بيروت | Clouds 28.7 c

حقيّةُ عقيدةِ تنزيهِ الله عن مشابهة المخلوقات / بقلم الشيخ أسامة السيد

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السَّوءِ ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم)) سورة النحل.

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيءٌ وأنت الآخر فليس بعدك شيءٌ وأنت الظاهر فليس فوقك شيءٌ وأنت الباطن فليس دونك شيءٌ)) رواه مسلم.

لقد قام الدليل العقلي والنقلي الصريح على تنزيه الله تعالى عن الحدِّ والجهة والمكان، وبهذا جاء كل الأنبياء عليهم السلام وإليه دعوا الناسَ، لا خلاف في ذلك بين نبيٍ وآخر، ومن نظر في الكتاب والسنة نظر مُنصفٍ وأَعمَلَ عقله السليم كما ينبغي قاده الدليلُ إلى اعتقاد تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات لا محالة، أما من احتكم إلى الوهم فبنى عقيدته على مقتضى ذلك قاده الوهم في هذه الحالة إلى الضلال والتشبيه والضياع والحَيرَة، وسيأتي تعريف الوهم للقارئ فيما يلي، ولا ينبغي للمرء أن يجعل الوهم قاعدةً يبني عليها عقيدته. وفي هذا المعنى أنشد بعضهم:

قل للمشبّهة الذين تجاوزوا                        حُججَ العقول بكل قولٍ منكر

يا ويحكم قستم صفاتِ مليكِكم                  بصفاتكم هذا قياس الأخسر

أيُقاس صانعُ صنعةٍ بصنِيعه                       أيُقاس كاتبُ أسطرٍ بالأسطر

ونحن نبين في هذا المقال إن شاء الله بعض الأدلة وهي غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر الدلائل على تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين وخطورة اعتقاد التجسيم بحق الله، فنقول وبالله التوفيق:

 

إثبات حقيّة التنـزيه

لقد دلت الآية والحديث أعلاه على تنزيه الله تعالى عن النقائص، فربنا عزّ وجل لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء وهو تعالى ليس جسمًا ولا يتصف بصفات الجسم، ومعنى((ولله المثلُ الأعلى)) وَصْفُ اللهِ بما يليق به وتنزيهُه عن مشابهة المخلوقين فلا شبيه له ولا مثيل جلّ وتعالى، وهذا المعنى ذكره القرطبي في تفسيره وغيرُه من المفسرين. وقال الحافظ البيهقي في كتابه ((الأسماء والصفات)): ((استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء))، وإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيءٌ لم يكن في مكان)). ففي هذا الحديث برهانٌ على حقيّة تنـزيه الله عن المكان والحد وفيه ردٌ على القائلين بالجهة في حقه تعالى ويُستفاد من ذلك أن الله ليس جسمًا.

قال الإمام أبو جعفر الطحاوي السلفي الحنفي ((ولِد سنة 229 هـ توفي سنة 321هـ)) في عقيدته المشهورة بالعقيدة الطحاوية التي صنفها منذ اكثر من ألف سنةٍ والتي ذكر في مقدمتها أنها عقيدة أهل السنة والجماعة وتلقتها الأمة بالقَبول في تنزيه الله عزَّ وجل: ((وتعالى (تنـزّه الله)) عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات)). ومعنى كلامه هذا أن الله ليس له حدٌ، والحد معناه نهاية الشيء، ولا يجوز عليه تعالى الحدود والمساحات والحجم، فنفي الحد عنه تعالى عبارةٌ عن نفي الجسم عنه، ومعنى الغايات النهايات فغاية الشيء نهايته، وفيه تأكيدٌ لنفي الحد والجسمية عن رب العالمين، ومعنى الأركان الجوانب أي الجانب الأيمن والأيسر، وهذا تأكيد آخر في نفي الجسمية عن الله، وأما الأعضاء فجمع عضوٍ كاليد والرجل وذلك من خصائص الأجسام، ومعنى الأدوات الأجزاء الصغيرة كاللسان. وأفاد قولُ الطحاوي ((لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات)) التنزيهَ الصريحَ عن المكان والجسمية، إذ المكان هو الفراغ الذي يشغله الحجم، والحجم ما يأخذ حيزًا من الفراغ. وحيث ثبت أن الله لا تحويه الجهات الست وهي: فوق وتحت ويمينٌ وشمالٌ وأمامٌ وخلف، دلَّ ذلك على أن الله لا يشغَل حيزًا من الفراغ إذًا فالله تعالى ليس حجمًا ولا تحويه الأنحاء كسائر المبتدعات أي المخلوقات، وهذا هو المعنى الحقيقي الذي يقتضيه كلام الشيخ الطحاوي وهو من أئمة السلف، وهذا يعني أن أئمة السلف وهم أهل القرون الثلاثة الأولى الذين مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) رواه الترمذي عن عمران بن الحصين كانوا على عقيدة التنـزيه، ولا عبرة بعد ذلك بكل تمويهات الوهابية ومحاولاتهم الحثيثة لتحريف معنى كلام الإمام الطحاوي.

ومن كان ذا لبٍ يكفيه أن يقف عند قول الله تعالى في سورة الشورى: ((ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير)) فهي أصرح آية في تنـزيه الله التنزيهَ الكليَّ لأنه لو كان متحيزًا في مكان لكان جسمًا ولكان له أمثالٌ وأبعاد من طولٍ وعرضٍ وسَمكٍ، ومن كان كذلك كان مُحدَثًا أي مخلوقاً محتاجًا لمن حدّه بهذا الطول وبهذا العرض وبهذا السَّمك، وعلى هذا انعقد إجماع أهل الحق ونقله الإمام أبو منصورٍ البغدادي في كتابه ((الفَرقُ بين الفِرَق)) فقال: ((وأجمعوا على أنه لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان)).

مقتضى العقل والنقل

فإن قيل: هذا شيءٌ لا يقبله العقل، قلنا: بل يقبله العقل ولكن الوهم لا يتصوره والعبرة بمقتضى العقل السليم لا الوهم، والوهم هو قياس ما لم يشاهده على ما شاهده بغير دليل، مثاله: لو نظر إنسانٌ من مكانٍ مرتفعٍ إلى الشمس عند الغروب فإن الوهم يحكم بأن السماء لاصقة بالبحر، ولكن العقل السليم يرد ذلك كما أن العقل السليم يحكم أيضًا بأن الليل والنهار مخلوقان ولكن الوهم لا يتصور وقتًا لا ظلام فيه ولا نور، وقد بيّن الله أنه خلق الظلام والنور قال تعالى: ((وجعل الظلمات والنور)) سورة الأنعام.

وحيث عُلم هذا فنقول: لا يختلف عاقلان أن العالم مخلوقٌ والعالم هو كل ما سوى الله فالمكان والجهات والأنحاء من ضمن العالم وكل ذلك مخلوق له بداية، وقد كان الله تعالى موجودًا قبل الأماكن والجهات والأنحاء كما دل على ذلك صريح العقل والنقل، لأنه لا يصح في العقل أن يكون لله بداية وإلا لكان مخلوقًا محتاجًا لمن أوجده، والاحتياجية دليل العجز ولا يكون العاجز إلهًا، قال تعالى: ((هو الأول)) سورة الحديد. وروى البخاري وغيره عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان الله ولم يكن شيءٌ غيره)) ومعناه أن الله تعالى لم يزل موجودًا في الأزل ليس معه غيره، وكما صح وجوده تعالى قبل خلق الأماكن والجهات بلا مكانٍ ولا جهة يصح وجوده بعد خلق المكان بلا مكان ولا جهة، ولا يكون هذا نفيًا لوجوده تعالى كما لم يكن نفياً لوجوده تعالى اعتقادُ وجوده سبحانه بلا مكانٍ ولا جهة قبل خلق الأماكن والجهات.

وإذا عُلم هذا نقول: العقل والنقل يدلان على تنـزيه الله ونحن مأمورون باستعمال العقل للوصول إلى النتيجة الصحيحة قال الله تعالى: ((وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)) سورة الملك. ففي الآية دليلٌ على أهمية استعمال العقل ليُهتدى به إلى الصواب. ويصح القول: إن الذي يشبّه اللهَ بخلقه فيصف الله المعبودَ بالجسمية لم يعبد اللهَ ولم يعرف اللهَ لأنه يعبد في الحقيقة شيئًا تخيله وتوهمه وظن له وجودًا وليس هذا من الحق في شيء. ولذلك قال سيدنا علي بن أبي طالب: ((من زعم أن إلهنا محدود فقد جَهل الخالق المعبود)) أي ما عرَف الله. رواه أبو نُعيمٍ في ((حلية الأولياء)).

بين المجسّم وعابد الشمس

ثم إن من أقوى ما يهدم عقيدة التجسيم أن المجسم لا يستطيع أن يُقيم الحجة العقلية على بطلان عبادة الشمس، فإننا لو فرَضنَا مناظرةً بين عابد الشمس والمجسم فلو طالب عابدُ الشمس المجسّمَ بدليل على عدم استحقاق الشمس الألوهية فإن غاية ما يقوله المجسم: قال الله تعالى كذا. فيقول عابد الشمس: أنا لا أؤمن بكتابكم أعطني دليلاً عقليًا على عدم استحقاق الشمس الألوهية فينقطع المجسم ولن يجد جواباً، ولربما قال له عابد الشمس: أنت تعبد جسمًا تزعم أنه فوق العرش وأنا أعبد جسمًا مُشاهَدًا نفعُهُ ظاهرٌ فما الفرق بين ما أنا عليه وبين ما تدعوني إليه وما الذي يدلُّ على بطلان مذهبي وصحة مذهبك من حيث النظر بحكم العقل؟ وغاية ما سيقوله المجسّمُ أن يذكر آية من القرآن مما يتوهم منه المجسّمُ تحيزَ الله في جهة، فيقول عابد الشمس له: أنا لا أؤمن بكتابك. فإذا كان المجسّم خاليًا من الحجة العقلية فكيف سيدعو الملاحدةَ وغيرَهم من المخالفين ومن لا يُقرُّون بالقرآن لعقائد الإيمان؟

وحيث أهمل المجسّم العقلَ فماذا يقول في قوله تعالى: ((وما يذَّكر إلا أولوا الألباب)) سورة البقرة، وقوله: ((أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها)) سورة الحج، وقوله: ((وقالوا لو كنَّا نسمع أو نعقلُ ما كنَّا في أصحاب السعي)) سورة الملك، وآياتٍ أخرى كثيرة، بل لو كان التجسيم حقًا لاعترض كفار قريشٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقالوا له: إنما تدعونا إلى مثل ما نحن عليه تدعو إلى عبادة جسم والأصنام جسمٌ فما الفرق بيننا وبينك؟ وحيث دلَّ العقل على بُطلان اعتقاد الجسمية في حق الله تعالى فنقول: ((الجسم ما له طولٌ وعَرضٌ وسَمْكٌ)) وما كان كذلك كان مُحتاجًا لمن جعله على هذا الحدِّ والمِقدار، والمحتاج عاجزٌ والعاجز لا يكون إلهًا، ولا يصح أن يحُدَّ الشيء نفسَه لأن معنى ذلك أنه خَلق نفسه، ومُحالٌ أن يخلق الشيء نفسه.

وبذلك تظهر حقيّة التنزيه وبطلان التجسيم، وحيث إن أكثر المجسمة اليوم ينتسبون زورًا إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل فيُناسب أن نختم بكلام للإمام أحمد يدحض فرية التجسيم ليكون القارئ على بينة من الأمر.

قال الإمام أبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز البغدادي مُقدَّم الحنابلة ببغداد في كتابه ((اعتقاد الإمام أحمد)): ((وأنكر أحمد على من يقول بالجسم ((أي في حق الله)) وقال ((أي الإمام أحمد)) إن الأسماء مأخوذةٌ من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الإسم ((أي نقلوا إلينا أن هذا الاسم موضوعٌ أي مُستعملٌ لكذا)) لذي طولٍ وعرضٍ وسَمكٍ وتركيبٍ وصورةٍ وتأليف، والله تعالى خارجٌ عن ذلك كله ((أي لا يوصف بكل ذلك)) فلم يجز أن يُسمى جسمًا لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل)). فاتضح بذلك أنه لا يصح في اللغة أن يُسمى الله تعالى جسمًا ولم يرد إطلاق ذلك في الشرع على ربنا تعالى فَبَطل ذلك.

والحمد لله أولاً وآخراً.

الوسوم