بيروت | Clouds 28.7 c

الطريق إلى إصلاح القلوب /بقلم الشيخ أسامة السيد

الطريق إلى إصلاح القلوب /بقلم الشيخ أسامة السيد

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو ءاذانٌ يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)) سورة الحج.

وعن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صَلحتْ صَلَح الجسدُ كلُّه وإذا فسدتْ فسد الجسدُ كلُّه ألا وهي القلب)) رواه البخاري ومسلم.

إن القلب أمير الجوارح أي أعضاء الجسم وبصلاح الأمير تصلُح الرعية وبفساده تفسُد عادةً وبالتالي فإن صَلَح قلب العبد صلَح بذلك سائر جسده أي كل أعضائه من أذنٍ وعينٍ وفمٍ ولسانٍ ويدٍ ورجلٍ وبطنٍ وفَرْجٍ، وظهر أثر الصلاح في هذه الجوارح. وإذا فسَد القلب فسَد سائر الجسد وظهر أثر الفساد في هذه الجوارح، ذلك أن الإنسان قبل أن يقوم بأي عملٍ ما من أعمال الخير أو الشر يحصل في قلبه عزمٌ على ذلك العمل ثم يُعطي القلبُ الإشارة للجوارح فتتحرك للقيام بالعمل فيكون هذا الفعل بواسطة الأعضاء تعبيرًا عما انعقد في القلب، ويُمكن القول إن الله جعل الجوارح مُسخَّرةً للقلب ومطيعةً له فما استقر فيه إنْ خيرًا فخيرٌ وإنْ شرًا فشرٌ.

 

لم سُمي القلب قلبًا

إن في تسمية النبي صلى الله عليه وسلم القلبَ بالمضغة وهي القطعة من اللحم بقدر ما يمضغه الماضغ إشارة إلى صغر هذا العضو المودعِ في الجانب الأيسر من الصدر وعظيم شأنه.

قال ابن الملقن في ((المعين على تفهم الأربعين)): ((القلب عضو باطن في الجسد عليه مدار حال الإنسان وهو عضو صغير الجِرم ولذلك سمّاه (أي النبي) مضغةً ولكنه عظيم الجُرم)). ثم قال: ((إن صلاحَ الجسد وهو البدن تابع لصلاح القلب وفسادَه تابع لفساده لأنه مبدأ الحركات البدنية والإرادات النفسانية فإن صدرت عنه إرادة صالحة تحرك الجسد حركة صالحة وكذا الفاسدة. وبالجملة فالقلب كالملك والجسدُ وأعضاؤه كالرعية ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك وتفسد بفساده)).

وقد عُبّر عن القلب بالعقل نفسه، قال تعالى: ((إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب))سورة ق، أي  لمن كان له عقل، وقال تعالى ((فتكون لهم قلوب يعقلون بها) سورة الحج.

قال الأنباري في ((الزاهر)): ((قال اللغويون: إنما سُمي القلب قلبًا لتقلُّبه وكثرة تغيره)). ويؤيد هذا المعنى قولُه تعالى في سورة الأنعام: ((ونُقلِّب أفئدتهم وأبصارهم)) الآية. قال ابن الجوزي في ((زاد المسير)) في تأويلها: ((التقليب تحويل الشيء عن وجهه)). وروى البخاري في ((الأدب المفرد)) عن أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: ((اللهم يا مُقلِّبَ القلوب)).

وفي هذا المعنى قيل:

ما سُمي القلبُ إلا من تقلبه               فاحذر على القلب من قلبٍ وتحويل

وجاء في حديثٍ متشابهٍ، لا يجوز حمله على الظاهر فالله لا يوصف بالجوارح، رواه النسائي وغيره عن النواس بن سمعانٍ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من قلبٍ إلا بين إصبعين من أصابع الرحمان إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه)) فليس المعنى أن الله له أصابع كالبشر لأنه تعالى منزَّهٌ عن مماثلة المخلوقين بدلالة العقل والنقل، وإنما معنى الحديث أن الله مُتصرفٌ في قلوب عباده كما شاء لا يمتنع عليه منها شيء ولا يفوت ما أراد. وهذا المعنى ذكره النووي في ((شرحه على صحيح مسلم)). وجاء في ((الفتح)) لابن حجر ما نصه: ((فإن قيل: قد صحَّ حديث إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن فالجواب: أنه إذا جاءنا مثل هذا عن الصادق تأوّلناه أو توقفنا فيه إلى أن يتبين وجهه مع القطع باستحالة ظاهره)) فليس لله أصابع كالبشر لأنه تعالى منزَّهٌ عن مماثلة المخلوقين بدلالة العقل والنقل.

 

أمراضٌ وعلاج

وبناء على ما تقدم حول القلب ودوره في حياة الإنسان حريٌ بالناس العمل على تصفية القلوب وحفظها من الأدران حتى تستقيم فتتحرك نحو الخير وتُحجم عن الشر فيجد الإنسان بعد ذلك في باطنه رادعًا يصرفه عن المنكر فيعتاد الإكثار من أعمال البر، ولا شك أن هذا شيءٌ عظيمٌ راقٍ ودرجة لا يُتوصل إليها إلا بعد جهدٍ كبيرٍ وذلك بعد تنقية القلب من الأمراض الفتَّاكة التي تفترس كثيرًا من أفئدة الناس ومنها: الشك في الله أي في وجوده أو وحدانيته أو قُدرته أو حكمته أو عدله أو علمه وكل هذا نقضٌ للإيمان وخروجٌ منه.

ومن الأمراض الرياءُ وهو العمل بالطاعة ليمدحه الناس لا مخلصًا لله، ومنها الحقدُ وهو إضمار العداوة للمؤمن مع العمل بمقتضى هذه العداوة كأن يسعى لضربه أو حبسه بغير حقٍ أو غير ذلك مما فيه ظُلمٌ له، والحسدُ وهو كراهية النعمة للمؤمن سواء كانت النعمة دينيةً كأن يُقيم الصلوات الخمس أم دنيويةً واستثقالها له والعمل لتزول عنه، وسوءُ الظن بالناس وغير ذلك مما يطول ذكره وشرحه. فإن لم يحفظ المرء نفسه من ذنوب القلب وما أكثرها زادت عليه الخطايا حتى يصير غريقًا في مستنقعات الردى فينضح عندئذٍ بما يحتويه من فساد فلا تصل إليه آثار المواعظ ولا تدخل إلى قلبه الإرشادات، ويُفارقه الخوفُ من الله حق الخوف، وما فارق الخوفُ من الله قلبَ امرئٍ إلا خَرِب.

 فما أحوجنا إذًا إزاء ما نراه اليوم من حقدٍ وحسدٍ وتباغضٍ وتدابرٍ وتنافرٍ وكراهيةٍ وتكبرٍ على عباد الله، وإضمار العداوات وتحيُّن الفُرص لإيقاع الضرر بالمؤمنين لحظوظ النفس ولأغراضِ الدنيا الدنيئة، إلى العمل على إصلاح القلوب وتقويمها وتعاهدها بالأدوية الناجعة ومنها: النظر في كتاب الله وتدبُّر آياته وفهم معانيه والإنصات لتلاوته مع الخشوع لله تعالى، وحضور مجالس العلم الديني وحمل النفس على الاقتداء بالصالحين ومخالفتها فيما تميل إليه من الشر، فإن أغلب النفوس أمارةٌ بالسوء ولقد قيل: ((مخالفة النفس شفاؤها)). فمن أراد الفلاح فليعمل على تعويد نفسه على الصبر والعفو وكفِّ الأذى عن الناس وتحمُّل أذى الناس وبذل المعروف مع من يعرفه ومن لا يعرفه تقربًا بكل ذلك لله وحده لا طلبًا لحاجةٍ دنيوية. وما أحوجنا للمثابرة على هذه الفضائل لتضمحل بذلك الأدواءُ التي تغلغلت في قلوب الكثيرين وتراهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الصلاح والإصلاح وإنما حالهم في الحقيقة كحال من قال ربنا تعالى فيهم: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مُصلحون ألآ إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)) سورة البقرة.

ونرى بعض هؤلاء المغرورين يكسر أحدهم قلب أخيه المؤمن بما يواجهه به من شتمٍ وتأنيبٍ بغير حق وما يُظهره له من عداوة ثم يدافع عن نفسه فيقول: ((أنا لست مُداهنًا ولا مخادعًا إنما أنا صادقٌ وصريحٌ وأُعبّر عما في قلبي مهما كانت النتائج))، وقد جهل هذا المخدوع أن مداراة الناس من الحكمة وأنه لا مانع من إظهار البشاشة والابتسامة في وجه أخيك المؤمن وإن كان قلبك لا يميل إليه في حقيقة الأمر، وأنه ينبغي أن تحزن عليه إن رأيتَه على شرٍ وتسعى لإنقاذه منه لا أن تشمتَ به، ففرقٌ كبيرٌ بين الصدق وسوء الأدب، وبين الصراحة والوقاحة.

وقد أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة آل عمران قوله: ((فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم)). ولعمري لو اجتمع هذا الذي يدَّعي الصراحة والصدق في مجلس مع ذي سلطانٍ فهل يكلمه بغلظةٍ بدعوى الصراحة أم يحاول أن يكون بين يديه بمنتهى الأدب؟!

 

هذِّب نفسك

فالعاقل إذًا من اجتهد في تهذيب نفسه وتقويم قلبه فقد روى مسلمٌ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لا ينظرُ إلى أجسادكم ولا إلى صُوركم ولكن ينظُرُ إلى قُلوبكم)) والمعنى لا يُثيبكم على صوركم ولا على أجسادكم ولا يُقربكم ذلك منه تعالى، فمعنى نظر الله هنا مُجازاته، وإلا فنظره الذي هو رؤيته للموجودات واطِّلاعه عليها لا يختص بموجودٍ دون آخر بل يعم جميعَ الأشياء إذ لا يخفى على الله تعالى شيء، وقوله: ((ولكن ينظُرُ إلى قلوبكم)) تأكيدٌ على الاعتناء بإصلاح القلب وتصحيح مقاصده وتطهيره من كل نعتٍ مذموم وتحليته بكل وصفٍ محمود، وفيه أن الاعتناء بإصلاح القلوب مقدمٌ على عمل الجوارح لأن عمل القلب هو المصحح للأعمال الشرعية وذلك أن النية سر العمل ومحلها القلب وبها تتميز العادات عن العبادات، فقد يعمل اثنان نفس العمل وتختلف نياتهما القلبية فيثاب أحدهما ويأثم الآخر كأن يُنفق أحدهما لله تعالى فيؤجر وينفق الآخر رياءً ليمدحه الناس فيأثم. وقد روى الشيخان عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنيات)) والمعنى أن الأعمال الصالحة لا تكون محسوبةً إلا بالنية الحسنة، ولذلك ينبغي العمل على حفظ القلوب ليحسُن حالها بدل أن تقسو بالمعصية وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وإن أبعدَ الناس من الله القلب القاسي)) والمعنى أبعد الناس من رحمة الله صاحبُ القلب القاسي لأنه لقساوته لا يأتي بخير ولا ينزجر عن شر فيبعد عن وصف المفلحين.

وخلاصة القول إنه ينبغي تعهد القلب بما يصلحه مرةً بعد مرةٍ ليعرف المرء ما له وما عليه، فقد روى البيهقي عن المقداد بن الأسود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لَقْلبُ ابنِ آدم أشدُّ تقلبًا من القِدْر إذا اجتمع غليا)) أي غليانًا. قال الأنباري في ((الزاهر)): ((غلت القِدرُ غليًا وغليانًا)).

والحمد لله أولاً وآخراً.          

الوسوم