بيروت | Clouds 28.7 c

أم على قلوب أقفالها..؟!/  مجموعة العشرين: امبريالية من نوع جديد- بقلم: محمد خليفة

لم ينجح ((العشرون الكبار)) في قمة الارجنتين ((30 تشرين الثاني/نوفمبر – 1 كانون الأول/ ديسمبر 2018)) سوى في تكريس هيمنة الأثرياء على العالم, بل هيمنة الأكثر ثراء على الأقل ثراء. واستطاع الرئيس الاميركي دونالد ترامب فرض رؤيته على بقية المشاركين, بتجنب الاشارة الى ((الحمائية)) كمبدأ في سياسة الدول, ورضخوا مرة أخرى لاصراره على حق الولايات المتحدة بعدم التزامها بالاستراتيجية العالمية لمكافحة التغير المناخي المعروفة بإسم اتفاق باريس.

فرض ترامب منطقه الاقتصادي وأسلوبه التفاوضي على الجميع, بما فيهم الصين التي تواجه حرباً تجارية مع الولايات المتحدة تنذر بتطورات أكثر سوءاً, إلا أن الرئيس الاميركي عاد من الارجنتين حاملاً بشائر سارة الى قاعدته الشعبية عموماً, وأرباب صناعة السيارات, خصوصاً.  إذ كشف أن بكين أذعنت له وقررت أن ((تخفض وتلغي)) الرسوم الجمركية التي تبلغ 40 في المئة التي تفرضها على السيارات الأميركية المصدرة للصين. وهي خطوة أولى, ربما تتبعها خطوات أخرى لصالح اميركا وشروطها الترامبية.

 وفي مؤشر آخر على الرضوخ لإرادة إدارة ترامب قالت مجموعة العشرين في بيانها الختامي ((إن التجارة المتعددة الأطراف لم تتمكن من تحقيق أهدافها بتعزيز النمو وخلق فرص عمل)).

ودعا البيان إلى إصلاح منظمة التجارة العالمية ((من أجل تحسين دورها))، مشيراً إلى أن القمة القادمة في اليابان ستستعرض التقدم الذي سيتم إحرازه على هذا الصعيد.

ولتكريس هيمنة هذه المجموعة على أربعة أخماس اقتصاد العالم  تعهدت بتعزيز فلسفتها ورؤيتها النابعة من مبادىء النيو- ليبرالية المتوحشة من ناحية, ومن خلال تعزيز قبضتها الضاربة الممثلة بصندوق النقد الدولي من ناحية ثانية , إذ أكدت المجموعة ((أن صندوق النقد الدولي يمثل العمود الفقري لشبكة الأمان العالمية))،ودعت إلى توفير التمويل الكافي له, مع أن غالبية الدول الفقيرة تتهم الصندوق بفرض سياسات وبرامج اصلاح تدمر اقتصاداتها الضعيفة وتسبب المزيد من الأزمات الاجتماعية.

ومع أن القمة لاحظت أن الثورة التي تشهدها التقنيّات الجديدة أخذة بتغيير طبيعة ((العمل)) في كل القطاعات ولكنها لم تحدد استراتيجية ملائمة لمساعدة العمال على مواجهة التحديات الناتجة عن هذه التغيرات, واكتفت بالدعوة إلى مستقبل عمل ((شامل وعادل ومستدام))، مع ما قد يتطلبه من إعادة تدريب العمال وتكييفهم مع المقتضيات الجديدة.

وفي مقابل الإهمال الكامل للعمال نلاحظ اهتمام  المجموعة  بدعم القوى الرأسمالية, فهي لاحظت أن ((البنى التحتية تمثل محركاً رئيسياً للنمو العالمي)) داعية إلى ((بذل جهود إضافية لتوحيد نظم العمل بهدف تشجيع الرساميل الخاصة على الاستثمار في مشاريع ضخمة)), أي دعم القوى الرأسمالية.

هذا جوهر ما أسفرت عنه قمة المجموعة, أما ما تضمنه البيان من نقاط تبدو ((تقدمية وإنسانية)) فمجرد رتوش تفتقر للالتزام والجدية المطلوبة, بدليل أنها لم تزد عن كونها وعوداً غير ملزمة. أهمها الكلام ((اللطيف)) عن مكافحة الفقر الآخذ في الاتساع في الواقع, كنتيجة طبيعية للسياسات النيو- ليبرالية الوحشية, وتراجع حماية الحكومات للطبقات الفقيرة.

 ولا يخفى على المراقب أنه مجرد كلام يدغدغ مشاعر الفقراء دون أن يقدم شيئاً ملموساً, لا سيما وان القوى الرأسمالية تشعر بمزيد من الأمان مع انهيار وتراجع قوة القوى العمالية والنقابية واليسارية عموماً.

وتحدثت القمة عن استشراء الفساد معترفة بأنه يتحول الى ظاهرة سرطانية عضوية شرعية, ولكنها اكتفت بالدعوة الى تطهير الإدارات الحكومية خلال العامين التاليين. مع أن الفساد لا يقتصر على الادارات الرسمية, بل يشمل كافة قطاعات الاستثمار والحكم والعمل, ويتطلب استراتيجية شاملة وجذرية على المستويات كافة وعلى المستوى العالمي .

وفي السياق نفسه جاء تعهد أثرياء العالم العشرين بتقليص الفجوة بين حصص الجنسين في سوق العمل بنسبة الربع خلال الأعوام الخمسة المقبلة, وتحسين فرص التعليم للإناث. فهي مسائل ثانوية تخدم نظام العمل الرأسمالي أكثر مما تعالج ظواهر اجتماعية رجعية لم تعد تساير التطور العالمي.

قمة العشرين هي قمة الأغنياء والاقوياء , الذين توحدهم المصالح الامبريالية, ولا تفرقهم الخلافات الايديولوجية, ولا النزاعات السياسية والاقليمية والتاريخية, مهما كان حجمها, وأثرها الوطني والقومي, بشكل مثير للانتباه والتفكير بعمق, لأن المشهد يرسم تحولاً عالمياً وتاريخياً مختلفاً. ففي هذه القمة يجلس الشيوعيون الصينيون جنباً الى جنب مع ((الأعداء الامبرياليين)) الاميركيين, ويتقاسم اليابانيون مع الصين والهند الرؤى والافكار نفسها, وتلتقي مصالح الروس بمصالح الاوروبيين, ويتلاقى الاسلام والبوذية والمسيحية على طاولة واحدة دون تفكير في العقائد الدينية.

باختصار في قمة كقمة العشرين فقط لا في أي مكان آخر تتراجع كل الملفات وتتوارى الخلافات السياسية والنزعات القومية والدينية والايديولوجية.  

ومع تصاعد قوة هذه الكتلة الدولية, وغياب الكتل المنافسة يتجه العالم الى نظام عالمي تحكمه المصالح الاقتصادية والمادية بشكل مطلق على حساب ((الحضارات والثقافات المتصادمة)) التي ظنها هنتنجتون قبل ربع قرن ستطغى على ما عداها معتقداً أو متنبئاً أن انتهاء الحرب الباردة سيشعل تناقضات وصراعات دينية, غير أن تعاظم دور وفعالية مجموعة العشرين, وهيمنتها على الاتجاهات الكونية, وزمام القيادة العالمية, إنما تشير الى سقوط تلك النبوءة, وتبلور اتجاه عالمي أقل سوداوية, يتبنى خيار التفاهم والتعاون والتشارك بهدف حفظ المصالح بشكل توافقي, وفرضها على بقية دول العالم. اتجاه يرسم أفقاً جديداً وطوراً مختلف في السيرورة الانسانية, أهم معالمه أو مؤشراته نشوء امبريالية اقتصادية متعددة الايديولوجيات على حساب العدالة والحقوق والثقافة.

مرحلة انتكاسية وكئيبة,ولكنها أقل كآبة وسوداوية من صراع الحضارات, ومن الانقسامات والتخندقات والصراعات الايديولوجية والحروب الساخنة والباردة.  

 

الوسوم