرة على خوض حروب وادارتها من أعماق البحار الى عنان السماء من دون أي انزال بري حتى لا تتلقط ايران الجسم الاميركي حياً فتأكله.

كلما استوعبت ايران آثار حصار خانق وتعايشت معه، منتظرة نجاح رهانها الأقرب وهو ان يغير ترامب قراراته ضدها، وهو المعتاد على تغيير سياساته كما يغير كلساته، ورهانها الأبعد وهو محاكمة ترامب او عزله او انتهاء ولايته..

كلما أمسك النظام الايراني بتلابيب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية أمنياً وثقافياً.. سيثبت شيعة العرب المشبعون بثقافة الفرس على مواقفهم لدعم حزب الله في لبنان وأمينه العام حسن نصرالله.. وينتعش كل الزرع الذي زرعته ايران في بلاد العرب.

حسن صبرا

 

الوسوم