الرفق بالحيوان/ بقلم الشيخ أسامة السيد
الرفق بالحيوان/ بقلم الشيخ أسامة السيد
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى: ((حتى إذا أَتوا على وادي النمل قالت نملةٌ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكًا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدي وأن أعمل صالحًا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين)) سورة النمل.
لقد دعا الإسلام إلى الرفق في كل شيء وتجلّى ذلك في نصوص كثيرة منها ما جاء عن أم المؤمنين عائشة الصدِّيقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم. وفي حديثٍ آخر رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) عن عبد الله بن مُغفَّل عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله رفيقٌ يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العُنف))، ومعنى ((إن الله رفيقٌ)) أي حليمٌ كما قاله ابن فورك في ((مُشكل الحديث)).
وقد دلَّ ما ورد في فضل الرفق والحث على التخلُّق به وترك العنف على سماحة الإسلام وعظمته، فإن الرفق من أسباب الخير. وقوله عليه الصلاة والسلام ((يعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف)) أي يُثيبُ عليه ما لا يُثيب على غيره، وقيل: ((معناه يتأتّى بالرفق من الأغراض ويسهل به من المطالب ما لا يتأتّى بغيره)). كما بيّنه النووي في ((شرحه على صحيح مسلم)).
تعريف الرفق
والرفق ضدُّ العنف والشدة ويُراد به اليُسر في الأمور والسهولة في التوصل إليها، وأصل الرفق في اللغة ((النفع)) ومنه قولهم أرفق فلانٌ فلانًا إذا مكَّنه مما ينتفع به، قال ابن منظور في ((لسان العرب)): ((والعرب تقول: الرفق بُنيُّ الحلم أي مثله)). ومن أدل ما يدلُ على أهمية الرفق ما جاء في تأويل قول الله تعالى في سورة الأعراف: ((إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام)) الآية، ففي ((لباب التأويل)) للخازن قال: ((وقال سعيد بن جبير: كان الله عزَّ وجل قادرًا على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة فخلقهن في ستة أيام تعليمًا لخلقه التثبت والتأني في الأمور)) وفيه أيضًا أن ((مقدار اليوم الواحد من تلك الأيام ألف سنة مما نعدُّ)).
وإذا ما علم هذا فعلى المرء أن يكون رفيقًا متأنيًا في أمره كله حتى مع البهائم، وهذا ما نريد أن نتكلم فيه لإظهار ما أوصى به الإسلام من الرفق بالحيوان، فإن مما أرشد إليه ديننا الحنيف ورغَّب فيه وحضَّ عليه الرفق بالحيوان، فحرَّم أذية الحيوان سواء بحبسه أم تجويعه أم غير ذلك.
من عَظَمة الإسلام
فينبغي على المسلم إذًا أن يُراعي الحيوان الذي يملكه في أمور منها: أن يتعهده في المطعم والمشرب فلا يجيعه ولا يُتعبه ولا يُحمِّله ما لا يطيق ولا يُعذِّبه، وبالنظر فيما جاء من الآية أعلاه في سورة النمل نرى سماحة الإسلام ومدى الرأفة التي دلَّ عليها هذا الدين العظيم، ومعنى قوله تعالى ((قالت نملة)) أي صاحت بصوت وألهم الله تلك النملة معرفة سليمان عليه السلام معجزةً له كما في ((زاد المسير)) لابن الجوزي وفي ((تفسير القرطبي)): ((إن سليمان عليه السلام مرَّ ببعض أودية الشام وقيل الطائف فنادت النملة ((يا أيها النمل)) فسمعها سليمان عليه السلام من ثلاثة أميال)) وفي قوله تعالى إخبارًا عنها ((لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)) إشارةٌ إلى عدل سليمان عليه السلام وفضله وفضل جنوده وشفقتهم حيث لا يحطمون نملة فما فوقها إلا أن لا يشعروا)).
فتأمل وفقك الله بفضله كيف تحفَّظ نبي الله سليمان عليه السلام وجنوده من أذية النمل وهي حشرات صغيرةٌ، وانظر إلى عظمة الإسلام وأين كل الهيئات والجمعيات التي تُنادي بالرفق بالحيوان اليوم من هذا الرُّقي وهذه الحضارة التي كان عليها المسلمون منذ آلاف السنين، ولينظر القارئ ليرى ما يدل على الدعوة إلى الرفق بالحيوان زيادةً على ما مر فقد روى مسلمٌ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سافرتم في الخَصْبِ فأعطوا الإبل حَظَّها من الأرض وإذا سافرتم في السَّنة (القحط) فأسرعوا عليها السير وإذا عرَّستم فاجتنبوا الطريق فإنها مأوى الهوامِّ بالليل)).
والمعنى الأمر بمراعاة مصلحة الدواب فإن سافروا في الخصب قلّلوا السير وتركوها ترعى في بعض النهار وترعى في أثناء السير فتأخذ حظها من الأرض بما تأكله منها، وإن سافروا في القحط عجَّلوا السير ليصلوا المقصد وفيها بقية من قوتها ولا يقللوا السير فتطول مدة السفر في القحط فيلحقها الضرر لأنها لا تجد ما ترعى فتضعف، والتعريس هو النزول آخر الليل. وفي الحديث أدبٌ من آداب السير والنزول أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الحشرات ودوابِّ الأرض من ذوات السُموم والسباع تمشي في الليل على الطرق لسهولتها فإذا عرَّس الإنسان بالإبل على الطريق ربما مرَّ به ما يؤذيه ويؤذي دابته المسافر عليها فيلحقه ويلحق دابته من ذلك الضرر.
إذًا فقد علّمنا نبينا الأكرم عليه الصلاة والسلام أن نرْفُقَ بالحيوان فذكَّرنا في حديثه الشريف أن الدابة تحملنا وتحمل أثقالنا وهي تحتاج أن تمرَّ بأرض مخصبة تنهش منها أو ترتع فيها فتقوى على أمرها وتُخفف العناء عن نفسها، فلا تصنعوا معها صنع الحَانِق الناقم أو الغافل الذي لا يهتم سوى لنفسه بالزاد والراحلة ولا يشعر بأن لراحلته روحاً مثله وأنها تظمأ وتجوع وتَجْهَد مثله.
فما أروع هذا التوجيه النبوي العظيم فقد كان عليه الصلاة والسلام رحيمًا عطوفًا حتى بالبهائم وقد حثنا على ذلك بحاله ومَقاله، فعن عائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصغِي (يُميلُ) الإناء للهرة لتشرب)) رواه أبو نُعيم في ((الحلية)). وعن ابن مسعودٍ قال: ((كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ ومررنا بشجرةٍ فيها فَرْخَا حُمَّرَةٍ فأخذناهما، قال: فجاءت الحُمّرَة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تصيح فقال النبي صلى الله عليه وسلم من فَجَع هذه بفرخيها. قال: فقلنا نحن. قال: فرُدُّوهما)) رواه الحاكم. والحُمَّرة طائر صغيرٌ كالعصفور كما في ((لسان العرب)) لابن منظور.
وعن عبد الله بن جعفر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا (بستانا) لرجل من الأنصار فإذا جَمَلٌ فلما رأى (أي الجمل) النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذِفراه (مؤخر رأسه) فسكت فقال: من ربُّ (صاحب) هذا الجمل لمن هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إيَّاها فإنه شكا إليَّ أنك تُجيعُه وتُدئبُهُ (تُتعبُه))) رواه أبو داود.
وهذا لا شك من معجزاته الباهرة ودلائل نبوته الساطعة صلوات الله وسلامه عليه فقد ألهم الله هذا الجَمَل فشكا لسيد السادات فسبحان من قال فيه: ((وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين)) سورة الأنبياء.
حُكم تعذيب الحيوان
لقد حرَّم الله تعالى تعذيب الحيوان والمثْلةَ به بتقطيع أجزائه وهو حيٌ أو إحراقه إلا إذا آذى ولم يكن من طريق لصرف أذاه عنا إلا التحريق، ومن جملة تعذيب الحيوان أن يُحبس فيُمنع عنه الطعام والشراب. عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت امرأةٌ النار في هرةٍ رَبَطتهَا فلم تُطعمها ولم تدعها تأكل من خَشَاش الأرض)) رواه البخاري. ((وخَشَاش الأرض)) يعني هوامّ الأرض وحشراتها. ويحرم أيضًا ضرب البهيمة على وجهها أو وسمُهَا في وجهها أي جعلُ علامة فيه بالكي بالنار، فعن جابرٍ ((أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بحمارٍ قد وُسِمَ في وجهه فقال: لعن الله من وَسَم هذا)) رواه مسلم.
ومن وجوه تعذيب الحيوان المنهي عنها كذلك اتخاذ الحيوان غَرَضًا أي هدفًا بأن يُنصب للرماية مثلاً كما يفعل ذلك بعض الشباب للهو، ففي الحديث ((أن عبد الله بن عمر مرَّ بفتيان يرمون طيرًا وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم فلما رأوا ابن عمر تفرَّقوا فقال ابن عمر من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غَرضا)) رواه مسلم، أي اتخذه هدفاً لتعذيبه.
ويماثل ذلك في الحرمة صعق الحيوان كالبقر قبل ذبحه بالكهرباء بل قد بيَّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم أحكامًا مهمة لمراعاتها قبل تذكية الحيوان أي قبل ذبحه ما أجمل أن تُراعى عند من يتعاطى هذا الشأن وقد أوجز عليه الصلاة والسلام ذلك بقوله: ((إن الله كتَب الإحسانَ على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلةَ وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبحَة وليُحدّ أحدكم شفرته وليُرح ذبيحته)) رواه مسلم عن شدَّاد بن أوس.
وإذا ما عُلم هذا فليُصدع به في وجه كل حاقدٍ على الإسلام وكل مفترٍ يزعم أن الإسلام لا يعرف الرفق، وإذا كان هذا ما ينبغي أن نكون عليه من الرفق بالبهائم فكيف بالتعامل فيما بين الناس ولكن المصيبة ليست في الإسلام وحاشا بل المصيبة في أفكار الذين ما فهموا الإسلام ولا يريدون فهمه فنعوذ بالله من سوء الحال.
والحمد لله أولاً وآخراً.