بيروت | Clouds 28.7 c

هذه الدنيا فاحذروها / بقلم الشيخ أسامة السيد

 

هذه الدنيا فاحذروها / بقلم الشيخ أسامة السيد
الشراع 27 كانون الثاني 2022

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {يآ أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرَّنكم الحياة الدنيا ولا يغرَّنكم بالله الغَرور} سورة فاطر.

وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن لابن آدم واديًا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب" رواه البخاري. ورواه مسلم بلفظ: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديًا ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب".

قال النووي في "شرح صحيح مسلم": "وفيه ذم الحرص على الدنيا وحب المكاثرة بها والرغبة فيها ومعنى "لا يملأ جوفه إلا التراب" أنه لا يزال حريصًا على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره وهذا الحديث خُرِّج (حُمل) على حكم غالب بني آدم في الحرص على الدنيا". وقال المازري في "المعلم بفوائد مسلم": "يحتمل أن يكون إنما خصَّ هذا العدد فقال "واديان" ولم يقل ثلاثة أو أكثر لأن أصول الأموال ذهب وفضة فعبَّر عن هذين الصنفين، وأما قوله "لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب" فإنه يحتمل أن يريد بالجوف القلب ويريد بذلك أنه لا يمل من محبة المال". وقد وقع الحديث في رواية عند أحمد: "لو كان لابن آدم واديان من ذهبٍ وفضة" الحديث، وهذا يُقوّي ما قال المازري.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعِس عبدُ الدينار والدرهم" رواه البخاري. "وتعس" هلَك "وعبد الدينار والدرهم" طالبه وخادمه والحريص على جمعه، وفي تسميته بعبد الدينار والدرهم إشعارٌ بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها حتى يصير كالأسير الذي لا يجد خلاصًا من الانهماك في طلب الدنيا ولو بتعريض نفسه للذلِّ لأجل تحصيل المال، "والدينار" عملة كانت تُضرب من ذهب "والدرهم" ما يُضرب من فضة.

آكل الرغيف

فالعاقل من حفظ نفسه من شَرَك مغرياتِ الدنيا ولم يفتنه حب المال وحذِر الغَرُور وهو الشيطان فإن وعد الله تعالى بالبعث والثواب والعقاب حق، وما أكثر العِبر لمن أراد أن يعتبر والسعيد من وُعظ بغيره، وفيما يلي دعوة إلى الاعتبار بما ستقرأ ولتعرف بذلك حقيقة الدنيا التي ما زال يُفتن بها أكثر الناس.

جاء في "الدر المنثور" للسيوطي "وتاريخ دمشق" لابن عساكر "وإحياء علوم الدين" للغزالي وغيرهم: عن ليثٍ قال: صحب رجلٌ عيسى ابنَ مريم عليه السلام فانطلقا فانتهيا إلى شاطئ نهرٍ فجلسا يتغدَّيان ومعهما ثلاثة أرغفة فأكلا الرغيفين وبقي رغيفٌ فقام عيسى عليه السلام إلى النهر يشرب ثم رجع فلم يجد الرغيف،فقال للرجل: مَنْ أكل الرغيف؟ قال: لا أدري. فانطلق معه فرأى ظبية (أنثى الغزال) معها خِشْفان (الخِشْفُ ولد الغزال) فدعا أحدهما فأتاه فذبحه وشواه وأكلا ثم قال للخِشْف: قم بإذن الله فقام. فقال للرجل: أسألك بالذي أراك هذه الآية (المعجزة) مَنْاكل الرغيف؟ قال: لا أدري. ثم انتهيا إلى البحر فأخذ عيسى بيد الرجل فمشى على الماء ثم قال: أنشُدُك (أسألك) بالذي أراك هذه الآية مَنْ أكل الرغيف؟ قال: لا أدري. ثم انتهيا إلى مفازة (صحراء) وأخذ عيسى عليه السلام ترابًا وطينًا فقال: كن ذهبًا بإذن الله فصار ذهبًا. فقسَمه ثلاثة أثلاث فقال: ثلثٌ لك وثلثٌ لي وثلثٌ لمن أخذ الرغيف. قال: أنا أخذته. قال عيسى عليه السلام: كله لك. وفارقه فانتهى إليه رجلان (أي قدم إليه رجلان بعدما فارقه عيسى عليه السلام) فأرادا أن يأخذاه (أي يأخذا الذهب) ويقتلاه فقال الرجل: هو بيننا أثلاثًا فابعثوا أحدكم إلى القرية يشتري لنا طعامًا. فبعثوا أحدهم فقال الذي بُعث: لأي شىءٍ أُقاسم هؤلا المال ولكن أضع في الطعام سُمًّا وأقتلهما. وقال ذانك: لأي شىءٍ نعطي هذا ثُلث المال ولكن إذا رجع قتلناه. فلما رجع إليهم قتلوه وأكلا الطعام فماتا فبقي ذلك المال في المفازة وأولئك الثلاثة قتلى عنده، فمر عيسى عليه السلام على تلك الحالة فقال لأصحابه: هذه الدنيا فاحذروها".

 

هوان الدنيا

انظر بعين البصيرة كيف أكلت الدنيا قلبَ صاحبِ الرغيف بل وقلوب الثلاثة فقتل بعضهم بعضًا لأجل المال وبقي المال بعدهم! وكم نرى اليوم من أناسٍ غرَّهم متاعالحياة الدنيا فانصرفوا بكلِّيتهم إلى الدنيا وصرفوا ما آتاهم الله من المناصب في تحصيلها فلم يكتفوا بأكل الرغيف بل أكلوا الناس وأموال الناس ولم يتركوا طحينًا أصلًا لصنع الرغيف، فإذا بأحدهم لا غاية له إلا المال ثم المال وكم من أناسٍ يظنون أن علامة الكرامة أو الهوان عند الله تعالى بزيادة المال ونقصه، وإلى هذا المعنى دلَّ قول الله تعالى في سورة الفجر:{فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربُّه فأكرمه ونعَّمه فيقول ربي أكرمن وأمآ إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانن} أي ان الإنسان الكافر إذا امتحنه واختبره الله تعالى بالمال وبما وسَّع عليه من متاع الدنيا يظن أن الله قد فضَّله بما أعطاه لكرامته على ربه، وأما إذا قَدَر أي ضيَّق عليه رزقه فيقول: ربي أهانن، فيزعم أن الفضل عند الله بالغنى وأن الهَوان بالفقر ولا يدري أن الأمر كما روى الترمذي عن سهل بن سعدٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو كانت الدنيا تعدِل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربة ماء".

وحقيقة الأمر أن الدنيا لا ينبغي أن تكون مقصودةً لنفسها بل هي طريقٌ والمقصود الأسمى الذي يسعى له الصَّالحون الفوز في الآخرة في جنة الله العالية، وإنما يؤول ملك الدنيا في الغالب لمن غاية أمرهم إصلاح دنياهم ولو بفساد دينهم فتفنى الدنيا ويفنون هم فيا ضيعان الأعمار والأنفاس، فكم غرَّت الدنيا أقوامًا؟ وكم أتلف الحرص على المال قلوبًا؟ وكم شغَل طلب الثراء نفوسًا؟ وكم عضَّ الدهر جبابرةً فلم يُنقذهم من أنيابه طبٌ ولا دواء؟

يا من تمتَّع بالدنيا وزينتها                          ولا تنام عن اللذَّات عيناه

أفنيت عُمرك فيما لست تُدركه                 تقول لله ماذا حين تلقاه

والحمد لله أولًا وآخرًا.