بيروت | Clouds 28.7 c

القمار وآثاره المدمِّرة/ بقلم الشيخ أسامة السيد

 

القمار وآثاره المدمِّرة/ بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 10 اب 2023

 

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم} سورة النساء.

إن من الآفات التي انتشرت في مجتمعنا انتشارًا واسعًا حتى أصبح مجتمعنا يضج من آثارها أكل أموال الناس بالباطل، أي أكل أموال الغير ظلمًا وعدوانًا، ولذلك عدةُ طرقٍ منها الغصب والخيانة والاحتيال والغش في المعاملات، ومنها كذلك القِمار وقد تضمَّنت الآية المذكورة النهي عن أكل المال بأي طريقٍ من الطرق المحرَّمة. وقوله تعالى:{إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم} أي أن تكون تجارةً شريفةً بأمانةٍ بعيدةً عن كل ما هو حرامٌ، وليس يخفى عند العقلاء ما يتأتَّى من طريق القمار من مفاسد ومشاكل بين الناس،والقمار من العادات القبيحة التي تُورث العداوة والبغضاء بين الناس وإن أظهر المقامرون الرضا بألسنتهم فإنهم دائمًا بين غالبٍ ومغلوبٍ فإن سكت المغلوب منهم فإنما يسكت عادةً عن حقدٍ وعداوةٍ شديدين على من خيَّب أمله وأخذ ماله. والخسارة في القمار تدفع عادةً الخاسر إلى معاودة اللعب مرةً بعد مرةٍ ليستعيد ما فقده من مال وكذلك تدفع الغالبَ النشوةُ إلى التكرار ليكسب من المال أكثر فأكثر يزين له الشيطان ونفسه الأمَّارة بالسوء ذلك، وكم ترى من مقامرين مع ذلك يتشاغلون عمَّا افترضه الله عليهم فيُضيِّع أحدهم الصلاةالمفروضة لصرفه كل الوقت في القمار أو يُضيِّع  الزكاة لبخله عن الإنفاق وبذله المال في القمار أو يُضيِّع غير ذلك من الواجبات إضافةً إلى ما يُواكبهذا اللعب المشؤوم من محرَّماتٍ أخرى مما يُرافق مجالس القمار من مجونٍ وخلاعةٍ وفسقٍ فيغرق المرء في ظلماتٍ تلو ظلماتٍ فيعصي ربه ويُتلف ماله ثم لا يصبر على الحرمان فيمد يده إلى السرقة أو الغصب أو يتعاطى الخمر أو المخدرات ليسكر فينسى ما نزل به يرى أن ذلك يساعده على تخفيف الهموم،بل ربما وصل الأمر بالمقامر إلى حدِّ أن يقتل النفس التي حرَّم الله قتلهافيخسر نفسه. ولا يزال الشيطان يستدرج بعضهم حتى يهوي بهم في مكانٍ سحيق فإذا بأحدهم يخسر الدنيا والآخرة قال الله تعالى:{إنما يريد الشيطان أن يُوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصُدَّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} سورة المائدة. والميسر هو القمار والعاقل يربأ بنفسه أن يستدرجه الشيطان إلى مزالق الخسران فإن الله تعالى يحب من عبده المؤمن أن يبتعد عن الحرام وأن يكسب معيشته بالطرق المشروعة كالبيع والشراء والفلاحة والصناعة وغيرها من المهن والحرف المباحة فيحفظ نفسه من الوقوع في الإثم ويتخلَّص من حبائل الشيطان ويكسب المال بالسُبل المباحة مع التوكل على الله تعالى في مباشرة الأعمال الدنيوية وتعاطي أسباب تحصيل الرزق.

شؤم القِمَار

أما القمار فيُبغضه اللهُ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل وقد حرَّم الله ذلك وقد اتخذ القمار في البلاد صفاتٍ وألوانًا وأسماء متعددة بل هُيئت له النوادي وبُنيت له المراكز الخاصة به وأصبح له روَّادٌ من الأغنياء والفقراء، وكل ذلك من حملات الفساد التي دخلت على مجتمعنا وما زالت غريبةً عنه، ولكن يسعى البعض لنشرها بين أبنائنا ليستغلُّوا بها العقول ويستولوا على الأموال فدخل القمار بلادنا بجميع أنواعه فأصبحت أبوابه مفتوحة للفاسدين يلجونها بكل سهولةٍ وأضحت مزدحمةً بالطمَّاعين المتكاسلين واشتغل كثيرٌ من الناس بآفة القمار المدمِّرة وتعلَّقت قلوب كثيرٍ من الناس من رجالٍ ونساءٍ بل وأطفالٍبالربح الخيالي الذي ينتظرونه في كل لحظةٍ ونسوا أو تناسوا ما يتأتَّى جرَّاء ذلك من تفكك الأسر وهدم المجتمعات وتفرُّق الأهل والأحباب والأصحاب. وكم خربت بيوتٌ ووقع طلاقٌ وضاع أطفالٌ بسبب إدمان أبٍ على القمار فلحق تلك الأسرة الدمار وأضحى ذلك الأب الفاسد قابعًا في السجون؟ ونتيجة ذلك أن ينكسر ظهر الأب بالديون ويصبح الأولاد مشرَّدين في الشوارع. بل كم من نساءٍ خرجن للبغاء بسبب القمار وخساراته؟ وكم من أرواحٍ أزهقت ونفوسٍ قتلت وخاصةً فيما بين الشباب بسبب داء القمار العُضال؟

إن ذلك المقامر قليل الدين والشرف والأخلاق والضمير متجردٌ من القيم العالية والشمائل العظيمة لا هم له إلا جمع المال واحتواء المتاع ولو بالسُبل الملتوية والأساليب التي حرَّمها الله ورسُوله فتراه يلعب بأموال الناس وربما تجد بعضهم لا يتحرَّج عن تقديم زوجته أو بناته أو أخته لأجل المقامرة لكسب المال بعد المال بل ولا يتورَّع كذلك عن الكذب والسرقة للوصول إلى المال ليُقامر به،وكل هذا مُشاهدٌ ومعروفٌ في المقامرين ثم هم مع ذلك يشكون الفقر ويمدون يد الحاجة ويسألون الناس ويمنعون النفقة عن أولادهم ونسائهم ليبذلوها في القمار.

ولهؤلاء نقول: روى البيهقي وغيره عن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل جسدٍ نبت من سُحتٍ فالنار أولى به" والسُّحت الحرام. فمن كان ابتُلي بالقمار أو بغيره من الحرام فليتدارك نفسه بالتوبة إلى الله تعالى وليرد المال إلى أصحابه الحقيقيينخلافًا لبعض المغرورين الذين يبنون بمال القمار مسجدًا أو مدرسةً ويظنون أن هذا يكفي للتوبة وأنهم إن فعلوا ذلك طهُر المال وانقلب حلالًا وليس الأمر هكذا فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا" ومعنى "طيبٌ" منزهٌ عن صفات النقصان ومشابهة المخلوقين، وقوله "لا يقبل إلا طيبًا" أي لا يقبل من الأعمال إلا ما كان حسنًا موافقًا للشرع.

والحمد لله أولًا وآخرًا.