هل كان رفيق الحريري يعد لانقلاب في سورية؟ كتب حسن صبرا

مجلة الشراع 10 ايار 2019 العدد 1900

كتبنا لماذا اختار حافظ الاسد رفيق الحريري ليشكل أول حكومة له في تشرين الأول/ اكتوبر 1992. وكيف رد الأسد على الأصولية العلوية التي خشيت من وصول شخص سني قوي في لبنان الى السلطة يملك علاقات عميقة وواسعة مع المجتمع الدولي كله من روسيا الى اميركا ومن الصين الى اوروبا، ومن ايران الى المملكة العربية السعودية التي يحمل جنسيتها وكوّن على أرضها ثروة ضخمة سمحت له ان يكون على صلة متينة مع أبرز شخصيات العالم الحاكمة من جاك شيراك في فرنسا الى طوني بلير في بريطانيا ومن طانسو تشيلر في تركيا الى سيلفيو بيرلسكوني في ايطاليا.

وكتبنا ان حافظ الاسد رد على هذه الأصولية التي عملت (ومن ضمنها حافظ نفسه في سورية وصلاح جديد) على إنهاء دور السنّة السياسي الذين تركوا الجيش والأمن واختاروا التجارة وكنز المال وتكوين الثروات ليحل العلويون مكانهم في الجيش وجاء الاسد الى لبنان وهو يحمل الثقافة نفسها، لينفذها في لبنان في حقد غير مسبوق على سنّة لبنان الذين اختار بعض زعمائهم الاقتران من بنات أسر سورية سنية من العاملين في الحقل العام، فقد تزوج رياض الصلح من ابنة الجابري الحلبية، وتزوج صائب سلام من ابنة مردم بك الدمشقية، وتزوج تقي الدين الصلح من ابنة البرازي الحمصية..

غير ان هذا كان في زمن مضى حين كانت العروبة هي النجم الساطع في سماء المنطقة.. وحين كانت دمشق هي قلب العروبة النابض، وكان لبنان هو منارة سورية كما كانت سورية هي حاضنته الجغرافية وسلته الغذائية.. وعمقه الأمني. جعلت سورية ابن صيدا عفيف البزري قائداً لجيشها، وابن شوكت شقير ابن أرصون رئيساً لأركان جيشها وارتضت ابن مرجعيون فارس الخوري رئيساً لحكومتها..

أما بعد ان تسلم الأسد السلطة في سورية وبات هو مخلب القط في لجم لبنان الذي راح مستفيداً من الكهف الذي سجن فيه الاسد سورية كلها يتقدم ويتطور.. وحصل الاسد على وكالة اميركية – عربية لحكم لبنان ولجم كل مناخ حر فيه وأفكار رائدة، وصوت مؤثر.. خصوصاً بعد ان أصبح معقلاً للقتال ضد اسرائيل التي تعهد لها الاسد بألا يمسها سوء شرط ان يحكم سورية الى الأبد.. فإن الأمور تبدلت.. وصار الاسد يعين في لبنان رؤساء الجمهورية والنواب (الا كامل الاسعد) والحكومات.. حتى جاء رفيق الحريري حاجة لبنانية - سورية.. تنقذ لبنان وتنقله من حالة الوفاة السريرية الى غرفة الانعاش يتنفس ويسمع ويتحدث لكنه لا يمشي.

رفيق الحريري جعل لبنان يمشي على قدميه أولاً ثم راح يهرول ثم يجري ثم يسابق الزمن، حتى جاء من يقول لحافظ الاسد ان مشروع رفيق الحريري هو الانقلاب على سورية اذا ما نهض لبنان.

الانقلاب من وجهة نظر حافظ الاسد

كان حافظ الاسد يراقب كيف كان رفيق الحريري يبني لبنان، ويدخل إليه كل مقومات التقدم العلمي على الأقل في مجال التقنيات، ومحاولة تحديث الادارة، والعمل على شحن أكبر كم ممكن ونوعي من الاستثمارات العربية والدولية، وهو جاء بأهم شخصية مصرفية كفاءة ومعرفة الى حاكمية مصرف لبنان رياض سلامة ليقيم له أمتن وأوسع شبكة علاقات مع كبرى مصارف العالم والمؤسسات المالية الدولية، ليقنع بعضها باعتماد لبنان مركزاً أساسياً لها في الشرق الأوسط، وكيف نجح في استقطاب مؤسسات خدماتية أممية لتكون بيروت مقرها الرئيسي.. وكان الاسد يقرأ كيفية الإفادة لنظامه وجماعاته من بناء الحريري للبنان.

كان الانقلاب الذي يعد له رفيق الحريري من وجهة نظر حافظ الاسد هو استعادة مكانة لبنان كعاصمة للخدمات والمصارف والجامعات والثقافة والفنون، ليعود فعلاً سويسرا الشرق كما كان قبل ان يحتل جيش الاسد لبنان ليجعله ساحل سورية الجنوبي الغربي وكان الاسد يقرأ كيف يمكن لهذه السياسة ان تنعكس ايجاباً على سورية.. وقد شهد بنفسه مجيء جاك شيراك الى دمشق وتجواله في سوق الحميدية، وصار رفيق الحريري وزير خارجية لبنان وسورية..

كان الانقلاب الذي يعد له رفيق الحريري من وجهة نظر حافظ الاسد، ديموغرافياً – مجتمعياً – وطنياً.. بجعل العمل والانتاج وتكوين الثروات والتباري في الثقافات وإنشاء الجامعات واقامة المرافق السياحية والابداع في الاعلام.. كلها عوامل تدفع اللبنانيين للاهتمام بما هو أعلى بكثير وأهم وأعمق من أي تفكير مذهبي او طائفي.. فإذا ما نجح الحريري وصار لبنان قدوة في سورية، اهتزت المعادلة التي وضعها وفرضها حافظ الاسد على بلاده منذ عقد صفقته الشهيرة مع هنري كيسنجر مع فض الاشتباك مع العدو الصهيوني في شباط/ فبراير 1974.. وهي حكم لبنان ليكون كما سورية.. وقد جاء الحريري بنهج يهدد بقلب المعادلة فتصبح سورية من جديد كما هو لبنان الجديد.

كان الانقلاب الذي يعد له رفيق الحريري من وجهة نظر حافظ الاسد (ثم وريثه بشار منذ تموز/يوليو 2000) هو تطلع السوريين لأن يكون عندهم شخصية حيوية – بناءة – منفتحة ذات علاقات عربية ودولية واسعة مثل رفيق الحريري، واذا نظرنا الى ان السنّة في سورية يشكلون نحو 70 % من عدد السكان نفهم هذا التطلع الى شخصية رفيق الحريري السني القوي داخل سورية حيث السنّة ضعاف.

لقد أدرك حافظ الاسد بعقله الشيطاني ان مجيء رفيق الحريري الى السلطة في لبنان، بث الروح في سنته وبات لهم من جديد زعيم جديد هو امتداد لتطلع السنة دائماً الى زعامة سنية قوية محلية او عربية وكلها غابت او هاجرت او قتلت او توفاها الله، من جمال عبدالناصر الى صدام حسين، ومن ياسر عرفات الى صائب سلام.. ورغم تطلع الكثير من سنة لبنان الى ملوك المملكة العربية السعودية، وخصوصاً فيصل ثم فهد ثم عبدالله.. فإن التجربة والممارسة كشفت ان ملوك السعودية حتى اذا لم يكونوا موافقين على سياسة حافظ الاسد في لبنان، فإنهم لم يظهروا مرة واحدة اعتراضاً او رفضاً لهذه السياسة السورية في لبنان، لأنهم كانوا ملتزمين المعادلة الدولية – الاميركية بتلزيم لبنان لحافظ الاسد ونقطة على السطر.

كان الانقلاب الذي يعد له رفيق الحريري من وجهة نظر حافظ الاسد هو جعل الاقتصاد والانتاج والتقنية في الاتصالات والمصارف والادارة أدوات اهتمام وبناء داخلي في لبنان ينتقل الى سورية بالضرورة – فيضيف الى أعمدة لبنان التاريخية في حرية الاعلام، وخصوصاً مع انفجار الفضاء الكوني بالاقمار الصناعية الناقلة للأخبار من كل دار على مدار الساعة، وحرية التظاهر في لبنان حتى ضد رفيق الحريري وهو يكاد يكون البناء الوحيد في لبنان، وحرية نقد الحكام من أصغرهم الى أوسعهم تأثيراً، والمحاسبة (نسبياً) وكشف المستور (على قدر المعلومات).. كلها مع ما سبق كانت تخيف أجهزة أمن حافظ الاسد والأصولية العلوية.. وكانت كلها تحت أنظار وفهم العقل الشيطاني للاسد الأب، ليتحسب لها، ويحسن التعامل معها.

هل كان حافظ الاسد ليصمت او يتجاهل هذا التراكم الذي يبنيه رفيق الحريري ليخلص لبنان وينقل آثاره الى سورية؟

ابداً.

ارجعوا الى الاسقاطات التي كان مخبرو محمد ناصيف من السياسيين والاعلاميين والأرزقية في لبنان يسقطونها على كل مشروع انتاجي – خدماتي – سياسي يقدم عليه رفيق الحريري.

ارجعوا كيف تطاول هؤلاء على رفيق الحريري عندما بنى مطاراً يتسع لـ 6 ملايين انسان في السنة، وقالوا (وكلامهم مسجل ومكتوب ومحفوظ) بأن بناء مطار كبير بهذا الحجم للاستيعاب هو جزء من مشروع الشرق أوسطية الذي طرحه رئيس وزراء العدو الصهيوني يومها (رئيس دولة فيما بعد.. راحل) شمعون بيريس.. وما مضت سنوات على اغتيال الحريري حتى عاش المطار الذي حمل اسمه بعد الرحيل أزمة خنقت كثيراً من المسافرين بما دفع خلفاء الحريري لطرح مشاريع توسعة جديدة وسط صمت مخبري محمد ناصيف صمت القبور..

قال مخبرو محمد ناصيف وأبو وائل هذا هو جزء من الأصولية العلوية حول (حافظ ثم بشار الاسد).. ان شق الطرقات الواسعة الطويلة في لبنان الذي يقدم عليه رفيق الحريري يهدف لربط لبنان بفلسطين المحتلة (اسرائيل) ضمن الشرق أوسطية، وقد ظهر وبعد رحيل الحريري ان الطريق الوحيد الواصل بين لبنان وفلسطين المحتلة تمر عبر أنفاق حفرها حزب الله بما يهدد وجود الكيان الصهيوني كله شريك نظام معلميهم في دمشق.. وسبب بقائه حتى الآن.

هاجم مخبرو محمد ناصيف مشروع تطوير الوسط التجاري في بيروت (سوليدير) لأن أسهمه كما زعموا مفتوحة أي لحامله ومن دون أسماء، وهذا يعني ان الصهاينة سيشترون الوسط التجاري للعاصمة اللبنانية.. وما كان بنو صهيون هم المتضررون الوحيدون من ان تعود بيروت هي لؤلؤة الشرق كله.

كانت هذه رسائل علنية من نظام حافظ الاسد الى رفيق الحريري تمر عبر مخبري محمد ناصيف لرئيس الحكومة المهموم بالبناء وبالمشاريع ليل نهار.

ولعل واحدة من أهم معارك الأصولية العلوية في سورية ضد رفيق الحريري في آخر مراحل مرض حافظ الاسد وتسليم ملف لبنان الى وريثه بشار، هي تسليم السلطة الى اختيار بشار في لبنان اميل لحود، وابعاد رفيق الحريري عن رئاسة الحكومة.

لقد جاءت ساعة تصفية الحسابات مع الحريري السني القوي للمجيء بسني لا يشكل خطراً على النظام في سورية، بل وينسجم معه في مسائل عديدة، وكان الأقرب الى عقل وقلب اميل لحود وهو سليم الحص. كان الحص نظيف الكف حسن السمعة مستقيماً.. وكان عند كثير من اللبنانيين ضمير وطنهم.. أما بعد ان صار رئيساً لحكومة اميل لحود الأولى وعلى حساب الحريري فإن الرجل الذي ظل على صفاته الطيبة نفسها فقد معظم رصيده عند السنة وعاقبوه في انتخابات عام 2000 التي أفقدته مقعده النيابي في بيروت لصالح إمرأة على لائحة الحريري نفسه.

كان هذا بعد عدة أسابيع على تسلم بشار الاسد السلطة في سورية، خليفة لوالده الذي توفي في 11- 6- 2000.. ويقال ان بشار بعد ان تبلغ نبأ سقوط الحص ونجاح لائحة الحريري بأكملها تقريباً، مزق أوراقاً أمامه بعصبية طالباً استدعاء غازي كنعان من عنجر اللبنانية على عجل ليقول له لماذا لم تتدخل لمنع سقوط الحص، وكيف سمحت للحريري ان يشكل هذه الكتلة الكبيرة في مجلس نواب لبنان؟

أصوليو العلويين حمّلوا غازي كنعان مسؤولية ما حصل في لبنان من عودة السني القوي أكثر قوة وعلى حصان أبيض الى السلطة في لبنان..

وقيل يومها ان العد العكسي لنهاية غازي كنعان قد بدأ في تلك اللحظة.

هنا يروي نائب بشار عبدالحليم خدام لـ ((الشراع)) انه وأثناء سفر بشار لحضور مؤتمر لقمة عدم الانحياز في الهند في مطلع عهده تحدث اليه ابو جمال في مطار دمشق الدولي طالباً منه الاهتمام بغازي لأنه رجل ناجح جداً في لبنان..

يقول خدام ان بشار وافقه الرأي وانه سيهتم به كثيراً.. لكن ما مضت أسابيع الا وتم استدعاء غازي الى سورية لابعاده عن لبنان وسلم سيىء الذكر والصيت والسمعة رستم غزالي مكانه حاكماً سنياً للبنان هذه المرة.

هنا تبدأ مرحلة جديدة في تحسب الأصولية العلوية لانقلاب جدي يرتبه رفيق الحريري داخل سورية.. وبالاتفاق مع غازي كنعان هذه المرة.

الأصولية العلوية اعتبرت ان هناك حلفاً رباعياً في سورية ولبنان يهيىء لخلافة حافظ الاسد والانقلاب على وريثه بشار.. وكان الرباعي هذا يصف بشار بأنه ولد أجدب (سمع الحريري هذه الصفة عدة مرات من أعضاء الفريق السوري في هذا الرباعي وهم عبدالحليم خدام، حكمت الشهابي ثم غازي كنعان) ووصف آصف شوكت بشار بأنه ولد عشية اغتيال الحريري في 14 – 2- 2005، قاله لإحدى الشخصيات العراقية في دمشق بعد عودتها من لقاء بشار للتوسط بينه وبين الحريري).

أول قرارات بشار كانت التخلص من هذا الرباعي  بدأت بحملة تحريض ضد حكمت الشهابي، ثم إبعاد غازي من لبنان تمهيداً لنحره، ثم قتل الحريري وهرب خدام ناجياً بجلده، ليتهم حتى الآن بالخيانة العظمى ومصادرة كل بيوته وأملاكه في سورية..

قتل بشار الاسد غازي كنعان لأنه كان يعتبره مخلب الحريري في داخل سورية، ورفعت تقارير الى بشار بأن كنعان يدفع ملايين الدولارات شهرياً الى ضباط أمن واستخبارات وجيش في سورية ليلتفوا حوله ليكون بديلاً عن بشار في انقلاب عسكري قيل ان صهره آصف شوكت سيكون له دور أساسي فيه.

وبعد.

هل هذا يكفي للحديث عن امكانية رفيق الحريري لتدبير انقلاب في سورية ينقلها من كهوف آل الاسد ليعيدها الى مصاف الدول النامية.؟ ألا تكفي هذه الامكانية لجعل شخص بمستوى فهم بشار الاسد يشغل ((عقله)) كي يتم التخلص من الحريري؟