بيروت | Clouds 28.7 c

مفاهيم الأمانة الشرعية/ بقلم الشيخ أسامة السيد

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت بعلها ومسؤولةٌ عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤولٌ عن رعيته)) رواه البخاري.

لا شك أنَّ الأمانة من صفات الكمال التي ترفع صاحبها إلى مراتب الشرف وهي لفظٌ جامع للخير والبر، فليس معنى الأمانة محصورًا في حفظ الودائع للناس فحسب بل هي أعمُّ من ذلك. وجاء في ((تفسير الطبري)) عن سعيد بن جُبيرٍ قال: ((الأمانة الفرائض التي افترضها الله على العباد)).

وتتضمن الأمانة بمعناها الحقيقي سعةً بمفهومها ومضمونها، فالواجبات الدينية التي فرضها الله تعالى على العباد أمانةٌ يجب عليهم القيام بها على الوجه الشرعي، ولا شك أن أعظم تلك الواجبات الإيمان بالله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم تتفاوت الواجبات بعد ذلك في المفاضلة فبعض الأعمال الصالحة أفضل من بعض، ولكن حفظ الأمانة الشرعية يقتضي المحافظة على جميع ما أوجبه الله تعالى علينا من أعمال القلوب والجوارح. وهذا يعني أن تتعلم ما تحتاج إليه من علوم الدين لا سيما العقيدة والتوحيد لأنه لا تصح العبادة إلا بعد معرفة المعبود، فيجب اعتقاد أن الله الواحد الأحد لا يشبه شيئًا ولا يُشبهه شيءٌ فهو تعالى منزهٌ عن مشابهة المخلوقين، فلا يُقال متى كان ولا أين كان ولا كيف كان، فالحق أن الله كان ولا مكان، موجود بلا مكان، كوَّن الأكوان ودبَّر الزمان. قال الله تعالى: ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)) سورة الشورى. وفي كتاب ((دفعُ شُبَهِ من شبَّه وتمرد)) لتقي الدين الحُصْني أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ قال: ((التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه)).

كذلك معرفة ما يجب لأنبياء الله الكرام كالصدق والأمانة والفطانة والشجاعة وتبليغ ما أمرهم الله بتبليغه، وما يستحيل عليهم كالكذب والخيانة والرذالة والسَفاهة والجُبن والبلادة والأمراض المنفرة وكتمان ما أمرهم الله بتبليغه، وأن تعرف ما يجوز في حقهم كالأكل والشرب والنوم والزواج وغير ذلك من الأعراض التي لا تقتضي نقصًا وليست مما يُنفِّر الناس، وقد سبق وتكلمنا بخصوص ذلك في مقالاتٍ سابقةٍ فلينظرها من شاء.

 إن علم التوحيد أولى ما ينبغي أن يُقدَّم للناس فعن عبد الله بن جندبٍ قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيانٌ حزاورةٌ فتعلّمنا الإيمانَ قبل القرآن ثم تعلّمنا القرآنَ فازددنا به إيماناً)) رواه ابن ماجه. وقال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه ((النوادر)): ((أول ما يجب على العبد العلم بالله ورسوله ودينه)).

المستشار مؤتمن

إن من يراعي الأمانة الشرعية يعرف كيف يصلي وكيف يزكي وكيف يصوم وكيف يحج وكيف يتزوج ويطلق وكيف يبيع ويشتري، ويعرف ما يلزمه تُجاه أهله كزوجه وأولاده وأبويه، ويعرف العامل ما له وما عليه من حقوقٍ بالنسبة لمن استأمنه على عمله، وكذلك يعرف صاحب السلطة ما يلزمه، ويدرك كل مسؤولٍ حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، ويعرف المستشار ماذا ينبغي أن يقول لمن استنصحه. وهنا نقول إن هناك فرقاً بين الغيبة المحرمة وبين النصيحة الواجبة، فكم وكم من الناس يسكتون أو يوهمون غيرهم خلاف الصواب في المواطن التي ينبغي أن يصدُقَ أحدُهم فيها ويُخلصَ النصحَ لمن يكلمه، فترى أحدهم يسكت عن لصٍ مرتشٍ يعمل عند من استشاره. وفي كتاب ((الزهد)) للإمام أحمد عن الحسن البصري قال: ((إذا دخلت الرِّشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوَّة)) أي النافذة.

ومنهم من يسكت عن فاسقٍ شريرٍ لا يحفظ الدين ولا العِرض سُئل عن تزويجه فلا ينصح لمن استشاره أو يوهمه أنه كفؤ ليُزوّج، أو غير ذلك مما يقتضي النصيحة الحقة لمن استشاره فإذا به يخون صديقه بسبب جهله بحقائق الأمور الناشىء عن تركه طلب ما يحتاجه من علم الدين الضروري. وكل هذا على خلاف الأمانة التي أمر الشرع بحفظها. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المستشار مؤتمن)) رواه الترمذي.

بل قد وصل الأمر إلى حدِّ أن صرنا نرى بعض المعلمين يخون أحدهم طلابه فيلقي إليهم المناهج الفاسدة ويلقنهم خلاف الصواب، ويرى تقرير رأيه فقط ولو كان على خلاف القرآن والحديث. وقد استشرى الجهل جدًا حتى صار البعض لا يبالي بالخيانة بل ويدعو إليها من حيث يشعر أو لا يشعر، ولا يراعي الأمانات والحقوق وحرمات الناس، وأضحى الفسق والفجور سمة كثير من الناس، وصار التقي الأمين كالغريب في مجتمعٍ يموج بالفتن كموج البحر.

من أمانة الأنبياء

وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم معروفًا بالصدق والأمانة حتى قبل أن يُوحى إليه، فكان كفار قريشٍ يأتمنونه مع شركهم وكفرهم به ويعلمون أنه عليه الصلاة والسلام لا يخون. ومن أدلِّ ما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الإمام عليًا أن يبيت في فراشه ليلة الهجرة لأداء الأمانات التي كانت في بيته للناس ثم أداها عليٌ عليه السلام ولحق بعد ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وجاء في القرآن الكريم إخبارًا عن إحدى ابنتي نبي الله شعيبٍ عليه السلام أنها وصفت نبي الله موسى عليه السلام: ((قالت إحداهما يا أبت استئجره إن خير من استئجرت القوي الأمين)) سورة القصص. وجاء في التفاسير عن أمانته أنه قال لها: امشي خلفي وصفي لي الطريق أي أنه طلب منها أن تمشي خلفه حتى لا تسير أمامه فتصف الريح جسدها إذا هبت على ثيابها. وهذا في غاية الأمانة، فما أعظم أمانة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

والحمد لله أولاً وآخراً.        

  

الوسوم