بيروت | Clouds 28.7 c

نسرٌ محلّقٌ في فضاء الرّجولة والإيمان واللاهوت والوطنيّة والحريّة والسّياسة / بقلم سيمون حبيب صفير

نسرٌ محلّقٌ في فضاء الرّجولة والإيمان واللاهوت والوطنيّة والحريّة والسّياسة / بقلم سيمون حبيب صفير

مجلة الشراع 17 ايار 2019 العدد 1901

 

نصرالله مارون صفير، كاهن الرّب الأمين الرّصين الحكيم الذي أبصر النور في 15 أيار/ مايو 1920، الذي ترعرع في حضن عائلة ورِعة حيث نما بالقامة والحكمة والنعمة، إلى جانب أخواته الخمس، والذي حَسَم أمره يوم نضج، ليُلبّي دعوة الرّبّ له فيبدأ بخدمة المذبح والرّعية والمجتمع والوطن، منذ مطلع صباه، يوم رسم طريقه بعرق جبينه وكدّ يمينه وثبات إيمانه وقراره النهائيّ بالتكرّس لخدمة الكنيسة المقدّسة، واستلهام الرّوح القدس باستمرار لاستثمار وزناته ومواهبه في حقل الرّب الذي زرع فيه وحصد ثمار زرعه في الأرض الخصيبة.. ليصير المعلّمَ والملهمَ والقدوةَ والأسوة!

هو الرّجل الجبل، الرّمز، رجل الدّولة اللبنانيّة بجدارة واستحقاق، هو ابن كسروان العاصية، هذه القلعة الرّابضة وسط لبنان، من الجرد إلى الشاطئ، المُنتصرة على كلّ الأعاصير على امتداد العصور، هو ابن ريفون الغنيّة بالرّجالات التاريخيّة وبالعطاءات على مرّ الأجيال والعصور.. وهو كبير كبار هذه الرّجالات الاستثنائيّة التي تُغني الحضارة الإنسانيّة العالميّة!

إنه بطريرك انطاكيا وسائر المشرق السادس والسبعون الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، الذي انتخبه مجلس المطارنة الموارنة في 27 نيسان/ ابريل 1986، خلفاً للبطريرك المثلث الرّحمات أنطونيوس خريش ((عهده من 1975 إلى 1986)، ابن بلدة عين إبل في جنوبي لبنان حيث صيدا وصور وقانا الجليل مدينة تلك الأعجوبة الخمريّة التي اجترحها الرب يسوع والتي خلّدت ذلك العرس المُقدّس على أرضنا، الموثّق في إنجيل يوحنّا!

انتخب بطريركاً على كرسيّ انطاكيا راعياً للأمّة المارونيّة في لبنان والمنتشرة في أصقاع الأرض، في عزّ الحرب اللبنانيّة المستعرة بين مختلف الأفرقاء المتناحرين على امتداد جسد لبنان الذي مزّقته براثن المؤامرات المدفوعة الثّمن من الخارج، بمختلف العملات الصعبة، بهدف تفتيت هذا اللبنان الحلو ملتقى الحضارات، صلة الوصل بين الشرق والغرب.. وباءت مؤامرات الأعداء كلّهم بالفشل، فيما صلوات بطريركنا ومطارنتا وكهنتنا ورهباننا وراهباتنا وكلّ المؤمنين ترفع إلى خالق الأكوان لدرء الخطر وتحطيم الشرّ المحدق بلبنان وشعبه وكنيسته التي لا تقوى عليها أبواب الجحيم.. ونردّد المقولة الشهيرة: ((بكركي بخير لبنان بخير))!.

بطريرك المواقف السّياسية الثابتة هو، المُقلّ في الكلام الذي يوجزُه فيصيب الهدف لتُحفظ أقواله المُقتضبة البليغة الرّنّانة لتصير مرجعاً لذواقة دُرر الكلام الذي يحفظه التاريخ!

كم آلمته حروب الأخوة، أكثر من مرّة، وكم بذل مع المطارنة جهوداً لاسكات المدافع وحقن الدماء.. والتي كان آخرها حرب 1990 التي انتهت بخسارة الفريقين المُتطاحنين.. وأدّت إلى نفي قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون إلى فرنسا وسجن قائد القوات اللبنانية د. سمير جعجع، اللذين استنزفا بعضهما البعض في حرب 1990المدمِّرة، لتخيّم أجواء الانكسار والغبن والاحباط والهزيمة لا سيّما بين المسيحيّين الذين هاجر منهم من هاجر وصمد من صمد.. وقد سقط المئات ونكبت العائلات!

محطّة تاريخيّة مهمّة لا بدّ من التوقّف عندها وهي دعوة البطريرك صفير إلى مقاطعة الانتخابات النيابيّة سنة 1992 بسبب اختلال التمثيل البرلمانيّ والظلم الذي لحق، خصوصاً بالمسيحيّين، في ظلّ الاحتلال السوري للبنان.. وكان ان أتى التمثيل المسيحي هزيلاً ركيكاً لا يُستبشر منه خير!

حدث أحداث نهاية القرن العشرين: نداء المطارنة الموارنة في العام 2000، وعلى رأسهم البطريرك صفير، ليحضّر لمرحلة جديدة من تاريخ لبنان، أقتطعُ منه خاتمته:

 ((بعد أن خرجت إسرائيل، أفلم يحن الوقت للجيش السوري ليعيد النظر في انتشاره تمهيداً لانسحابه نهائياً، عملا باتفاق الطائف؟ وهل من الضرورة أن يبقى مرابطاً في جوار القصر الجمهوري، رمز الكرامة الوطنية، ووزارة الدفاع، وفي ما سوى ذلك من أماكن حسّاسة يشعر اللبنانيون لوجوده فيها بحرج كبير، لكي لا نقول بانتقاص من سيادتهم وكرامتهم الوطنيّة.

((لقد كانت هناك تصريحات تقول بأنه إذا انسحب الجيش السوري من لبنان، قامت فتنة فيه، أو إن وجوده أصبح جزءاً لا يتجزّأ من السّلم اللبنانيّ، أو إنه ينسحب، إذا طلبت منه الحكومة اللبنانيّة الانسحاب. ومعلوم أنها حجج واهية لا تثبت أمام المنطق السليم: لن تكون فتنة في لبنان، إن لم يعمد أحد إلى إضرام نارها، واللبنانيون ما اقتتلوا يوماً إلا لأنه كان هناك من يبذر بذور الفتنة في ما بينهم.

وحرصاّ منا على توثيق أحسن علاقات الأخوّة بين لبنان وسورية، وفي مطلع عهد فيها نريده لها زاهراً، نرى أنه قد آن الأوان لإعادة النظر في طريقة التعاطي بين البلدين بحيث يقوى أحدهما بالآخر، فيتكاملان تكاملاً صحيحاً، مفيداً لكليهما، وأن يعاد انتشار الجيش السوري في لبنان تمهيداً لانسحابه نهائياً عملاً بالقرار 520، وباتفاق الطائف، وإبقاءً على ما بينهما من روابط تاريخية وجغرافية، وبين شعبيهما من وشائج قربى ونسب وصداقة ومصالح مشتركة. وفي اعتقادنا أن هذا هو السبيل الوحيد للحيلولة دون تفكك لبنان وزواله. وهو إذا كان متعافياً كان عوناً لسورية، وأما إذا ظلّ عليلاً كان عالة عليها. ونحن نريد له ما نريده لسورية من عزة وكرامة وازدهار وسلام.

حقّق الله الآمال، وهدانا جميعاً سواء السبيل)).

نيسان/ ابريل 2001 تاريخ حدث سياسي آخر: ولادة لقاء قرنة شهوان، من رحم بكركي، وبرعاية مباشرة من صاحب الغبطة والنيافة، عاشق الحرية والسيادة والاستقلال، وقد أطلقت هذه التسمية على هذا التجمع السياسيّ السياديّ، نسبة إلى مطرانية قرنة شهوان، حيث كان سيادة مطران أبرشية انطلياس المارونية يوسف بشارة يرأس اجتماعات اللقاء الدوريّة، في منطقة المتن التي كانت أعاليها تعاني من انتشار جيش الاحتلال السّوري، وللتوضيح فإنّ المطرانيّة في قرنة شهوان هي الكرسيّ الأسقفيّ لسيادة المطران، ومقرّ إقامته.. وقد انضوى تحت هذا اللواء الوطني نخبة من النواب والقادة المسيحيّين المُناوئين لنظام الاحتلال السوري الذي يجثم على صدر لبنان، وظهرت مواقف أحد قادة الرأي آنذاك جبران تويني.. الذي صار نائباً عن بيروت فيما بعد، وما لبث أن سقط ضحية حقد وغدر من أعداء لبنان.. ليرحمه الله ويرحم كلّ من سبقه والتحق به من أحرار لبنان الشرفاء!

سنة 2001، وبعد انتهاء الحرب بإحدى عشرة سنة، وبعد طول قهر وتهجير، أنجزت مصالحة الجبل المنتظرة، لتصير محطة تاريخيّة دمغها البطريرك صفير بحضوره مع وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي والنائب آنذاك، إذ التقى الرّجلان ومعهما الرّعية، على الأرض التي أهرِقت على ترابها دماء مسيحيّين وموّحدين دروز في اقتتال أنتج ضحايا وتهجيراً ودماراً وتقهقراً وظلماً.. يوم ساد الضياع والغضب والحقد وقد أضرمت نيران الفتنة كما في كل حقبة من حقبات التاريخ السّوداء.. لتطوى تلك الصفحة الشاحبة من تاريخ لبنان علّ وعسى تكون درساً للأجيال الآتية! 

أجاد البطريرك صفير لغة المحبّة إلى جانب لغات كثيرة وفي مقدّمها اللغة العربيّة التي يتقنها أي إتقان، كيف لا وهو الذي حصّل دروسه ونهل من نبع أمهَر المُعلّمين لا سيّما مدرسي اللغة العربيّة واللاهوت.. وقد درّس لغة الضّاد الصّعبة والفلسفة واللاهوت وكان خير معلّم لخير الأجيال المتعاقبة.

من كلمات غبطة ونيافة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير:

((إنّا واعون ما نحن إليه مدعوّون وما دُعِيَتْ إليه كنيستنا المقدسة وبطاركتها المجاهدون.. ومن رافق مسيرة البطاركة الموارنة في تنقلاتهم.. عرف أي صليب ثقيل حملوا، وأي تضحيات جسام ارتضوا، ليجعلوا من هذا الجبل معقل إيمان وقلعة حريّة وحصن كرامة وقدس أقداس لحقوق الإنسان.

لكن الصليب أصبح لدى بعضهم مفرغاً من قوته. لهذا يجب العمل على تعميق معناه عن طريق بعث نهضة روحية يشارك في القيام بها شعب لبناني بأسره ترمي إلى نشر الثقافة العربية، وترسيخ المبادئ الأَخلاقية بجميع الوسائل المتاحة، وعلى أَوسع مدى، وفي جميع الأَوساط: العائلة والمدرسة والمجتمع، وفي جانب الأَحداث والمراهقين البالغين.

وما يصحّ على الصعيد الإجتماعي يصح بحجة أولى على الصعيد الوطني. وسبيلنا في هذا المجال إِلى إسقاط الحواجز النفسية ثم المادية وإعادة توحيد العباد وأجزاء البلاد. هو تضامن يكون وليد حوار صريح بين اللبنانيين، بغية إعادة بناء الوطن على اُسس سليمة، لا يكون في ضوئها للبناني فضل على لبناني إلاّ بمقدار تضحياته في سبيل لبنان، وإعادة بناء الدولة بالقضاء على سلطان الدويلات والإنفتاح على جميع العائلات الروحيّة اللبنانيّة، وعلى شرق وغرب)). 

خطبة البطريرك بعد تنصيبه ((27/4/86)).

أيضاً نستذكر ما قاله بعد انتخابه بطريركاً، في 19 نيسان/ ابريل 1986:

((قوتي بالله.

إنتخبتموني بطريركاً، أَعني رأساً وأًباً، كما يقول القانون الكنسي عن البطريرك.

أَوليتموني شرفاً اَثيلاً وحمّلتموني صليباً ثقيلاً.

إنتخبتموني ولست بألمعكم ولا بأعلمكم، ولا بأقدركم ولا بأوجهكم، لكنها إرادة الله ((..))

إني أعرف أني ضعيف ولكني أعرف في الوقت عينه ما يقوله الرسول، وهو إني قوي بقوّة من يقويني.

وإنكم قد حمّلتموني صليباً ثقيلاً تنوء كتفاي بحمله. لكني واثق من أنكم ستحملونه معي.

صليب الإيمان، صليب المسيحيّة في هذا الشرق، صليب الموارنة.

أعرف ما ينتظرني من مسؤوليات لن أكون فيها وحدي إنما معكم)).

يشهد التاريخ أنّ البطريرك صفير هو رجل تاريخيّ، دمغ عصره، وقد استمد قوته وصلابته من أسلاف صمدوا وعاشوا في الوعر الذي روّضوه، حيث واجهوا صروف الدهر وكل أنواع الاضطهاد، وقد صمدوا، صلّوا، تشبثوا بالايمان الذي حافظوا على وديعته، بنوا الكنائس والأديار، أجادوا في الكتابة والنشر وتخطي الحدود المحلية، لتصير المارونية جسر تواصل بين الحضارات والثقافات العالمية، بفضل بطاركة الموارنة ورهبانهم وراهباتهم وعلمانييهم ومؤسّساتهم على اختلافها، وقد صنعوا النهضة، لتسود مقولة: ((عالم مثل ماروني))!

هنيئاً للبنان البطريرك صفير الذي كان ما يزال في زخم العطاء عندما رأى، كما رأى العالم بأسره، الاحتلال السوري مندحراً سنة 2005، وذلك بعد تمهيد وطول عمل وجهاد وصبر، وبعد أن شهد لبنان تظاهرتي 8 آذار و14 آذار/ مارس، في وسط بيروت، ((ونشوء فريقين سياسيين متناقضين تابعين لهذين التاريخين)) وبعد التفجير المزلزل الذي أودى بحياة رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري ورفاقه الذين سقطوا على طريق الشرق الأوسط الجديد الذي يمرّ ببروت!

 

12 أيّار/ مايو 2019، قبل عيد ميلاده بثلاثة أيام، الثالثة فجراً، أسلم البطريرك صفير الرّوح، لينتقل إلى الملكوت السّماوي حيث ينعم بفرح سيّده في الحياة الأبديّة مع الأبرار والملائكة والقدّيسين، بعد مسيرة شاقة على هذه الأرض، وقد أدّى واجبه بأمانة وصدق وراحة ضمير.. ليصير مثلث الرّحمات والخالد في الذاكرة والتاريخ!

 

وفي 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، لحظة مؤثّرة جمعتنا، الزميل حسن صبرا، صاحب مجلة ((الشراع)) وأنا، ببطريركنا البطل، مُشعِل الثورة الرّوحيّة في لبنان، الشّيخ المقاوم الصّامد، في بكركي، حيث قدّمَ إلى غبطته كتابه الدّسِم والثقيل الذي يحمل اسم الرّاحلين ضابِطَي جيش الاحتلال السّوري للبنان، واللّذين يوثّق بعض ((مآثرهما)) على أرضنا في مؤلَّفِه هذا.. وتدخلتُ ضاحكاً وقائلاً لنيافته بأنّ الرّاحِلَين كانا يستجمّان في لبنان! وكانت جلسة من العمر، نِلنا فيها بركة الأب لأبنائه، واستظلّينا هالة شيخ الكلمة والموقف! وقد حدّثَهُ الأستاذ صبرا عن العروبة وعن تلك الصّفعة ((التاريخيّة)) التي تلقّاها على وجهه من رئيس الجمهوريّة الرّاحل الياس الهراوي بسبب قضيّة الزواج المدنيّ الذي أثير في عهده، ورفضه البطريرك، وقد أيّد صبرا بكتاباته موقف غبطته وموقف مفتي الجمهوريّة الرافض بدوره لهذا الزواج.. وقد وثّقنا اللقاء الجميل بالصّوت والصّورة.. لتبقى في الأذهان والقلوب أنقى وأجمل وأبهى صورة لرجل المذبح والوطن، للبطريرك صفير ذي النّهج الثابت الواضح، كاتب العظات الروحية البليغة المفعمة بالإيمان ((والتي تتخلّلها المواقف السّياسيّة))، المُبشِّرَة المُوجّهة، بوحي من الرّوح القدس، وإذ صار مثلّث الرحمة، نضرع إلى الله جلّ جلاله، لكي يمنُّ علينا بأمثاله للكنيسة والسّياسة خدمةً للبنان.. وتبقى الذكرى للتاريخ والأجيال!

سيمون حبيب صفير

الوسوم