بيروت | Clouds 28.7 c

عظمةُ شكرِ الله على نِعمه / بقلم الشيخ أسامة السيد

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((وقليلٌ من عبادي الشكور)) سورة سبأ.

وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجدون الناس كإبلٍ مائة لا يجد الرجل فيها راحلة)) رواه مسلم.

إن النَّاظر في أحوال الناس واختلاف البلاد وتنوع الأمم والشعوب يرى أن البشر ليسوا سواء، فللناس أهواءٌ شتى وآراء متباينة ومذاهب متفرقة، فهذا مؤمن وذاك كافر وهذا طائع وذاك فاسق وهذا بَرٌّ وذاك شرير، ومنهم من يُقبِّح الحَسَن ومنهم من يُحسِّن القبيح، وترى هذا مقتنعٌ بما هو عليه وذاك لا يرى سوى رأيه، ولكل قومٍ عاداتهم وتقاليدهم، وقليلٌ منهم من يشكر الله الذي تفضَّل عليه بالنعم الكثيرة حق الشكر، ولا يختلف اثنان أن الفساد مستشرٍ في الأرض لا يخلو منه صقعٌ، وأن الشر الحاصل في الدنيا أكثر من الخير وأن إبليس قد تمكّن من رقاب كثيرٍ من الغوغاء فعَدل بهم عن طريق الشكر لله، فهو يقودهم إلى مهاوي الهلاك ومستنقعات الخزي والوبال في زمنٍ عصيبٍ قلَّ فيه الأتقياء وندر القائمون بحقوق الله وحقوق الخلق الشاكرون لربهم، فإنه جديرٌ بالعبد أن يشكر ربه الذي وهبه نعمًا عظيمة، ولكن أكثر الناس للأسف ليسوا شاكرين بل لا يعرفون حقيقة الشكر وما هو الواجب عليهم من الشكر لربهم، ومصداق هذا في قوله تعالى في سورة يوسف: ((وما أكثر الناس ولو حَرَصت بمؤمنين)) وقوله في سورة غافر: ((إن الله لذو فضلٍ على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)).

الشكر شكران

 فحريٌ بمن وفّقه الله للحق وأنار قلبه بالهدى أن يكون شاكرًا لرب العالمين، وليُعلم أن الشكر شكران:

شكر فرضٌ وشكر مستحب، فالشكر الفرض هو عدم استعمال النعم التي منَّ الله بها عليك كالجوارح أي أعضاء الجسم والمال في معصية الله، وشكر الله تعالى على نعمة النطق أن لا تتكلم بما حرَّم الله، وشكر الله على نعمة السمع أن لا تسمع ما حرَّم الله، وشكر الله على نعمة البصر أن لا تنظر إلى ما حرَّم الله، وهكذا بالنسبة لسائر الجوارح، فلا تمش برجلك إلى الحرام ولا تستعمل يدك في معصية الله وتحفظ فؤادك من ذنوب القلب ولا تُدخل إلى بطنك ما حرَّم الله. وشكر الله على نعمة المال أن لا تنفقه في الحرام، وهذا يقتضي أن تتعلم معاصي الجوارح لتعرف ما الذي يحرم عليك اقترافه فتجتنبه، وأن تتعلم ما تحتاج إليه من أحكام المعاملات ليصح لك الكسبُ من طريق حلال، ولكن أكثر الناس لا يقومون بهذا الشكر.

وأما الشكر المستحب فهو الثناء باللسان الدال على أن الله هو المنعِمُ والمتفضّلُ على عباده من غير وجوبٍ عليه فإن الله لا يجب عليه شيءٌ، قال تعالى: ((وما بكم من نعمةٍ فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون)) سورة النحل. قال الحافظ ابن عساكر في ((عقيدته)) ((وكل نعمةٍ منه فضلٌ وكل نِقمةٍ منه عدل)).

ومن الناس من هو فاقدٌ للشكر فلا يتحقق له من الشكر شيءٌ بالمرة ومن هو مخلٌ بالشكر فلا يأتي به على وجهه الكامل، فمن القسم الأول: من يتكبر عن قبول الهدى فلا يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فيعتقد الكفر ويرفض التوحيد ويأتي الحرام ولا يرى فيه بأسًا فلا يوافق على تحريم ما حرَّم الله ولا يدين لله بالحق، وتراه جبارًا عنيدًا لا يرده عن غيه شيءٌ ولا يردعه عن ظلمه رادع، وهؤلاء ما تحقق لهم من شكر الله تعالى شيءٍ، لأنهم ضيعوا أصل الواجبات وأفضلها وهو الإيمان الذي جعله الله شرطًا لقبول الأعمال الصالحة، وحيث أهمل بعض الناس هذا الأصل كان عملهم بعد ذلك بلا طائلٍ ويصدق على هؤلاء قول الله تعالى: ((وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هبآءً منثورا)) سورة الفرقان.

وقد مدح الله تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام فقال في سورة النحل: ((إن إبراهيم كان أُمّةً قانتًا لله حنيفًا وما كان من المشركين شاكرًا لأنعُمه)). قال الطبري في ((تفسيره)): ((شاكرًا لأنعمه، كان يُخلص الشكر لله فيما أنعم عليه ولا يجعل معه في شكره في نِعمِه عليه شريكًا)).

ومن القسم الثاني: من تحقق الإيمان في نفسه بلا ريب ولكنه مع ذلك يقترف الذنوب مع اعتقاد حرمتها وشناعتها فلا يستحل ما حرَّم الله، أو يترك بعض الفرائض العملية كالصلاة وغيرها مع اعتقاد وجوبها والإعتراف بتقصيره، وفي هذا إخلالٌ بالشكر الواجب لله وتركٌ للقيام به على وجهه الكامل. وهذا الصنف من الناس تحت مشيئة الله وأمرهم في الآخرة إلى الله يعذب منهم من يشاء ويغفر لمن يشاء، ومآل المعذَّب منهم آخر الأمر الجنة لأننا لا نُكفّر بارتكاب الذنب مع استقرار الإيمان في القلب، قال الله تعالى: ((إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) سورة النساء. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرةٍ من إيمان)) رواه البخاري.

كن شاكرًا لله

 وإذا ما كانت المروءة تقتضي أن تقابل من أحسن إليك بالإحسان والشكر فإن الأولى أن تشكر ربك على ما أولاك من النعماء. ولذلك فعلى المرء أن يكون شاكرًا لربه في كل أحواله فلا يقصّر في أداء ما أوجبه الله عليه ولا في ترك ما نهى عنه، ولا يتشاغل بالنعم عن المنعِم العظيم فقد جاء في تفسير القرطبي أن الإمام الجنيد سُئل ما الشكر فقال: ((أن لا يُعصى الله بنعمه)).

فلا تكن ممن يأكل من رزق الله ويكفر بالله، ولا ممن يأكل من رزق الله ويُسخط عليه الله، بل كن حذرًا من أن يستدرجك الشيطان فيسلخك من رياض الشكر لله ويرميك في ذل الضلالة السحيق، فإن نعم الله عليك كثيرة فكن من الشاكرين وإياك أن تكون على خلاف ذلك.  

وإننا لو نظرنا إلى حال أغلب الناس حديثًا وقديمًا لوجدناهم على نقيض ما ينبغي، فمنهم من يحمله الثراء على اقتحام الحرام من غير مبالاةٍ، فإذا به يستعمل ما أنعم الله به عليه في معصية الله ويتمادى في ذلك حتى يُنسيه ما هو فيه الموتَ والآخرةَ والحساب، ومنهم من  يحمله الفقر أيضًا على اقتحام الموبقات لتحصيل متاعٍ من الدنيا قليل، ولو صبر لكان خيرًا له، وكم من نعمٍ يغفل جُلُّ الناس عنها كان الأجدر بهم أن يشكروا الله عليها ولكن النفس الأمارة بالسوء تقودهم إلى الظلمات، فإذا بأحدهم لا يرى ولا يسمع ولا ينتبه، وكأنه لم يسمع ولم يقرأ قول الله تعالى: ((وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون)) سورة الجاثية، وقوله أيضًا: ((وسخَّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخَّر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)) الآية سورة إبراهيم.   

وهنا نقول: ينبغي للمرء أن يُدرك كم من نعمٍ عظيمةٍ تكتنفه فينهض بالشكر لله تعالى فيؤدي الواجبات ويجتنب المحرمات ومن قام بهذا فهو عبدٌ شاكر، ثم إذا تمكن في ذلك بأن ثبت عليه وزاد في الخيرات فوق ما هو فرضٌ عليه سُمي عبدًا شكورا، والشكور أقل وجودًا من الشاكر الذي هو دونه، قال الله تعالى: ((وقليلٌ من عبادي الشكور)) سورة سبأ. فالأتقياء الأنقياء الذين لا يحملهم التشاغل بالنعم عن شكر المنعم نزْرٌ يسيرٌ بين المؤمنين، وقد مدح الله تعالى نبيه نوحًا عليه السلام فقال: ((ذرية من حملنا مع نوحٍ إنه كان عبدًا شكورا)) سورة الإسراء.

وقد كان من شكر نوحٍ عليه السلام أنه كان يحمَد الله تعالى في كل أحواله إذا أكل وإذا شرب وإذا لبس وإذا احتذى ((لبس حذاءً)) وإذا نام وإذا استيقظ. قال ابن جُزي في ((التسهيل)): ((أي كثير الشكر، كان يحمد الله على كل حال وهذا تعليل لما تقدم أي كونوا شاكرين كما كان أبوكم نوحٌ)).

فمن وفّقه اللهُ لتمام الشكر فقد أراد به خيرًا عظيماً، وشكر الله على نعمه هو أيضًا نعمةٌ من نعمه.

وعن أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكلَ الأكلةَ فيحمَدَه عليها أو يشربَ الشربةَ فيحمَدَه عليها)) رواه مسلم. فليجتهد العاقل في المبالغة في شكر الله ليكون من القلة الطائعين لله حق الطاعة.

قال الله تعالى في سورة البقرة: ((فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)) والمعنى اذكروا الله بالطاعة في الدنيا يذكركم بالمغفرة والرحمة في الآخرة، واشكروا له أي وجهوا العبادة له خاصةً ولا تكفروا أي لا تشركوا به بعبادة غيره، قاله الماتريدي في ((تأويلات أهل السنة)).

وفي حديث مسلم المذكور أعلاه ((تجدون الناس كإبلٍ مائة لا يجد الرجل فيها راحلة)) إشارة إلى أن أكثر الناس أهل نقصٍ، وأما أهل الفضل الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة فعددهم قليل جدًا فهم بمنزلة الراحلة في الإبل، والراحلة هي الجيدة التي تصلح للحمولة في السفر كما في ((الفتح)) لابن حجر ويؤيد هذا المعنى قولُ الله تعالى: ((ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) سورة يوسف.

وإنه لمما يشهد على عظيم فضل الشكر قوله تعالى: ((وإذْ تَأَذَّنَ ربُّكم لئن شكرتم لأزيدنكم)) الآية سورة إبراهيم. قال الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في ((زاد المسير)): ((أي لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي)).

والحمد لله أولاً وآخراًَ.            

 

الوسوم