بيروت | Clouds 28.7 c

أضواء على سيرة محمد رسول الله خاتم النبيين (2\2)  بقلم الشيخ أسامة السيد

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

 كتبنا في الحلقة الماضية عن بعض شمائل سيدنا وعظيمنا وقائدنا النبي الأكرم محمد بن عبد الله الهاشمي صلى الله عليه وسلم حيث تكلمنا عن اسمه ونسبه وتاريخ مولده الشريف وشيءٍ من صفته العظيمة وصفة كلامه المبارك ومزاحه، وقد رأينا أن نُتبع ذلك بمقالٍ آخر لتعم الفائدة ويزيد النفع فإن فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم جدًا، ومن يُحصي عدد نجوم السماء أو عدد قطرات الأمطار؟! بل الأمر كما قال البوصيري في بُرْدته المشهورة:

فإنّ فضلَ رسول الله ليس له                         حدٌّ فيُعرب عنه ناطقٌ بفم

فلو كتبنا المجلدات وسطَّرنا الصحف ألوفًا وأكثر لم يكن كل ذلك وافيًا بكمال قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلا يُحصي بركاتِ رسولِ الله إلا الله كيف لا وهو صلى الله عليه وسلم صفوة خلق الله، فقد أوجب الله تعالى محبته وجعل طاعته طاعةً له وأثنى  عليه في كتابه الكريم فقال تعالى:((قلْ إنْ كنتم تُحبون اللهَ فاتبعوني يحببكم اللهُ ويغفرْ لكم ذنوبَكم والله غفورٌ رحيم)) سورة آل عمران.

وقال أيضاً:((من يُطعِ الرسولَ فقد أطاع الله} سورة النساء.

وقال أيضًا:((ورفعنا لك ذِكْرَك)) سورة الشرح. وقال: ((وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم)) سورة القلم.

وهناك الكثير من الآيات والأحاديث الدَّالة على علو منزلته صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله اصطفى كِنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من كِنانة واصطفى من قريشٍ بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)).

وحيث ما زلنا في ذكر شمائله العطرة فقد رأينا من المناسب في هذا المقام أن نتكلم عن رحمته وأدبه صلى الله عليه وسلم عسى أن ينفع الله بذلك الناس، فيكون ما نسطره حافزًا لكثيرٍ من البشر ليزينوا قلوبهم بالأدب والرحمة فقد قلاّ بين الناس جدًا، بل فارقت الرحمة كثيرًا من القلوب فقست وصار حال أصحابها كمن قال ربنا تعالى فيهم: ((ثم قست قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً وإنْ من الحجارة لما يتفجَّر منه الأنهار وإنْ منها لما يشَّقق فيخرج منه المآء وإنْ منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافلٍ عمَّا تعملون)) سورة البقرة.

من رحمته صلى الله عليه وسلم

قال الله تعالى: ((لقد جآءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيم)) سورة التوبة. وقوله: ((عزيزٌ عليه ما عنتم)) أي لا يهون عليه عنَتُكم أي ما يشق عليكم، فهو منكم ويهتم لأمركم. قال ابن الجوزي في ((زاد المسير)): ((شديدٌ عليه ما يشقُّ عليكم)). والعَنَتُ لقاء الشدة، وفي هذا الوصف له عليه الصلاة والسلام دليلٌ على كمال رحمته العظيمة، فعن السيدة عائشة قالت: ((ما خُيِّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا)) رواه البخاري.

قال النووي في ((شرح صحيح مسلم)): ((فيه استحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حرامًا)) ولا شك أن فعله هذا تعليمٌ للأمة وحضٌ للناس على الرفق واليسر، وهذا من جملة الرحمة التي ينبغي أن يتصف بها المؤمن اقتداءً بنبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان أرحمَ خلق الله. ففي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسمّي لنا نفسَه أسماء فقال: ((أنا محمد وأحمد)) الحديث وفيه ((ونبي الرحمة)) قال السيوطي في ((الرياض الأنيقة)): ((ومعناه واضح لأنه أُرسل للرحمة)). وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما أنا رحمة مُهداة)) رواه الطبراني.

وعنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مؤمنٍ إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)) سورة الأحزاب. فأيما مؤمنٍ ترك مالاً فليَرثْه عَصَبَتُهُ من كانوا فإن ترك دَينًا أو ضَياعًا فليأتني فأنا مولاه)) رواه البخاري.  

وقد أوضح ابن الجوزي في ((زاد المسير)) معنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم فقال:(( قال ابن عباس: إذا دعاهم إلى شيء ودعتهم أنفسُهم إلى شيء كانت طاعته أولى من طاعة أنفسهم، وهذا صحيح فإن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم والرسول عليه السلام يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم)).

ومعنى تتمة الحديث أن من ترك مالاً كان لورثته، ومن ترَك دَينًا قضاه النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يكن ترك ميراثًا يكفي لسداده، وإن ترك ضَياعًا أي عيالاً محتاجين أعانهم النبي صلى الله عليه وسلم في تدبير أمور معيشتهم ونفقتهم، أي كان من رحمته عليه الصلاة والسلام أنه كان قائمًا بمصالح المؤمنين في حياة أحدهم وموته، فانظر إلى عظيم رحمته وشفقته وتأمل هذا الفضل العظيم، وقد كان صلى الله عليه وسلم رحيمًا حتى بالصغار فعن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأقوم في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز (أخفف) في صلاتي كراهية أن أشقَّ على أمه)) رواه البخاري.

ومن رحمته دمع عينيه لفراق ولده إبراهيم، فعن أنسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه (يحتضر) فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَان ((تدمعان)) فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله، فقال: يا ابن عوفٍ إنها رحمة. ثم قال: إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يَرضَى ربُّنا وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) رواه البخاري.

ومن ذلك إحسانه عليه الصلاة والسلام إلى اليتامى فكان يبرّهم ويوصي بكفالتهم والإحسان إليهم، وعن أبي هريرة أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوةَ قلبه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ((امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين)) رواه أحمد. وعن سهل بن سعدٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى وفرَّج بينهما.

ولم تقتصر رحمته صلى الله عليه وسلم على المؤمنين فقط بل عمَّت فكان عليه الصلاة والسلام رحيمًا بالبهائم، فعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه كان يُصغي ((يُميلُ)) الإناء للهرة حتى تشرب)) رواه الدارقطني. وعن عبد الله بن جعفر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا ((بستانًا)) لرجل من الأنصار فإذا جَمَلٌ فلما رأى ((أي الجمل)) النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذِفراه ((مؤخر رأسه)) فسكت فقال: من ربُّ ((صاحب)) هذا الجمل لمن هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إيَّاها فإنه شكا إليَّ أنك تُجيعُه وتُدْئبُهُ (تُتعبُه))) رواه أبو داود.

من أدبه صلى الله عليه وسلم

وإذا ما علم هذا فليسأل كلٌ منا نفسه: أين أنا من مثل هذه الأخلاق؟ وأين أنا من الاقتداء الكامل برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ليوطد نفسه على مكارم الأخلاق ويسعى ليترقى في درجات الفضل، فقد جعل الله تعالى هذا النبي العظيم قدوة لنا في كل شيء، وحقيقٌ بنا أن نقتدي به صلى الله عليه وسلم لنُفلح في الدارين فإن هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام أحسن الهدي، وأدبه أعلى الأدب وحيث مضى الكلام عن ذكر شيءٍ من رحمته فلنختمه بذكرٍ طرفٍ من أدبه فنقول:

عن السيدة عائشة وقد سُئلت: ما كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت:(( كان خُلُقه القرآن)) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) أي أن كل خصلةٍ أمر بها القرآنُ الكريم كان صلى الله عليه وسلم يتصف بها، وناهيك بهذا فضلاً وأدبًا وكمالاً.

وفي ((تاريخ المدينة)) لإبن شبَّة عن عائشة وقد سُئلت كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه؟ قالت: ((كان رجلاً من رجالكم، كان أحسن الناس خُلُقًا، وكان ضحَّاكًا بسَّامًا)). وفي ((الحلية)) لأبي نُعيمٍ عن جابرٍ قال: ((ما رُئي (أو قال ما رأيتُ) رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مادًّا رجليه بين أصحابه)).

 وكان من أدبه الشريف أن يدور على نسائه إذا أصبح فيسلم عليهن مع أنه أحقُ أن يُؤتى إليه للسلام عليه، فقد جاء في صحيح مسلمٍ في حديثٍ طويل عن أنسٍ قال: ((فجعل (أي النبي) يتتبع حُجَر (بيوت) نسائه يُسلِّم عليهن)). وعن عائشة قالت: ((ما ضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده ولا امرأةً ولا خادمًا إلا أن يُجاهد في سبيل الله)) رواه مسلم.

وجديرٌ بنا أن نتأمل هذا الحديث وغيره مما مرَّ ذكره مما دلَّ على عظمة أخلاق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وحسن أدبه العظيم وحبذا لو نقتبس من ذلك ما نُهذِّب به أنفسنا فما أحوجنا لهذا. ثم إليك زيادةً على ذلك ما رواه أحمد عن عروة قال: ((سأل رجلٌ عائشةَ هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعملُ في بيته شيئًا؟ قالت: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخصِفُ نَعْلَهُ ويَخِيطُ ثوبه ويعملُ في بيته كما يعمل أحدُكم في بيته)). قال زين الدين العراقي في ((طرح التثريب)): يخصِف نعله أي يخرُزُها طاقةً على الأخرى من الخَصف وهو الضم والجمع)).

وما كل هذا إلا نقطةٌ من بحر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبحان الله القائل: ((الله أعلم حيث يجعل رسالته)) سورة الأنعام.

والحمد لله أولاً وآخراً.

 

الجزء الاول  على الرابط ? ادناه  ?

أضواء على سيرة محمد رسول الله خاتم النبيين (1\2) بقلم الشيخ أسامة السيد

 

الوسوم