بيروت | Clouds 28.7 c

الإيمان أصل الواجبات / بقلم الشيخ أسامة السيد-الشراع 5 تموز 2024

 

الإيمان أصل الواجبات

بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 5 تموز 2024

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا} سورة النساء. والنقير ثقبٌ صغيرٌ في نواة التمر لا يكاد يُرى بالعين والمعنى: لا يُظلمون شيئا.
وعن أبي هريرة أن "النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أفضل. فقال: إيمانٌ بالله ورسوله". رواه البخاري.
وجاء في كتاب "الروض الأُنف" للحافظ السُهيلي أن عبد الله بن جُدعان كان في بدء أمره فاتكًا شريرًا ولا يزال يجني الجنايات فيغرم عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته ونفاه أبوه وحلف ألا يؤويه أبدًا لما أثقله من الغرامات والجنايات، فخرج ابن جُدعان في شعاب مكة (جمع شِعب وهو الطريق بين جبلين) حائرًا يتمنى الموت أن ينزل به فرأى شِقًا (غارًا) في جبلٍ فظن فيه حيةً فتعرَّض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فلم ير شيئًا فدخل فيه فإذا فيه ثعبانٌ عظيمٌ له عينان تَقِدَان كالسِّراجَين فوقع في نفسه أنه من صُنع بعضهم (ليس حقيقيًا) فأمسكه بيده فإذا هو مصنوعٌ من ذهبٍ وعيناه ياقوتتان فكسره وأخذ عينيه، وتقدم في الغار فإذا جُثثٌ على سُررٍ طوالٍ لم ير مثلهم طولًا وعِظمًا وعند رأس كل واحدٍ منهم لوحٌ من فضةٍ مكتوبٌ فيه تاريخهم وإذا هم رجالٌ من ملوك جُرْهُم (قبيلة عربية قديمة مشهورة) وإذا عليهم ثيابٌ لا يُمسُّ منها شىءٌ إلا انتثرَ كالهباء من طول الزمن، وعند رأس أحدهم لوحٌ مكتوبٌ فيه: أنا نفيلة بن عبد المدان بن خشرم بن عبد ياليل بن جُرهم بن قحطان بن هودٍ نبي الله عشت خمسمائة عام وقطعت غَور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك فلم يكن ذلك يُنجيني من الموت، وتحته مكتوبٌ شعرٌ جاء فيه:
قد قطعت البلاد في طلب الثروة                         والمجد قالص الأثواب
فأصاب الردى بنات فؤادي                                بسهامٍ من المنايا صِياب
ودَفَعت السَفاه بالحلم لما                                نزل الشيب في محل الشباب
صاح هل ريت أو سمعت براعٍ                      ردَّ في الضرع ما جرى في الحلاب

قلتُ:"والغَور القعر من كل شىءٍ وعمقه وبعده وما انخفض من الأرض، ولعله أراد قطعت مسافاتٍ بعيدةً في طلب الثروة. والقالص من الأثواب المشمَّر القصير، والردى الموت، وأراد بقوله: بنات الفؤاد أنحاء القلب، تقول العرب: بنات أَلببٍ وهي عروقٌ متصلةٌ بالقلب وبنات ألببه يعنون لُبَّه أي قلبه، والمنايا جمع منية وهو الموت، والسَّفاه السَّفه وهو ضد الحكمة، وصِياب جمع صائب، وصاحِ معناه: يا صاحبي، وهل ريت أصلها هل رأيت وخُففت للشعر، ومعنى الشطر الأخير: كما أن اللبن إذا خرج من الضرع لا يُرد أي لا يعود كذلك العمُر إذا انقضى لن يرجع".
ورأى أكوامًا عظيمةً من الذهب والفضة والياقوت واللؤلؤ والزبرجد فأخذ منه ما استطاع ثم علَّم شقَّ الغار بعلامةٍ وأغلق بابه بالحجارة وأرسل إلى أبيه بالمال يسترضيه ويستعطفه، ووصل بالمال عشيرته كلَّها فجعلوه سيِّدَهم وجعل يُنفق من ذلك المال ويطعم الناس ويبالغ في الكرم. روي أنه كان يجعل الطعام على الطريق على شىءٍ مرتفعٍ فيأكل منه المسافر وابن السبيل وهو على دابته وكان هذا حاله حتى مات وكان موته في أول بعثة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم لا يُدرى أبلغته الدعوة أم لا. وروى مسلمٌ عن أم المؤمنين عائشة قالت: يا رسول الله، ابن جُدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويُطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" والمعنى: أنه لم يكن مؤمنًا فلا ينفعه كل ذلك. فمن سمع بالدعوة أي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أو معنى الشهادتين بلغةٍ يفهمها وكان بالغًا عاقلًا صار مكلَّفًا يجب عليه أن يؤدي الواجبات ويجتنب المحرَّمات فإن مات ولم يؤمن هلك، أما من لم يسمع بدعوة أحدٍ من الأنبياء بالمرة ومات نجا في الآخرة لكنه وإن نجا فلا ثواب له على ما كان يعمله من نحو إغاثة ملهوفٍ وإطعام جائعٍ لانتفاء الإيمان أي لا يكون حاله وإن نجا كحال من آمن وعمل صالحًا.

    الإيمان الإيمان
فالإيمان بالله تعالى ورسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم هو أصل الواجبات الذي تصح معه الصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر أعمال البِر فهو شرطٌ لقَبول الأعمال الصَّالحة ولا يُقبل ولا يصح بدون الإيمان شىءٌ من ذلك ألبتة. ونقيض الإيمان هو الكفر وهو أي الكفر الذنب الوحيد الذي لا يغفره الله بالمرة لمن مات عليه ما لم يتدارك نفسه قبل الموت بالتبرؤ من الكفر بالشهادتين، قال تعالى:{إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء ومن يُشرك بالله فقد ضلَّ ضلالًا بعيدا} سورة النساء.
والإيمان لغةً التصديق وشرعًا تصديقٌ مخصوصٌ وهو التصديق بما جاء به النبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم وذلك أن تؤمن بالله أي تعتقد جازمًا بوجوده تعالى على ما يليق به وهو إثبات وجوده بلا كيفيةٍ ولا كميةٍ ولا مكانٍ وتَقرِن ذلك بالإيمان بسيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به عن الله تعالى. 
قال الشيخ أحمد الرفاعي الكبير:"غاية المعرفة بالله الإيقان بوجوده تعالى بلا كيفٍ ولا مكانٍ" والمعنى: أقصى ما يصل إليه العبد من المعرفة بالله الإيقان اي الاعتقاد الجازم الذي لا شك فيه بوجود الله تعالى بلا كيفٍ ولا  مكانٍ ولا جهةٍ.      
فالإيمان إذًا أعظم نعمة يؤتاها الإنسان في الدنيا، فقد روى البخاري في صحيحه عن البراء قال: "أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم رجلٌ مُقنَّعٌ بالحديد، فقال: يا رسول الله أُقاتل أو أُسلم؟ فقال: أَسلم ثم قاتل. فأَسلم ثم قاتل فقُتِل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل قليلًا وأُجر كثيرًا". فدّل الحديث على فضل الإيمان وعظمته فإنه لولا الإيمان لما استفاد هذا الرجل شيئًا. 
والحمد لله أولًا وآخرًا.