بيروت | Clouds 28.7 c

صلاح الدين الأيوبي السلطان العادل محرّر القدس / بقلم: الشيخ أسامة السيد

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

 قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا)) سورة الأحزاب.

ليعلم أن الله تعالى أرسل نبيه الكريم محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فجاء هاديًا ومبشرًا ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجًا منيراً، فهدى الله به الأمة وكشف الغُمَّة وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وجعل الله تعالى في اتّباعه صلى الله عليه وسلم الفلاح، وجعل شرعَه الشريف سهلاً بعيدًا عن التعقيد والغلو والتطرف، وجاء النبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم بعقيدة عظيمة وأحكام راسخة التزم بها أصحابه الكرام ومن جاء بعدهم من السلف الصالح فدانت لهم الأرض، وحملوا للدنيا مشاعل النور التي تضيء العقول والقلوب، ولكن أبى بعض الناس قديمًا وحديثًا أن يفتحوا قلوبهم للحق فقادهم الشيطان إلى مزالق الخسران المبين، فشذوا وضلّوا وفسدوا وأفسدوا، وكان من أخطر ما ابتلي به هؤلاء الرَّعاع تكفيرهم المسلمين بغير حق حيث زيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل، فظنوا الخطأَ صواباً والباطلَ حقاً، وهكذا يفعل الجهل بصاحبه ولقد قيل:

يصيب وما يدري ويُخطي وما درى                      وكيف يكون الجهل إلا كذالكا

وقد قاد هؤلاء الهمج جهلُهم وإفكهم إلى إطلاق التكفير جُزافًا بغير هدى ولا بصيرة ولا بينة، كمثل الخوارج الذين كفَّروا الإمام علي بن أبي طالب وصولاً إلى الوهابية أدعياء السلفية الذين كفَّروا تكفيرًا شموليًا كما أوضحنا ذلك في مقالاتٍ متقدمة مهمة فليراجعها طالب الحق، بل قد وصلت الوقاحة بالوهابية إلى تكفير السلطان البطل المجاهد الكبير صلاح الدين الأيوبي الذي كسر الفرنجة وحرر القدس وغيرها من بلاد المؤمنين، فقد قال أحد مشايخهم وهو جاسر الحجازي في تسجيل مشهور على مواقع التواصل: ((صلاح الدين الأيوبي كان أشعريًا في الاعتقاد وهو ضال)).

وإننا نتساءل ما معنى أن تتجرأ الوهابية على رموز الأمة وفي خدمة من تسعى هذه الحركة وهي تتهم رموز الأمة بالضلال والكفر؟ ولماذا هذا الهجوم على صلاح الدين الأيوبي؟ وقد رأت الأمة فيه بطلاً حقيقيًا ومُنقذًا استطاع أن يستعيد مجد الأمة ويُحرر البلاد الإسلامية بعدما رزحت تحت احتلال الفرنجة عشرات السنين إلا عين الوهابية فقد ضاقت عن رؤية عظمة هذا السلطان الكبير، ونحن نقول العبرة بما يراه أصحاب العلم والفهم والنظر لا بما يتوهمه أهل الجهل والفساد، وحيث عُلم هذا فنحن نذكر طرفًا من أخبار هذا السلطان العظيم لعل في ذكرها شفاء لبعض الناس من العَوَر والعمى فنقول وبالله التوفيق:

مولده ونسبه

هو السلطان الكبير والبطل النحرير رافع علم العدل والإحسان صلاح الدين وسلطان المؤمنين منقذ بيت المقدس والقائم بالجهاد، أبو المظفر يوسف بن أيوب الأيوبي الكردي، المولود سنة خمسمائة واثنين وثلاثين بقلعة تكريت من أعمال العراق حيث كان أبوه واليًا عليها، ومن ثمَّ انتقل مع أبيه بعد ذلك إلى الموصل ثم إلى بلاد الشام وإلى بعلبك تحديدًا فنشأ بها ولاحت عليه أمارات النجابة والخير منذ الصغر فقدَّمه الملك نور الدين محمود زنكي وعوَّل عليه أمرًا عظيمًا واهتم به.

 

مذهبه في الاعتقاد

كان السلطان صلاح الدين رحمه الله كما وصفه أصحاب التراجم شافعي المذهب أشعري المعتقد ولذلك كفَّرته الوهابية، بينما يجلُّ المؤمنون هذا السلطان ويعرفون له فضله ولكن تأبى الوهابية إلا الشذوذ. وكان للسلطان اعتناءٌ خاصٌ بنشر عقيدة الإمام الأشعري التي تتضمن تنـزيهَ الله عن المكان والمثيل وإثباتَ أن الله خالقٌ كل شيء بما فيها أفعال العباد الاختيارية وغير الاختيارية، وجوازَ التبرك والتوسل بالأنبياء والصالحين، وكل ذلك من جملة عقائد السلف الصالحين كما هو معلومٌ عند المحققين من العلماء، بل كان السلطان صلاح الدين نفسه فقيهًا شافعيًا وكان حافظًا للقرآن الكريم وكتاب ((التنبيه)) في الفقه الشافعي وكتاب ((الحماسة))، وقد كان للسلطان اعتناء كبير بإشهار العقيدة الأشعرية فأمر المؤذنين أن يُعلنوا ذكرها كل ليلةٍ واستمر ذلك مدةً طويلةً حتى بعد وفاته كما ذكره السيوطي في ((الوسائل)) وقد صنف له الشيخُ النحوي محمد بن هبة الله المكي أرجوزةً في الاعتقاد سمَّاها ((حدائق الفصول وجواهر الأصول)) فأقبل السلطان عليها وأمر بتدريسها للصبيان في الكُتَّاب، بل كان من شدة حرصه يعلّم العقيدة الصغار من أولاده ويلقونها بين يديه وهو يسمع لهم لترسخ في قلوبهم كما ذكر ابن شدَّاد في "النوادر السلطانية".

ومما جاء في هذه العقيدة في تنزيه الله تعالى:

قد كان موجوداً ولا مكاناً                                وحُكمُه الآن على ما كانا

فقد غلا وزاد في الغلوِّ                                   من خصَّه بجهة العلوِّ

والمعنى أن الله كان موجودًا ولا مكان وما زال بعد خلق المكان بلا مكان لأن الله لا يتغير، أي أن الله موجود بلا مكان، إذ التغيرُ دليل الاحتياج والمحتاج عاجزٌ فلا تصح للعاجز الألوهية. ومن الغُلوِّ المذموم المنهي عنه نسبةُ الجهة لرب العالمين فذلك على خلاف عقيدة الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالحين وعموم المؤمنين، قال ابن شدَّاد عن صلاح الدين: ((قد أخذ عقيدته على الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفُقهاء وفهم من ذلك ما يحتاج إلى تفهُّمه بحيث كان إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولاً حسنًا)).

 

ذكر بعض مناقبه

كان السلطان صلاح الدين قائدًا عظيمًا وبطلاً شجاعًا قائمًا بالعدل يجلس للناس كل يوم اثنين وخميس في مجلسٍ عامٍ يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين فيصل إليه كل كبير وصغير وعجوز يفعل ذلك في السفر والحضر. قال ابن شدَّاد في ((النوادر السلطانية)): ((لقد رأيته وقد استغاث به إنسانٌ من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقيِّ الدين ابنِ أخيه فأنفذ إليه ليحضر مجلس الحكم وكان تقي الدين هذا محبباً لديه عظيمًا في عينه ولكنه لم يُحابه في مثل هذا الأمر)).

وكان صلاح الدين ناسكًا خاشعًا تقيًا فقد جاء في ((النوادر السلطانية)) لإبن شداد أيضًا: ((أنه مضت على السلطان صلاح الدين سنين ما صلى إلا جماعةً وكان إذا مرض استدعى الإمام حتى لا تفوته الجماعة)). وكان من شأنه أنه يقوم الليل وإذا أدركته الصلاة وهو سائرٌ نزل فصلى وكان كثير الصدقات ومات ولم يخلف دارًا ولا عقارًا ولا بُستانًا ولا قريةً ولا مزرعةً، وكان يحب سماع القرآن وينتقي إمامه ويشترط أن يكون عالماً بالقرآن متقنًا لحفظه، وكان كثيرًا ما يطلب قراءة القرآن فيستمع فيخشع قلبه وتدمع عينه. واجتاز يومًا بصبي يقرأ القرآن فاستحسن قراءته فقرَّبه ووقف عليه وعلى أبيه جزءًا من مزرعةٍ. وكان شديد الرغبة في سماع الحديث ومتى ما سمع عن شيخٍ ذي روايةٍ وسماعٍ كثيرٍ فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع منه وأسمع أولاده ومماليكه، وإن كان ممن لا يحضر مجالس السلاطين سعى إليه بنفسه وسمع منه، وقد تردد على الحافظ الأصفهاني في الإسكندرية وروى عنه أحاديث كثيرة، وكان كثير التعظيم لشعائر الدين مصدقًا بكل ما جاء في الشرع منشرحًا صدره به.

وقال ابن شدَّاد: ((وكان رحمه الله يحب أن يقرأ الحديث بنفسه وكان يستحضرني في خلوته ويُحضرُ شيئًا من كتب الحديث ويقرؤها)). وبالجملة فمناقبه مستفيضة جدًا وهي أكثر من أن تحصرها مجرد وريقاتٍ فجزاه الله عن أمة نبيه خير الجزاء.

 

أشهر أعماله الحربية

وكان السلطان صلاح الدين عظيم الهمة قوي النفس شديد البأس لا يُرعبه كثرة عدد العدو، ثابت القلب متوكلاً على الله قام بالجهاد فنصر الله به الحق وأجرى على يده تحرير البلاد فاستنقذها من أيدي الغزاة الطامعين وأعماله الحربية كثيرةٌ جدًا. فقد تكاملت له الفتوح الكثيرة فمن ذلك فتح جبلة واللاذقية وصفد ويافا وعسقلان، وقصد صور فأخذها وتقدم فنزل بيروت فحرَّرها بعد مواجهة بينه وبين الفرنجة، وفي سنة 583 للهجرة من شهر ربيعٍ الآخر خاض السلطان معركة حطين على سطح جبل طبرية فانهزمت الفرنجة إلى تل حطين فتبعهم جيش السلطان حتى هزمهم عن آخرهم.

ثم حاز شرف تحرير القدس الشريف والمسجد الأقصى من براثن الاحتلال الغاشم الذي كان ربض فيه قُرابة قرنٍ من الزمن، فنزل مدينة القدس في الخامس عشر من رجب سنة 583 للهجرة وتسلمها في السابع والعشرين من رجب في ذكرى الإسراء والمعراج يوم الجمعة فعلت الأصوات بالتكبير والتهليل، وكان فتحًا وتحريرا عظيمًا جليلاً حضره كثيرٌ من العلماء والزهَّاد وأصحاب الطُرق من المتصوفة ورفعت الأعلام على الأسوار وما زال التاريخ يحفظ للسلطان هذا المجد العظيم.

وفاته رضي الله عنه

استقر السلطان آخر أمره في دمشق وركب مرةً فتلقَّى الحُجَّاج فلما رآهم دمعت عينه على فواته الحج معهم، ثم عاد إلى القلعة فلحقه ليلة السبت السادس عشر من صفر مرضٌ عظيم وأصابته حُمَّى شديدة واجتمع الأطباء عليه وشاع خبر مرضه فوجل الناسُ وما زال مرضه يتزايد حتى توفي في السابع والعشرين من صَفَر سنة 589 للهجرة يوم الأربعاء، ودفن بعد صلاة العصر في قلعة دمشق في الدار التي كان يقيم فيها، وما زال مقامه مقصدًا للمحبين يرجون بركته ويهدون له ما تيسر من القرآن والذكر، وتأبى الوهابية مع كل هذه المناقب إلا تكفيره فأعجب لذلك أشد العجب.

والحمد لله أولاً وآخراً.

الوسوم