أنت ومالك لأبيك / بقلم الشيخ أسامة السيد
الشراع 12 كانون ثاني 2023
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{هل جزآء الإحسان إلا الإحسان} سورة الرحمن.
وجاء في "معجمي الطبراني الكبير والأوسط" وفي "دلائل النبوة" للبيهقي وفي "تفسير القرطبي" بألفاظٍ مختلفةٍ عن جابر بن عبد الله قال: "جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: فأتني بأبيك. فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عزَّ وجلَّ يُقرئك السلام ويقول لك: إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شىءٍ قاله في نفسه ما سمعته أذناه. فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك؟ أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على إحدى عمَّاته أو خالاته أو على نفسي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيه دعنا من هذا أخبرني عن شىءٍ قلته في نفسك ما سمعته أذناك. فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما زال الله عزَّ وجلَّ يزيدنا بك يقينًا لقد قلتُ في نفسي شيئًا ما سمعته أذناي. قال: قل وأنا أسمع، قال: قلت:
غذَوتُك مولودًا ومُنتُك يافعًا تَعِلُّ بما أجني عليك وتنهلُ
إذا ليلةٌ ضاقتك بالسُّقم لم أبت لسُقمك إلا ساهرًا أتململُ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طُرقت به دوني فعينيَ تَهْمُلُ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقتٌ مؤجَّلُ
فلمَّا بلغت السنَّ والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أُؤملُ
جعلتَ جزائي غِلظةً وفظاظةً كأنك أنت المنعمُ المتفضِّل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت َكما الجارُ المجاورُ يفعلُ
فأوليتني حق الجوار ولم تكن عليَّ بمالٍ دون مالك تبخلُ
فحينئذٍ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: أنت ومالك لأبيك".ومعناه إن كان الأب محتاجًا فله حقٌ في مال ولده لأن نفقة الوالد الفقير واجبة على الولد. قوله "غذوتك" فالغذاء الطعام والشراب واللبن. و"مُنتُك" أي عُلتُك أي أنفقت عليك. و"تَعلُّ" تشرب وأول الشرب النَّهَل ثم العِلَل فقوله تَعِلُّ تشرب المرة بعد المرة لكثرة اهتمامي بك، وقد يُستعمل العَللُ والنَّهَل في الرضاع، وتَعِلَّةُ الصبي ما يُعلَّل به من التمر وغيره ليسكت أيضًا. و"المطروق" المصاب.و"تَهْمُل" تسيل بالدمع. و"الردى" الموت. و"التلابيب" الثياب إذا جُمعت عند الصدر والنحر. والمعنى الإجمالي للحديث: أن الرجل شكا للنبي صلى الله عليه وسلم أن أباه الشيخ أخذ من ماله فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإحضار أبيه وكان أبوه الشيخ قد قال أي استحضر في نفسه أبياتًا من الشعر من غير أن يتلفَّظ بها بلسانه، فأوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وحين سأله صلى الله عليه وسلم عن الشعر كان ذلك من دلائل النبوة أي من علامات صدقه عليه الصلاة والسلام حيث إن الشيخ لم ينطق بذلك فلا بد أن إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليه كان بطريق الوحي. ولذلك قال الشيخ: ما زال الله عزَّ وجلَّ يزيدنا بك يقينًا. ثم أنشد شعره المتضمن العتاب الشديد لولده فذكَّره بما سبق منه من إحسانٍ له في صغره واغتمامه إذا طَرَقه مرضٌ فتبكي عينه حزنًا عليه كأن ما بولده من مرضٌ أصابه هو لا الولد، فلما بلغ الولد السن التي كان يأمل الأب فيها أن يكون عونًا له إذا به يخْلُف ظنه ويُقابله بالغِلظة والفظاظة كأنه هو من سبق وأنعم عليه، فيقول الأب: إن لم ترع حق أبوتيفعاملني كالجار الذي يحفظ حق الجوار فإن الجار له على جاره حقٌ. فأخذ حينئذٍ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب الولد وقال: "أنت ومالك لأبيك" ومعناه إن كان الأب محتاجًا فله حقٌ في مال ولده لأن نفقة الوالد الفقير واجبة على الولد. قال ابن رَسلانَ الشافعي في "شرح سنن أبي داود": "لم يُرد به حقيقة الملك وإنما أراد به المبالغة في وجوب حقِّه عليه وتأكُّده". قلتُ: ولأهل العلم كلامٌ فيما يجب على الولد تجاه والده وما يستحب يطول ذكره.
الأب الصَّالح
إن الأب الصَّالح نورٌ يُستضاء به، وكل عاقلٍ يعلم ماذا يعني الأب، إنه الأب الذي تعب لتأمين غذائك فإذا بك تنهل وتجني وتنعم بما يُغدق عليك من الخير، ربَّاك صغيرًا وآلمه ألمك ولعلَّه كثيرًا ما ذرفت عيناه حزنًا أو انصدع قلبه خوفًا عليك وأنت لا تدري، وربما جاع لتَطعم وعَطِش لتشرب ورقع ثوبه لتكتسي وصبر على مرضه لتشفى وهاجر وكابَد الغُربة ليجمع شملك. إنه الأب الذي طالما ضرب في الأرض لتحصيل النفقة الواجبة لك ولكل من يعُولهم وكم عرقت جباهُ آباءٍ لتخضرَّ السهول، وكم تقوَّست ظهورُ والدِينَ لتنمو الأشجار فجنى جناها الأبناء بكل سهولة. إنه الأب الذي يفرح لفرحك ويحزن لحزنك ويُحسن إليك من حيث تدري ولا تدري ويحمل همَّك وغمَّك، وتجد عنده القلب الحنون الذي يسعك والساعد القوي الذي يشدُ أزرك لتبلغ المعالي. إنه الأب الذي لم يضيعك صغيرًا وأنت أفقر ما يكون إليه وكان يرجو أن تقرَّ عينه بك كبيرًا فكن عند حُسن ظنه وإيَّاك أن تخذله وإذا ما كانت نوائب الزمان أوجعته فكن له بلسمًا لا عبئًا فوق الأعباء. إنه الأب الذي يأمل برَّك ويرجو نفعك إيَّاه بعد موته كما كان يطمع به في حياته فكن ذلك الولد الصَّالح فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنتفع به أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" رواه مسلم. ومعناه انقطع عمله التكليفي إلا من ثلاثة وليس المعنى أنالميت المؤمن لا ينتفع بالدعاء أو القرآن أو الصدقة. وتأمل مرةً بعد مرةٍ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئتَ فأضِعْ ذلك البابَ أو احفظه" رواه الترمذي عن أبي الدرداء. والمعنى أن بِرَّه مُؤدٍ إلى دخول الجنة من أوسط أبوابها فاحرص على ذلك فإن أضعتَ ذلك الباب وإيَّاك أن تضيِّعه فقد فوَّتَّ على نفسك خيرًا عظيمًا.
والحمد لله أولًا وآخرًا.