بيروت | Clouds 28.7 c

هل الفرد من يصنع التاريخ أم المجتمع/ بقلم عبد الهادي محيسن

 

هل الفرد من يصنع التاريخ أم المجتمع/ بقلم عبد الهادي محيسن 
الشراع 27 كانون ثاني 2022

إن تحديد الدور الذي يلقيه الفرد في المجتمع وتقدير أثره في التاريخ مسألة يدور حولها نقاش مستمر ...

فالفرد عامل هام في المجتمع والتاريخ من ناحية ، وهو نتاج للوسط الذي يعيش فيه من ناحية أخرى ، فالنظرية الفردية ترى أن البطل هو أهم عامل في التاريخ وأنه من أكثر العوامل المؤثرة في التاريخ استقلالا وأشدها استعلاء على مقتضيات الظروف ، وأنه نقطة الإبتداء ومركز الإنتهاء .

والفرد سواء كانت عظمته من النوع الذي يضيء الكوكب ويُقبل كالنسمة المتألقة مثل العلماء والفلاسفة ورجال الفنون، أو كانت من النوع الرهيب الذي يهب كالعاصفة المروعة أو الزوبعة القاصفة مثل جنكيز خان وتيمورلنك وأمثالهم من الجبابرة والمستبدين .

إن ما تزهو به الدنيا من الأمجاد وباسق الآثار وجلائل الأعمال إنما تمت على يد الفرد وفي ظل رعايته فهو الذي يبتدع سير التاريخ ويحدد مجراه وهو المتحكم في الماضي ويضع له المقاييس ويمنحه القيم وفي يده مقاليد المستقبل وتعيين إتجاهاته .

يذكر كبير الكتاب البريطانيين في النصف الأول في القرن التاسع عشر في كتابه ذائع الصيت "الأبطال وعبادة البطولة " أن التاريخ هو في جوهره يحكي سير عظماء الرجال ولا سبيل الى نكران تأثير بعض الشخصيات الكبيرة في سير التاريخ مثل يوليوس قيصر ونابليون وبسمارك ولوثر ، إضافة الى أن كل حركات التجديد والنهضة عبر التاريخ بدأها أفراد مميزون .

وفي المقابل لقد كان هؤلاء الأبطال أنفسهم ثمرة عصورهم والوسط الإجتماعي الذي أثر في نمو أفكارهم وتطور عقولهم وأن المثل العليا التي عملوا على تحقيقها والمباديء التي انتصروا لها ترجع الى الأجيال التي سبقتهم ، ولقد أئر نابليون وبسمارك في حياة عصرهما أبلغ تأثير ، فنابليون أقام أمبراطوريته على أنقاض الثورة الفرنسية وبقايا العهد القديم ، ثم استغل ولع الفرنسيين بالمجد والبطولة والعظمة .

وبسمارك عرف كيف يحقق ما كان يطمح اليه الشعب الألماني ...وفي العصر الحديث الذي ساعد على ظهور هتلر ما لحق بالألمان من الغبن في معاهدة فرساي وشعورهم بإهدار الكرامة وجرح العزة القومية كما مهد السبيل لموسوليني الخوف الذي خالج الطبقات الإجتماعية في إيطاليا من إنتشار الإشتراكية المتطرفة وسريان عدواها .

أما المخترعون الذين يظهرون أثر العبقرية الفردية وسمو شأنها في الإبتكارات ، حيث فكرة الإختراع تنزل عليهم كالوحي المفاجيء رغم أن الكثير من الإختراعات الصناعية كانت نتيجة متوالية وتكميلات متعاقبة للعمل الاجتماعي فالفرد يصير الى قوة في التاريخ إذا تعاون في العمل أفراد لهم نفس إتجاهاته المنشودة ولا بد له من أن يضحي بمثله الأعلى الفردي من أجل المثل الأعلى الإجتماعي .

أما تاريخ العلوم فيظهر أثر الفرد في ابتكارالنظريات وطرافة المبادرة لأنه مهما يعمل فريق المجتمع بالعلوم فإن كشف القوانين واستجلاء الغوامض سيظل مرتهنا بظهور الأفذاذ ، وكل تقدم في العلوم والآداب والسياسة والفن والدين كان للشخصيات البارزة أثر ظاهر في إحداثه ، فليس المجتمع هو الذي يبتكر اللغة ويزيد ثروتها وإنما للمجهود الفردي دور كبير في توسيع دائرتها وتجديد حياتها .

إن كل ابتكار يبدأه شخص معين ثم يحتذيه غيره من الناس والنوابغ وهو في ذلك أشبه بالرواد يسيرون في طليعة الإنسانية ويمهدون لها الطريق ويزيلون ما فيه من عقبات وموانع وينصبون الأعلام والرايات ويمر بعدهم ما يكمل مسيرتهم .

من جهة أخرى هناك من يحاول الدمج بين النظريتين ، النظرية الذاتية التي تنتصر للبطل الفرد والنظرية التي تؤيد دور المجتمع والوسط الذي يعيش فيه الفرد ، والحقيقة أن التاريخ مزيج غريب من الجبرية الحاسمة والمصادفة العجيبة ومن شأن الأخيرة أن تلطف من حدة الجبرية فالعلاقة بين الثقافة والعقل الفردي تبدو لأول وهلة علاقة متناقضة المظهر .

لأن الثقافة من ناحية تنبعث من العقل الفردي ومن ناحية أخرى تصوغ العقل الفردي على أنماطها وترغمه على العمل في دائرتها فهو يتلقاها ويضيف إليها ولا يمكن إنكار قيمة العظماء إذ بدون أفكارهم الثاقبة وأخيلتهم المجنحة يصبح تقدم الدنيا عرض للشك ، لكن لابد من تقدير أهميتهم من النظر الى الوسط الاجتماعي الذي ظهروا فيه .

لقد دافع أرسطو عن العبودية وهو من كبار مفكري العصور القديمة لأنها كانت جزأ من النظام الإجتماعي في عصره ولا يمكن أن نتصور ظهور مثل ليوناردو دوفينشي ولوثر وميكيافيلي في غير عصر إحياء العلوم ، وأكثر التأثيرات المعزوة الى العظماء كانت الى حد كبير نتيجة قوى كانوا هم آلة في تحقيقها وقد شيد يوليوس قيصر الدولة الرومانية ولكنها كانت في طريق التحقيق قبل ظهوره .

وقد شايع هذا الواقع من بعض الوجوه تولستوي فإن روايته العظيمة الحرب والسلام تعطينا صورة واضحة أخاذة كيف أن الفرد مهما ترتفع مكانته ويعظم نفوذه فإنه جزء من واقع المجتمع الذي يعيش فيه ... والعظيم لا يؤثر في المجتمع إلا إذا كان المجتمع مستعد لقبول تأثيره وأهم ميزاته أنه تتركز فيه نزعات عصره وتلتقي فيه مختلف تياراته فهو ممثل لعصره أكثر مما هو خالق له

عبد الهادي محيسن / كاتب وباحث