بيروت | Clouds 28.7 c

أبحاث عربية سبقت نظرية داروين في أصل الأنواع  والنشوء والارتقاء / بقلم عبد الهادي محيسن

مجلة الشراع 17 كانون الثاني 2021

 كان العرب في عصر النهوض والتنوير أول من استجمع كثيرا من الجزئيات في مذهب النشوء ، وأول من قالوا بأن عالم الحيوان والنبات والجماد واحد يفصل بينهم  حدود انقلابية بسيطة ، فإذا رجعنا الى التاريخ وجدنا أن إخوان الصفا أول من تكلموا فيه بأسلوب علمي في أول عصور المدنية العربية .

كان سهلا على من درس مذهب النشوء والارتقاء في أطواره الأخيرة أن يستخلص من أقوالهم كثيرا من المباديء التي تعتبر الآن من الدعامات الأولية في مذاهب النشوء عامة ، ومنها قواعد تنطوي على الكثير من المباديء الأولية اصطلحوا على تسميتها بإصطلاحات أقل ما فيها أنها تنم على ما يقصد منها مثل الوراثة والرجعى والانتخاب الطبيعي والانقراض الى غيرذلك مما أورده العرب وأثبتوا مدلولاته في كثير من المشاهدات .

" اعلم يا أخي أن أول مرتبة نباتية مما يلي التراب هي خضراء الدمن ذلك لأنها ليست بشيء سوى أنها غبار يتلبد على الأرض والصخور ثم يصيبها المطر فتصبح خضراء كأنها نبت زرع ، وأول الحوينبات الدنيا خلقا في مذهبه هي (المونيرة ) فلا تعرف الفرق بينها وبين المادة الصرفة الا بتكوين زلالي خاص بها وجعلوا هذه المرتبة أول نشوء ارتقائي انقلابي بين الجماد والنبات "

وفي النبات نوع آخر فعله أيضا فعل النفس الحيوانية وان كان جسمه جسما نباتيا وهو " الأكشوت" وذلك أن هذا النوع من النبات ليس له أصل ثابت في الأرض ولا ورق كما سائر النبات فهو يلتف على الزرع والحشائش ويمتص من رطوبتها ويغتذي كما يفعل الدود الذي يدب على ورق الشجر وقضبان النبات ، ثم تدرجوا لشرح هذ الانقلاب النشوئي فقالوا إن أدون الحيوانات وأنقصه هو الذي ليس عنده سوى حاسة واحدة وهو الحلزون .

وقالوا أن الحلزون دودة في جوف أنبوبة صخرية تتكون على سواحل البحار وشواطيء الأنهار وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق الا اللمس فحسب ، وهكذا أكثر الديدان في قيعان البحار والأنهار فهذا النوع حيوان نباتي لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات بحاسة واحدة ولأنه يتحرك بجسمه حركة اختيارية فهو حيوان بحاسة واحدة لأنه أنقص الحيوانات رتبة وتلك الحاسة هي اللمس التي يشاركه بها النبات أيضا .

ذكر داروين أن الانتخاب الطبيعي لا يؤثر في الأحياء الا لأجل فائدتها  فأي تحول ضار بالأنواع يباد وينقرض وهنا يقول إخوان الصفا أن الحكمة الإلهية لم تعط الحيوان عضوا لايحتاج اليه لجر المنفعة أو دفع المضرة لأنه لو أعطاها لكان وبالا عليها في حفظها وبقائها ، ويسمي داروين هذه الفكرة بالانتخاب الطبيعي في حين يسميها إخوان الصفا بالحكمة الإلهية ...

 قسّم ابن مسكويه النبات الى ثلاث مراحل ولكل مرتبة من هذه المراتب غرضا كبيرا وذكر أن النبات أسبق في الوجود من الحيوان لأن حركة أثر النفس (الحياة) في النبات كانت أول ماظهر في الأرض بعد امتزاج عناصرها الأولى ، ومرتبة النبات الأولى هي التي لا تحتاج الى بذور كأنواع الحشائش والفطريات وغيرها التي تتكاثر بواسطة الخلايا الجرثومية وتتركب من خلية واحدة .

  تدرج ابن مسكويه بالقول الى أن في المرحلة الثالثة التي ينتهي اليها النبات ثم صار في الأفق الأعلى لنوعه ، وإذا زاد قبوله لهذا الأثر لم يبق له صورة النبات وانتقل حينئذ الى صورة الحيوان وهذه المرتبة الأولى من الحيوان ضعيف لضعف أثر الحس فيها ثم تتدرج الصور الحية نحو كل مرتبة من المراتب حتى مراتب القرود واشباهها من الحيوان الذي قارب الانسان في خلقه ونستدل على ذلك قوله أن الإنسان ناشيء من آخر سلسلة البهائم وظل يرتقي في المراتب حتى حصل على الصورة الحاضرة .

أما ابن خلدون فقد ذكر في مقدمته قد توهم من لا علم لهم بطبائع الكائنات أن السودان هم من ولد حام ابن نوح اختصوا بالسواد .... وينقلون في ذلك حكايات من خرافات القصص ، وفي القول غفلة عن طبيعة الحر والبرد وأثر الشمس التي تسامت فوق رؤوسهم فتطول المسامتة عامة فصول السنة فتسوّد جلودهم وقد أطلق نظريته على سكان البلاد الشمالية ونسبة بياض بشرتهم الى أثر الطقس .

ويقول : ثم انظر الى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن – التراب ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدرج فآخر أفق الجماد متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما ليس له بذور  وآخرأفق النبات متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف واتسع عالم الحيوان وانتهى تدريج التكوين الى الانسان صاحب الفكر والذي اجتمع فيه الحس والإدراك .

ان ما قاله ابن خلدون لا يبعد عما ذكره كثيرون وهذا يظهر ما للعرب من جهود وأثر كبير وفضل عظيم على العلم في القرون الماضية ، ولقد أورد الجاحظ في كتابه الحيوان مشاهدات يعتبرها الباحثون من مقومات مذهب النشوء والارتقاء منها ماقاله التلاقح والتزاوج وانتاج الأنسال الجديدة فقال إن بين ذكور الخنافس والجعلان تسافد وانهما ينتجان خلقا ينزع اليهما جميعا والجعل يظل دهرا ولا جناح له ثم ينبت له جناحان والدعاميص التي تغبر حينا ثم تصير فراشا ..

عبد الهادي محيسن ....... كاتب وباحث  

 

الوسوم