بيروت | Clouds 28.7 c

بين التَّوكل والتَّواكل / بقلم الشيخ أسامة السيد

 

بين التَّوكل والتَّواكل / بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 19 آب 2022

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

 

 

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{ومَنْ يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزُقْهُمن حيث لا يحتسب ومن يتوكَّل على الله فهو حسبُه} سورة الطلاق.

 

استُفيد من الآية أن من اتقى الله تعالى أي أدى الواجبات واجتنب المحرَّمات جعل الله له من كل همٍ فرجًا ومن كل ضيقٍ مخرجًا ورزقه من حيث لا يرجو ولا يأمل ومن فوَّض أمره إلى الله كفاه الله ما أهمَّه وأغمَّه وأقلقه.

 

 

وقال تعالى أيضًا:

 

{هو الذي جعَل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكُلوا من رزقه وإليه النشور} سورة الملك.

 

فقد جعل الله تعالى الأرض ذلولًا أي سهلةً لما يريد الناس منها من عيشٍ وزرعٍ وغرسٍ وأشجارٍ وسهَّل السلوك فيها وابتغاء الرزق مما خلقه فيها من منافع وإليه تُبعثون فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم فالعاقل من اتقى الله في أموره كلها ومنها طلب الرزق إن احتاج السعي في ذلك فأخذ ما حلَّ وترك ما حرُم.

 

 

إن التوكل على الله تعالى أي الاعتماد عليه هو من واجبات القلب فإنه لا خالق لشىءٍ من المنافع والمضارِّ إلا الله فإذا اعتقد العبد ذلك ووطَّن قلبه عليه كان اعتماده على الله في أمور الرزق والسلامة من المضارِّ وكشف ما ينزل به من مصائب وبلايا، فجملة التوكل على رب العالمين تفويض الأمر إلى الخالق عزَّ وجلَّ والثقة به مع مباشرة الأسباب المطلوب من العبد أن يأتيها، وذلك أن التوكل على الله لا يعني أن ينقطع العبد عن طلب أسباب المعيشة والسعي في أسباب السلامة مما يدهمه أو يتوقع أن يصيبه من النوائب فإن الله تعالى يقول:

{وخُذوا حِذركم} سورة النساء، معناه استعدوا بأنواع الاستعداد وهذا شامل للحذر من العدو بالاستعداد بما يُناسب وغيره.

 

وقد أمر نبي الله يوسف عليه السلام أهل مصر بالاستعداد لأيام القحط قال تعالى مخبرًا عن نبيه يوسف عليه السلام أنه قال :{فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلًا مما تأكلون} سورة يوسف،وذلك لحفظه لأن القمح إذا أُخرج من سنبله كان الفساد إليه أسرع.

 

التوكُّل والسعي

 

فليس لإنسانٍ أن يقعد في بيته ويتقاعس عن طلب النفقة الواجبة عليه لزوجته وأولاده الصغار الذين هم دون البلوغ أو أبويه الفقيرين بدعوى التوكل على الله.فعن وهب بن جابرٍ قال: شهدت عبد الله بن عمروٍ في بيت المقدس وأتاه مولًى له فقال: إني أريد أن أُقيم هذا الشهر ههنا. يعني رمضان. فقال له عبد الله: هل تركت لأهلك ما يَقوتُهُم. قال: لا. قال: إِمَّا لا فارجع فدع لهم ما يقُوتُهم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع من يقُوت" رواه البيهقي. وقوله: "يضيع من يقوت" يضيع من تلزمه نفقته من زوجةٍ وأطفالٍ ووالدين فقيرين مثلًا فلا يكفيهم ما جعله الله لهم من حقٍ عليه. وقوله: "كفى بالمرء إثمًا" معناه كفى المرء في عظم الإثم إثم تضييع من يقوت فلو لم يكن له إلا هذا الذنب لكفاه لاستحقاق العذاب الأليم في الآخرة. وكم نرى اليوم من أناسٍ يتقاعسون عن طلب المعاش ويُهملون الاشتغال بتحصيل النفقة الواجبة ويقول لك أحدهم إذا ما كلَّمته: الرزَّاق موجود وأنا متوكلٌ على الله تعالى. ويترك لزوجته أو لأولاده الصغار الاعتناء بتحصيل النفقة ولو من طريق محرَّمٍ بينما ينفق هو على نفسه من خلال ما يجنونه وكأنه ملكٌ وهم تحت يده خدمٌ ولأمثال هؤلاء نقول: لو مرضت مرضًا شديدًا أتترك التداوي وتقول لمن دعاك للتطبب: أنا لن أتداوى لأني متوكلٌ على الله فإن شاء شفاني وإن شاء بقيت في المرض أم تسعى في العمل بأسباب الشفاء؟

 

فإن كنت تعمل في مثل ذلك بأسباب السلامة فلِمَ تتوانى في العمل بأسباب نيل الرزق حتى لا يضيع من أنت راعٍ له فقد روى الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلب الحلال فريضةٌ بعد الفريضة".

 

ومعنى الحديث أن الابتعاد عن الحرام في أسباب المعيشة واجبٌ فمن كان لا يجد وسيلةً لتحصيل النفقة الواجبة عليه تجاه من يلزمه أن يُنفق عليهم إلا أن يسعى فيعمل وجب عليه ذلك بخلاف من كان ثريًا من طريق ميراثٍ مثلًا وكان يكفي عياله ما يحتاجون من غير أن يعمل فلا نقول يجب عليه السعي في طلب المعاش. وقد كان نبي الله إدريس خيَّاطًا وكان نبي الله داود حدَّادًا ونبي الله زكريا نجَّارًا واشتغل نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام بالتجارة، ورُؤي أبو بكرٍ الصديق يبيع ويشتري في السوق يتكسَّب لعياله وهو يومئذٍ خليفة، وتطول الأمثلة لو استرسلنا في عرض أحوال الأكابر وسُبل طلبهم للمعاش مع شدة توكُّلهم على الله تعالى. وقد جاء في "تاريخ دمشق" لابن عساكر في أثناء ذكر كلام جرى بين إبراهيم بن أدهم وشقيق البَلخِي وكلاهما من أكابر الصوفية الصَّالحين قال شقيق:

 

سرتُ في بعضِ الفَلَوات فرأيت طيرًا مكسور الجناحين في فلاةٍ من الأرض فقلت: أنظرُ من أين يُرزق؟ فإذا بطيرٍ قد أقبل في مِنقاره جَرَادة فوضعها في منقار الطير المكسور الجناحين فقلت في نفسي:

 

يا نفس إن الذي قيض هذا الطائر الصحيح لهذا الطائر المكسور الجناحين في فلاةٍ من الأرض هو قادرٌ أن يرزُقني حيث ما كنتُ فتركتُ التكسُّب واشتغلتُ بالعبادة. فقال إبراهيم: يا شقيق ولم لا تكون مثل الطير الصحيح الذي أطعم العليل أما سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اليد العُليا (المنفقة) خيرٌ من اليد السُفلى (واليد السفلى هي الآخذة) ومن علامة المؤمن (الكامل المجتهد في الخير) أن يطلب أعلى الدرجتين في أموره كلها حتى يبلغ منازل الأبرار. فأخذ شقيق يدَ إبراهيم وقبَّلها وقال له: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق".

 

وتأمل ما رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أنكم كنتم توكَّلون على الله حق توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِماصًا (ضامرة البطون من الجوع) وتروح (ترجع) بِطانًا (شبعى) فلم يجعل الغدو لطلب الرزق منافيًا للتوكل.

والحمد لله أولًا وآخرًا.