بيروت | Clouds 28.7 c

السودان على صفيح سياسي ساخن / بقلم: المحامي حسن بيان

السودان على صفيح سياسي ساخن / بقلم: المحامي حسن بيان

مجلة الشراع 26 نيسان 2019 العدد 1898

 

أربعة أشهر والسودان على صفيح سياسي ساخن إلى أن بدأت مؤشرات التغيير تبرز بقوة، بفضل الضغط الجماهيري وزخم الحراك المتواصل الذي حافظ على سلميته رغم محاولات النظام جره إلى العسكرة.

أول المؤشرات،كانت اعلان وزير الدفاع ابن عوف عن تشكيل مجلس عسكري انتقالي يتولى إدارة السلطة والبلاد لفترة سماها انتقالية. لكن هذه الخطوة لم تصمد سوى 24 ساعة، لأن الاجراء السلطوي الذي أزاح البشير نظرياً عن الموقع الأول في  هرمية السلطة،لم يكن اجراءً شكلياً هدفت من خلاله المنظومة الممسكة بمفاصل السلطة الالتفاف على مطالب الحركة الشعبية عبر إعادة انتاج  نفسها بحيث يبقى البشير في قيادة الظل، ويتولى من هم شركاء له واجهة الادارة السياسية والعسكرية والأمنية للبلاد.

إن الذي جعل هذا الاجراء السلطوي لا يقوى على الصمود يوماً واحداً، هو إدراك الحركة الشعبية التي انتفضت على الوضع القائم، إن ما حصل ليس تغييراً ولا يلبي الحد الأدنى من المطالب التي لأجلها انطلق الحراك، بل الذي حصل هو التفاف ومحاولة مكشوفة لإجهاضه بعد حركة  مناقلات شكلية وبالتالي سقطت الخطوة الأولى قبل أن يجف حبر القرارات التي أصدرها المجلس العسكري الانتقالي.

بعد سقوط المحاولة الأولى للالتفاف السلطوي على المطالب التي رفعتها الحركة الشعبية التي اطلقت الحراك وضبطت ايقاعه، جاءت الخطوة الثانية، من قبل مجموعة من الضباط برئاسة الفريق برهان، لتقيل المجموعة الأولى التي تشكل منها المجلس الانتقالي برئاسة ابن عوف ولتطلق مجموعة عناوين تشكل أساساً من وجهة نظرها للتأسيس لمرحلة سياسية جديدة تمر بمرحلة انتقالية حددتها بسنة واحدة.

إن المجلس العسكري برئاسة البرهان ومنذ لحظة امساكه بسلطة التقرير، أقدم على خطوتين:

الأولى: أنه أعاد هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية بإزاحة ضباط كبار من مواقع المسؤولية ومنهم أعضاء  المجلس العسكري الأول، واعتقال البشير بعدما كان قيد التحفظ.

وأما الثانية: تمثلت باستعداده للانفتاح  على مطالب الحركة الشعبية والتي لاقت بقواها الأساسية هذا الموقف بمبادرة ايجابية بأن أبدت استعداداً للحوار والنقاش مع المجلس العسكري للاتفاق على مخرجات سياسية لحل الأزمة ووضع السودان على سكة التغيير.

إن قوى ((الحرية والتغيير)) والتي تضم الطيف السياسي الوطني بكل فئاته من بعثيين وشيوعيين وناصريين ووطنيين وقوى مهنية نقابية والتي كانت منفتحة بالأساس على الاتجاه الايجابي لدى الجيش، خصوصاً تجاه القضايا الشعبية المحقة سواء كانت وطنية أو سياسية أو اجتماعية، وجدت في الكوة التي فتحت مع المجلس العسكري الجديد بالاستناد إلى العناوين التي طرحها فرصة يجب اقتناصها لأجل تظهير مخرجات الحل السياسي للأزمة.

لقد أقدمت قوى الحرية والتغيير على صياغة ورقة مشتركة قدمتها للمجلس العسكري متظللة بثلاثة عناوين:

العنوان الأول: أنها مع المرحلة الانتقالية لإعادة هيكلة الوضع الدستوري والسياسي بما يمكن من إعادة الديموقراطية للحياة السياسية، على  قاعدة تداول السلطة وانتهاء تسلط المنظومة الأمنية والعسكرية على البلاد.

العنوان الثاني: إن الجيش هو مؤسسة وطنية ودورها يجب أن يكون في حماية الأمن الوطني والسلم الأهلي ولا شأن له بإدارة الحياة السياسية.

العنوان الثالث: إن من يتولى الادارة السياسية في المرحلة الانتقالية حكومة مدنية ولا ضير أن يشارك فيها عسكريون.

هذه العناوين الثلاثة، التي طرحت على المجلس العسكري الثاني لم ترفض منه صراحة ولكنها لم تجد قبولاً منه، بل بقي يطلق المواقف الايجابية تجاه الحراك ومطالبه، ويستمر في اتخاذ القرارات التي تعيد هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية، راسماً اتجاهاً عاماً للمرحلة الانتقالية وبما يمكنه من التحكم في الإمساك بها وإداراتها مستفيداً من عاملين، الأول: أن الموقف الايجابي لقوى الحرية والتغيير بالانفتاح على الحوار معه محاولاً تصويره وكأنه موافقة مسبقة على اجراءاته، أما العامل الثاني، فهو بروز حركة تأييد عربية ودولية لخطواته.

وإذا كان التأييد العربي انطلق من ثلاثي مصر والسعودية والامارات وترجم بالموقف السياسي والدعم المالي، فإن التأييد الدولي انطلق من أميركا التي فتح خط اتصال سريع مع إدارتها.

هذان العاملان، الفهم الخاطىء للمجلس العسكري لموقف قوى الحرية والتغيير، بأن الانفتاح الايجابي على الحوار معه هو تفويض بكل ما يقوم به- وهو غير صحيح - والدعم العربي والدولي جعلا المجلس العسكري يتعاطى مع ما طرحه الوفد الذي مثّل قوى الحرية والتغيير بعدم الجدية المطلوبة، وهذا ما دفع القوى التي تدير الحراك لأن تعيد تقويم موقفها ووقف الحوار معه، والاستمرار بالضغط عبر الشارع لفرض أجندة التغيير وفق الرؤية الوطنية، لجهة عدم تمكين إعادة انتاج النظام لنفسه تحت مسميات ولافتات جديدة.

أمام هذا الواقع المستجد بدأت تطرح التساؤلات حول الاحتمالات السياسية للمتغيرات الحاصلة وفي ضوء تموضع القوى السياسية من كان منها متظللاً بالسلطة ومستفيداً من امتيازاتها، ومن هو في موقع الاعتراض وإن تعددت أطرافه.

إن القوى التي كانت متظللة بالسلطة، تمحورت حول طرفين أساسيين: الأول هو المؤتمر الشعبي، وهو حزب البشير، والثاني،هو حزب الاخوان المسلمين ((حسن الترابي)). وإذا كان الأول أمسك بالمفاصل الأمنية والعسكرية والرسمية، وأسس تشكيلات ميليشاوية رديفة أضفى  عليها شرعية ومولها من خزينة الدولة، فإن الثاني استفاد من المناخ السياسي وكان شريكاً في الحكم طيلة فترة طويلة.

وبالتالي فإن أي اهتزاز في مواقع السلطة سينعكس سلباً على الاثنين معاً باعتبارهما شكلا على مدى حكم البشير منظومة متكاملة ولهذا ،فإن الموقف العربي من الثلاثي المصري والسعودي والاماراتي، إن كان أبدى تأييداً واضحاً للنسخة الثانية من المجلس العسكري، فلأن أحد الأسباب الجوهرية تكمن في الموقف من ((الاخوان)) والتي كانت ساحة السودان احدى الساحات الأساسية التي يمارسون من خلالها تأثيرهم في إدارة دفة الحكم داخلياً وفي علاقة النظام مع الخارج . وإن إسقاط موقع ((الاخوان)) في السودان سيضعف من تأثيرهم على ساحات أخرى  يخوض هذا الثلاثي معها صراعاً مباشراً وبالواسطة.

ولهذا فإن جانباً أساسياً من موقف الثلاثي العربي من المجلس العسكري الثاني، ليس باعثه تأييد الحراك ومطالبه واقامة نظام وطني ديموقراطي، بل إعادة تركيب سلطة سياسية تتماهى مع هذا المحور في علاقاته العربية والدولية. وبالتالي، فإن  هذا الثلاثي لا يريد أن يكون للحركة الوطنية السودانية دور في انتاج نظام سياسي جديد يحاكي المطالب الشعبي ومطالب الاصلاح والخيارات الوطنية داخلياً وخارجياً.

وهذا ما جعل المجلس العسكري يراوغ ويعمل على الالتفاف على المطالب الأساسية بإجراءات شكلية.

أما بالنسبة لقوى الاعتراض الوطني والتي انخرطت وقادت الحراك الشعبي منذ انطلاقته ومن انضم إليه لاحقاً بعدما ثبت أنه متجذر وصامد وقادر على الاستمرارية وعلى ضبط خطابه السياسي ضمن عناوينه الوطنية الاصلاحية والتغييرية، فإن اتجاهين بدءآ يبرزان في صفوفهما:

الاتجاه الأول: وتمثله بشكل أساسي قوى الاجماع الوطني، وهي تصر على أن يكون للحركة الوطنية دور أساسي في تظهير مخرجات لحل الأزمة، وتنتابها شكوك بالمبطن السياسي لدى المجلس العسكري، وهي التي اختبرت حالات سابقة، أُعطيت فيها وعوداً ثم ما لبث أن عاد ((العسكر)) للانقضاض على السلطة واجهض مطالب الشعب المنتفض، وهذا حصل عام 1964، وعام 1985، ولذلك فإن ((المؤمن لن يلدغ من الجحر مرتين)).

وأما الاتجاه الثاني: فهو مع اعطاء المجلس العسكري فرصة إدارة العملية الانتقالية على أن لا تطول كثيراً ومدتها سنة وهذا الاتجاه يدعو إليه حزب الاتحاد ((الميرغني)).

أمام هذا الواقع،لم تجد قوى الحرية والتغيير خياراً إلا  الاستمرار في التظاهرات والاعتصامات في الميادين لأجل فرض أجندة التغيير وفق رؤيتها وليس وفق رؤية المجلس وداعميه من النظام الرسمي العربي والقوى الدولية.

فهل هذا الأمر سيدفع إلى تصادم بين الحراك الشعبي والمنظومة السلطوية التي يعاد تركيبها عبر حزمة القرارات التي اتخذها المجلس العسكري.

إن هذا لو حصل، ستكون نتائجه كارثية  وسيعيد الأمور إلى المربع الأول، لأن ما لم يستطع البشير وداعموه اعتماد الحل الأمني في معالجة الأزمة السياسية الاقتصادية الحادة، سيحققه المجلس العسكري الجديد مستفيداً من الدعم السياسي والمادي الخارجي الذي قدم له.

وهذا بالطبع سيدفع الأزمة إلى مدار جديد لا يعود بالامكان التحكم بمساراتها وسيكون المستفيد الأول من ذلك المنظومة التي كانت آخذة بالتهاوي تحت الضغط الشعبي المتزايد.

من هنا، فإن مواجهة الاحتمالات التي تنذر بالأسوأ ولأجل حماية المكاسب السياسية التي تحققت بفضل النضالات الشعبية والتي  توجت بالانتفاضة التي تحولت إلى ثورة شعبية، تتطلب:

أولاً: أن يبقى الموقف السياسي لقوى الحراك متماسكاً في الشارع وفي تقديم نفسها كفريق واحد وبالاستناد إلى خطاب موحد الرؤية لكيفية تحديد مخرجات الحل السياسي.

ثانياً: إن يبقى الأصرار قائماً على أن تكون مرجعية الادارة السياسية للمرحلة الانتقالية، إدارة مدنية وإن شارك في إطاراتها وهيئاتها عسكريون.

ثالثاً: أن لا تخرج التباينات بين أطراف الحراك بقواه الأساسية إلى العلن سواء ما يتعلق منها بإدارة ملف التغيير في التفاوض والحوار مع المجلس العسكري، او في شغل المواقع وحتى  لا يقع الخلاف على

((جلد الدب قبل صيده)).

إن موقفاً متماسكاً من قبل قوى الحرية والتغيير، مع ابقاء الضغط من خلال الشارع قائماً سيؤدي إلى نتائج ايجابية في عدة مجالات ويوجه رسائل إلى كل المعنيين بمسار الأزمة والوضع السوداني في الداخل والخارج:

 إن الرسالة الأولى: ستكون للمجلس العسكري الذي يحاول الالتفاف على دور الحركة الوطنية بكل طيفها السياسي وسعيه توظيف التباينات في وجهات النظر إلى نقطة قوة لمصلحته، لأن ما رفضته من النسخة الأولى للمجلس العسكري لن تقبل به ((مجملاً)) من النسخة الثانية لتشكيلته وأن وقف الحوار معه خطوة في الاتجاه الصحيح.

الرسالة الثانية: وهي موجهة للقوى التي تملك حيثية سياسية وشعبية ولكنها لم تواكب الانتفاضة بالميدان منذ لحظة انطلاقتها، ((حزب الأمة))، بل ركبت موجتها للحصول على حصة سياسية فيما لو حصل التغيير وهي تعتبر نفسها مقبولة لدى الخارج العربي الدولي الذي لا تريحه عملية تصدر قوى التغيير الوطنية الجذرية بقواها البعثية والشيوعية والناصرية والهيئات النقابية والمهنية مشهدية الحراك الذي سيعطيها دوراً وموقعاً في البناء السياسي للنظام الجديد.

وهذا كان أحد الأسباب الذي سارعت فيه قوى الخارج العربي والدولي لدعم المجلس العسكري لتقوية حضوره في الحركة السياسية في مواجهة قوى الاصطفاف الوطني.

الرسالة الثالثة: وهي موجهة إلى من كان يعمل متظللاً بنظام البشير، وبرزت لديه اتجاهات ايجابية حول  التعامل مع الحراك ومطالبه، وهذا المناخ ساد لدى شرائح في حزب الاخوان بحيث برزت لدى هذا الحزب وجهتا نظر واحدة تعتبر نفسها حامية للنظام وهي جزء من منظوماته، وأخرى كانت ترى أن المركب ذاهب إلى الغرق والقفز منه سيضمن لها سلامة البقاء حتى ولو سبحت في بحر هائج.

في ضوء هذا التموضع السياسي للقوى في الداخل وعدم افساح المجال  لتنامي أدوار الخارج فإنه من مصلحة السودان أن يتم  انتاج نظام سياسي تحكمه الديموقراطية والتعددية السياسية بعيداً عن الالغاء والاقصاء لكل من يرغب بالعمل السياسي على الأسس  التي  بالاستناد إليها يعاد البناء الوطني وتعاد  معه هيكلة الحياة السياسية وفق مقتضيات المصلحة الوطنية ودور قومي للسودان خدمة  للقضايا العربية وكل من يهدد الأمن المجتمعي والقومي للأمة .

إن الأيام المقبلة هي أيام عصيبة في حياة السودان، فإما أن تصل حركة التغيير إلى تحقيق أهدافها تحت عناوين المشروع الوطني الذي حملته قوى الحرية والتغيير وإما سيتم الانقضاض على هذا المتغير الايجابي، ومعه ستدخل السودان نفقاً مظلماً سيخرج الجميع منه خاسرون.

إن مصلحة شعب السودان بكل قواه، أن يمارس كل طرف معني بأزمة السودان دوره ووظيفته، فالجيش الذي يجب اعادة هيكلته على اساس عقيدته الوطنية مهمته الأساسية حفظ الأمن الوطني، والشعب عبر قواه الحية والتي تملك حيثية شعبية وسياسية هي المعنية بإدارة شؤون البلاد على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعندها يتم التكامل بين الأدوار ما بين جيش حامٍ للوطن والشعب وشعب يعتبر مؤسسة الجيش إحدى ركائز البنيان الوطني لكن ليس من صلاحياته ادارة الشأن السياسي لا في المرحلة الانتقالية ولا في المرحلة التي تليها.

 

الوسوم