بيروت | Clouds 28.7 c

لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا /بقلم الشيخ أسامة السيد

 

لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا

بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 26 كانون ثاني 2023

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{وافعلوا الخير لعلكم تُفلحون} سورة الحج.

وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أَخاك بوجهٍ طَلْق" رواه مسلم.

لقد حثنا الشرع الشريف على المبادرة إلى الخيرات والإكثار منها قدر المستطاع على أختلاف انواعها وأن لا نضيِّع أدنى فرصة يمكننا أن نستفيد منها في الخير، وقد أوصانا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أن لا نحتقر شيئًا من الحسنات، أي أن لا ننظر للأمر أنه شىء صغير فنتركه وليس كبيرًا، ولو كانت تلك الحسنة أن ينظر أحدنا إلى أخيه بوجه طلق، أي بوجهٍ غير عابسٍ بل بوجهٍ يؤذن بالفرح بأخيك المؤمن والأنس به، فإنك لو لم تصنع مع أخيك المؤمن شيئًا سوى أن تنظر إليه بوجهٍ طلق بنيةٍ حسنةٍ فإن ذلك عند الله تعالى عظيم، ولا شك أن هذا من أسهل الطرق لكسب الحسنات ولا يخفى ما تدخله ابتسامتك وطلاقة وجهك وبشاشتك في نفس أخيك المؤمن من فرحٍ وسرورٍ وتخفف عنه من أعبائه وأتعابه.ولما كانت أعمال المعروف كثيرةً جدًا وكان بعضها أعظم من بعض ذكرَ النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أسهل على النفس وهو أن يلقى المؤمن أخاه المؤمن بوجهٍ طلقٍ ترغيبًا لأمته بالإقبال على عمل البر وعدم الإعراض عنه بدعوى أنه قليلٌ، مع العلم أن ما كان أكثر كلفةً من المعروف كان أعظم أجرًا، وبالتالي فمن أراد التَّرقي في الكمال عمل بهذا الحديث وأمثاله فإن أحدنا لا يدري بسر أي عملٍ من الأعمال الصَّالحة يوفِّقه الله للتوبة فيغفر له ويثبِّته على التقوى فيدخله بعد ذلك الجنة بلا عذاب.

وكم من الناس يغفلون عن كثيرٍ من الخير فلا يأتونه أو يتركونه بدعوى أنه قليلٌ ولو أنصف هؤلاء من أنفسهم لأقبلوا على الخير حيث تيسَّر لهم ولم يُهملوا ذلك بدعوى أنه قليل فقد روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبق درهمٌ مائة ألف درهم. قالوا: يا رسول الله كيف يسبق درهم مائة ألفٍ؟ قال: رجلٌ له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به وآخر له مالٌ كثيرٌ فأخذ من عُرضِها مائة ألفٍ" أي فتصدق بها فدلَّ الحديث على أنالعبرة ليست بمجرد كثرة الإنفاق، وكم يؤجر أناسٌ على أعمالٍ صالحةٍ هي أقلُّ من أعمال آخرين، مثال ذلك هذا الذي تصدق بدرهمٍ من أصل درهمين فإنه تصدَّق بنصف ماله بخلاف صاحب الأموال الكثيرة الذي تصدَّق بمائة ألفٍ وهي جزءٌ قليلٌ من عُرض ماله الكثير.

كل معروفٍ صدقة

فالعاقل إذًا من يقتنص فرص الخير فإننا وإن كنا في زمنٍ كثُر فيه الشر فإن أبواب الخير كثيرة ولكن أغلب الناس لا يَلِجون تلك الأبواب إما لجهلهم وإما لغفلتهم  فمن كان جاهلًا فأرشدوه بالعلم ومن كان غافلًا فأيقظوه بالذكرى،واعلموا أن الله تعالى يجزي على العمل الصالح وإن قلَّ الثواب الجزيل، وأن من أسماء الله الحسنى "الشكور" ومعناه يُثيب على الطاعة والعمل الصالح وإن كان يسيرًا الثواب الجزيل، قال الله تعالى:{إن ربنا لغفورٌ شكور} سورة فاطر. و"غفور" أي يغفر الجنايات وإن كثرت لمن تاب التوبة الصحيحة، و"شكورٌ" يقبل الطاعات وإن قلَّت كما قال النسفي في "تفسيره". وبالتالي: فلا ينبغي لأحدٍ أن يحتقر شيئًا من الحسنات من نفسه ولا من إخوانه ولا ينبغي أن يغترَّ فيقول مثلًا: "أنا عملت كذا وكذا من الحسنات صليت وصمت وحججت كثيرًا وتصدقت وفعلت وفعلت فما لي ولهذه الحسنة الصغيرة" فما يدريك لعله يكون في تلك الأعمال الكثيرة التي قدَّمتها خللٌ  فلم يقبلها الله تعالى منك. وإذا ما كان طالب الدنيا لا يُفوِّت على نفسه فرصةً من فُرص الدنيا لكسب المال والأرباح ولربما خاطر بنفسه لأجل ذلك فأولى بالعاقل أن لا يُفوِّت على نفسه أي فرصةٍ من الفُرص التي يتيسّر له فيها البر وإن قلَّ، فربما كانت الصدقة بالقليل سببًا في إغاثة ملهوفٍ وربما كانت النصيحة بكلمةٍ سببًا في إنارة السبيل لحيران، وربما ملأت زيارتُك قلبَ أخيك السقيم عافيةً فزال بها عن نفسه البؤس، وربما كانت ابتسامتك في وجه أخيك سببًا في انشراح صدره وزوال غمِّه لا سيما وقد صرنا إلى زمنٍ كثرت فيه هموم الناس وألجأت الحاجة كثيرًا منهم إلى قصد من يتوسَّمون فيهم العون.

وإن من نعم الله عليك حاجة الناس إليك فاغتنم ما فتح الله عليك من أبواب الخير ولا تغلقها في وجهك من حيث تدري أو لا تدري فقد روى البخاري في "الأدب المفرد" عن أبي ذرٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إفرَاغُك من دلوك في دلو أخيك صدقة وأمرُك بالمعروف ونهيُك عن المنكر صدقة وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة وإماطتُك الحَجر والشوكَ والعظم عن طريق الناس لك صدقة وهدَايتُك الرَّجُل في أرض الضَّالة صدقة" ومعنى "هدايتك الرجل في أرض الضَّالة" أن تجد رجلًا قد ضلَّ الطريق فترشده إلى الطريق. وعن جابرٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل معروفٍ صدقة" متفقٌ عليه. أي أن كل عمل برٍ فيه ثواب صدقة، أفلا ينبغي إذًا أن يكون هذا محفِّزًا لنا لعمل الخير وليوطِّد أحدنا نفسه على بذل المعروف ابتغاء رضا الله تعالى وحده لا أن يكون الإحسان في مقابل إحسان فقط، فإن الناقصين هم من يتوقفون عند المقابلة بالمثل، أما مريدو التَّرقي في مراتب الكمال فيعملون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرةٍ" رواه البخاري و"الشِّق" هو النصف. ويتخذون من الحديث والآية أول المقال ومن غير ذلك من النصوص التي فيها التحريض على الإقبال على الخيرات عناوينَ للتنافس في أمر الآخرة.

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يشبع المؤمن خيرًا حتى يكون منتهاه الجنة" رواه ابن حبَّان ومعناه أن المؤمن الكامل لا يملُّ من الإكثار من الخير.

والحمد لله أولًا وآخرًا.