بيروت | Clouds 28.7 c

حقيقة معنى التبذير / بقلم الشيخ أسامة السيد

حقيقة معنى التبذير / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 26 نيسان 2019 العدد 1898

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((ولا تُبذِّر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا)) سورة الإسراء.

إعلم أنه ليس لأحدٍ أن يتكلم في تأويل آيات الله بمجرد الرأي الذي يراه بعيدًا عن دليل الشرع فإن ذلك يؤدي إلى حمل الآيات على غير معناها الأصلي فيهلك من كان هذا حاله ويُهلك من صدَّقه، والعاقل لا يدخل في ما لا يُحسنه حتى يتعلم ما يحتاج إليه، والأولى به ألا يخوض في تفسير نصوص القرآن والحديث ما لم يكن أهلاً لذلك فإن دين الله تعالى ليس ثوبًا يُحاكُ على قياس فلانٍ وفلان، وكم نرى من العوام الذين ربما لا يُحسنون القراءة والكتابة أصلاً يستشهدون ببعض الآيات أو الأحاديث في غير معناها الأصلي ظنًا منهم أن المعنى الحقيقي مثلما يتوهمون، وحقيقة الأمر أن الصواب بعيدٌ عما قالوا بُعد المشرق عن المغرب.

والعجب كل العجب كيف يتجرأ من لا حظ له في الفقه ولا في الحديث ولا في اللغة والنحو على تأويل نصوص كتاب الله الذي هو في أعلى طبقات الفصاحة والبلاغة وقد تحدَّى الله به مشركي العرب في زمنٍ كانوا يتبارون فيه بقوة الفصاحة والبلاغة في نظم الشعر والخُطب والسجع.

الحذر الحذر

 وحيث عُلم هذا فالحذر الحذر فقد روى الترمذي عن ابن عبَّاسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)). ونصيحتنا أن لا يدخلن أحدٌ في تقرير معانٍ ما أنزل الله بها من سلطانٍ فإن أشكل عليه شيءٌ فليرجع إلى أهل العلم وليسأل عن تفصيل ما يحتاج إلى فهمه، خلافًا لبعض الناس الذين يرجعون في المسائل إلى بعض من عُرفوا بكثرة الذهاب إلى الحج أو العمرة فقط ولم يسبق لهم أن درسوا العلم وعرفوا الأصول. ولو أردنا الدخول في سرد أمثلةٍ لبيان ما حرَّف الغوغاء معناه وحملوه على خلاف الحق المبين لطال الكلام وطال، فمن ذلك أننا نرى بعض العوام يصرفون قول الله تعالى ((ولا تُبذِّر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا)) عن أصل المعنى المراد فيظنون أن التوسع في النفقة في المباحات حرامٌ وأن التبذير هو أن تُبالغ في الإنفاق ولو كان في ما لا معصية فيه وهذا غلطٌ ظاهرٌ، وغاية الأمر أن التوسع في المباحات بنحو لذيذ المآكل والمشارب هو من التنعم المكروه الذي يُثاب تاركه إن اجتنبه من باب الزهد وخيرٌ للمؤمن أن يختار الزهد اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبرار، ولكن لا يأثم فاعله ولا يستحق عليه العقوبة في الآخرة، فإن الله تعالى لا يُعذِّب العباد على ما لم يُحرِّمه عليهم، بل قد بلغنا أيضًا أن بعض الناس وقعوا في تكذيب الدين فيظنون والعياذ بالله من فساد الحال أن المبالغة في الإنفاق في وجوه البر بمساعدة المحتاجين وإغاثة الملهوفين وإكرام الضيوف والإحسان إلى الأقارب هو تبذيرٌ وإسرافٌ ممقوتٌ، فإذا ما رأوا شخصاً يُكثر من هذه الأعمال الحسنة يعترضون عليه ويحتجون لزعمهم بقوله تعالى المذكور أعلاه، وهذا غايةٌ في الجهل وسوء الفهم بل هو ضلالٌ مبين مناقضٌ لتعاليم سيد المرسلين رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أفضل أن يُنفق المؤمن المال في ما يحبه الله ليكون ذخرًا له في آخرته.

إياك والتبذير

وإذا ما اتضح هذا فلا بد من موافقة تأويل الآية لأصول الدين وفي معناها نقول: ليُعلم أولاً أن التبذير هو السَّرَف قال الطبري في ((تفسيره)): ((وأصل التبذير التفريق في السَّرَف)). وفي ((تفسير القرطبي)) عن النضر بن شُميل قال: ((السَّرَف التبذير)). والسَّرَف والتبذير معناهما إنفاق المال في الحرام. 

قال الفخر الرازي في ((التفسير الكبير)): ثم قال تعالى: ((ولا تُبذر تبذيرا)) والتبذير في اللغة إفساد المال وإنفاقه في السَّرَف قال عثمان بن الأسود: كنت أطوف في المسجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قُبيس ((اسم جبل، أي رفع رأسه ناحية جبل أبي قُبيس)) وقال: ((لو أن رجلاً أنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين ولو أنفق درهمًا واحدًا في معصية الله كان من المسرفين)). وفيه أيضًا: ((ثم نبَّه تعالى على قُبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين فقال ((إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين)) والمراد من هذه الأخوة التَشبه بهم في هذا الفعل القبيح وذلك أن العرب يُسمون الملازم للشيء أخًا له فيقولون فلانٌ أخو الكرم والجود وأخو السفر إذا كان مواظبًا على هذه الأعمال)).

فالمبذرون إخوان الشياطين أي يشاكلون الشياطين إذ المبذر ساعٍ في إفسادٍ بما يُنفقه في معصية الله حيث جعل ماله وسيلةً إلى التمادي في الشر والبغي وهكذا فعل الشيطان ولا شك أن العاقل يربأ بنفسه أن يكون كالشياطين فمن فهم معنى هذه الآية فليقف عند حد الشرع ومن رزقه الله المال فليجعله وسيلةً لطاعته سبحانه بإنفاقه في وجوه البر ليكون له ذخرًا يوم القيامة وإلا فقد روى البخاري عن خولة الأنصارية قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن رجالاً يتَخَوضُون في مال الله بغير حقٍ فلهم النار يوم القيامة)).

قال ابن منظورٍ في ((لسان العرب)): ((وأصل الخوض المشي في الماء وتحريكه ثم استُعمل في التلبُّس بالأمر والتصرف فيه)). والمعنى أي رُبَّ متصرفٍ في مال الله تعالى بما لا يرضاه الله ولم يأذن فيه وذلك كالتصرف فيه في وجوه الحرام فيستحق عذاب النار يوم القيامة.

فالحذر من ذم الإنفاق ولو كثُر في وجوه الخير فليس ذلك تبذيرًا محرمًا فقد روى مسلم عن أنسٍ أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنمًا بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه فقال: ((أي قوم أسلموا فوالله إن محمدًا ليعطي عطاءً ما يخاف الفقر)).

والحمد لله أولاً وآخراً.

 

الوسوم