بيروت | Clouds 28.7 c

هذه أمريكا... / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 7 كانون الثاني 2021

تسمّر عشرات ملايين الناس أمام شاشات التلفاز ليروا كيف تتم عملية انتقال السّلطة من دونالد ترامب الخاسر إلى جو بايدن الفائز في مجلس الشيوخ الأمريكي الذي سيصادق على تصويت المجمع الإنتخابي لصالح بايدن، وليرى العالَمون بأم أعينهم كيف يكون تعامل الشارع الأمريكي " المتمدن " مع ظاهرة دونالد ترامب المجنون والأرعن، لكن الصور المباشرة التي كانت تنقلها مختلف القنوات الفضائية كشفت عن حقيقة الواقع الأمريكي الذي بُذلت جهود كبيرة منذ قرون وصُرفت أموال طائلة من أجل إخفائها وإظهار صورة كاذبة عنه لشعوب العالم...

فبعد مشاهد التمييز العنصري وقتل المواطنين ذوي البشرة السوداء من قبل الشرطة الأمريكية بدم بارد التي رأيناها طوال الفترة الماضية، وبعد رؤية عمليات قتل متكررة في مختلف مدن الولايات المتحدة في مراكز التسوق والكنائس والجامعات وحتى المدارس والتي لم تتوقف أبداً، وبعد موجة العداء للمسلمين الذين يشكلون جزءاً مهماً من المجتمع الأمريكي حيث يتجاوز عددهم حالياً الـ  4 ملايين وهم في ازدياد، بعد كل هذه المشاهد حلّ يوم السادس من كانون الثاني عام 2021 ليرى العالم وجهاً آخر من حقيقة أمريكا "المتحضرة " وأسلوب تعامل الحاكمين مع مؤسساتهم الدستورية، وكيف يتعامل الشعب الذي يُضرب برقيّه المثل مع السلطات المنوط بها تطبيق الدستور الأمريكي والقوانين.

لقد طلب "رئيس" الولايات المتحدة من الشعب الأمريكي الذي صوّت لصالحه أن يزحف إلى العاصمة واشنطن لكي يعطل جلسة مجلس الشيوخ المخصصة للمصادقة على قرار المجمع الإنتخابي، بدعوى أن الإنتخابات التي جرت هي مزورة، على الرغم من أن مجموعة كبيرة من المحامين الذين كلفهم ترامب حاولوا جاهدين الطعن بصحة عمليات التصويت في عدد من مدن الولايات، وطالبوا بإعادة فرز الأصوات في عدد من أقلام الإقتراع، وقدموا شكاوى إلى عدد من المحاكم في الولايات، وأخيراً قدموا طعناً أمام المحكمة الإتحادية العليا في العاصمة، وفشلت كل تلك المحاولات ولم تتضمن الشكاوى والطعون المقدمة أية أدلة وبراهين، ولم يتراجع ترامب عن مزاعمه وظل مصرّاً على ادعاءاته، وبالأخير توسل الرئيس بنائبه مايك بنس ليوقف عملية مصادقة مجلس الشيوخ حيث يترأس الجلسة، لكن بنس رفض ذلك...

وفي كل تلك الحالات كان ترامب يهاجم بشدة ويصف بأقبح العبارات من لا يوافقه الرأي، ولم يستثنِ أيضاً رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل الذي أعلن قبوله بفوز بايدن، وهو الذي كان طوال السنوات الماضية وحتى قبل أيام قليلة من أقوى المدافعين عن ترامب في مواجهة رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي المناوئة له بشدة.

وبعد فشل كافة تلك المحاولات القانونية طبقاً للدستور الأمريكي وصل الأمر في نهاية المطاف إلى أن رفع الرئيس ترامب سماعة الهاتف الخاص به وقام بتهديد أحد المسؤولين في ولاية جورجيا إذا لم يُثبت بأية طريقة وقوع تزوير، وذلك بعد أن أكد له ذلك الرجل في بداية الإتصال صحة عملية الإقتراع ونفى وقوع أي تزوير.

وكان القرار الخطير لترامب، والذي من واجبه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية الإشراف على حسن تطبيق الدستور والقوانين في البلاد، المتمثل بحضَ انصاره بالنزول إلى الشارع للحؤول دون تصديق الكونغرس على قرار المجاميع الإنتخابية، وذلك بطريقة تحرضهم على المواجهة العنيفة، وهذا ما دفع بالبلاد إلى مواجهة مع الشارع الآخر وإلى حصول أزمة حقيقية مع القوات المسلحة التي عليها حفظ النظام في وقت واحد، حيث الرئيس هو صاحب الدعوة وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، والشرطة يجب عليها مواجهة عنف المتظاهرين المسلحين بالبنادق والقنابل.

إن مشاهد تسلق المتظاهرين شرفات مبنى الكونغرس..

واقتحام القاعات..

وتحطيم المحتويات فيها..

وإنزال العلم الأمريكي من فوق قبة الكابيتول..

واحتلال مكتب رئيسة مجلس النواب وترك نص تحذيري على طاولتها..

وتهديد الأعضاء بالبنادق والمسدسات التي يحملونها..

واستعمال النواب بدورهم السلاح في مواجهة المقتحمين..

 واضطرارهم أخيراً إلى الفرار والإختباء في ملاجئ سرية..

وبعد مماطلة متعمدة تدخلت الشرطة المحلية والحرس الوطني وعناصر الـ FBI وتم إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية في العاصمة بعد أن قتل أربعة من المتظاهرين وجرح العشرات واعتقل المئات، كل هذا كان تحت تأثير الخطاب الناري للرئيس ترامب من وراء الزجاج المضاد للرصاص ومن أمام مبنى البيت الأبيض، وكان هذا الخطاب التحريضي هو إشارة الإنطلاق لحشود المناصرين الثائرين والمسلحين بالبنادق والمسدسات والقنابل اليدوية للتوجه إلى مبنى الكونغرس على بُعد مئات الأمتار من البيت الأبيض ومحاصرته ثم اقتحامه والعبث بمحتوياته حتى أن أحد المقتحمين جلس على كرسي رئيس الكونغرس والتقط صورة تذكارية له، وأخذ مقتحم آخر المنصة التي يقف وراءها الناطق باسم الكونغرس لتلاوة البيانات الرسمية...

والطريف أن أعداء النظام الإسلامي في إيران والمطالبين بإقامة نظام حكم ديمقراطي بديل عنه من أنصار الشاه وجماعة "مجاهدي خلق" كانوا مشاركين في الهجوم على الكونغرس حاملين أعلام النظام السابق، كل هذا وابنة الرئيس والمساعدة الأقرب منه إيفانكا ترامب وفي تغريدة لها على تويتر تصف مقتحمي مبنى الكونغرس بالرجال الوطنيين، وتغريدات الرئيس نفسه المتتالية كانت أيضاً مؤيدة لأعمال الشغب هذه ومحرضة على مواصلة التحركات العنيفة، حتى اضطرت المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الإجتماعي المختلفة و اليوتيوب إلى حجب بياناته، وحذف تغريداته وأفلامه..

وأخيراً تعليق موقعه لمدة 24 ساعة، والتهديد بإلغاء كل مواقعه على كافة مواقع التواصل بصورة دائمة ما اضطره إلى إزالة مواقفه السابقة، وأخيراً طلب من أنصاره العودة إلى منازلهم دونما إشارة إلى عشرات القتلى والجرحى الذين سقطوا من انصاره والذين زهقت أرواحهم بفعل تحريضات دونالد ترامب.

إن توصل أعضاء مجلسي النواب والشيوخ إلى المصادقة على فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة لا يعني أبداً انتهاء المشكلة، بل إن الأزمة الكبرى قد بدأت للتوّ في المجتمع الأمريكي إذ أن 74 مليون على الأقل من الشعب الأمريكي هو مستنفر ضد رئيسه ورافض لشرعيته ومتمرد على قراراته، وقد تعمدت المسيرة هذه اليوم بدماء من سقطوا من المناصرين، تلك الدماء التي سيستثمرها حتماً دونالد ترامب في المرحلة المقبلة في تحركاته، حيث هو على الرغم من كل التطورات لم يُقر بهزيمته ولم يعترف بفوز منافسه، بل لم يزل حتى الساعة يردد أن الإنتخابات كانت مزورة وأن فوزه القاطع قد سرقها الديمقراطيون بالإحتيال.

والخلاصة،

أن وقائع الساحة الأمريكية والتي كانت ذروتها يوم 6 كانون الثاني الحالي قد حطمت بالكامل الصورة التي حملها الكثيرون عن المجتمع الأمريكي، وكشفت كيف يتصرف هذا الشعب الذي توهمنا تميزه على شعوب منطقتنا نتيجة تقدمة التكنولوجي، وتفوقه في السلوك الحضاري على الأمم الأخرى، بحيث يجب على كافة الشعوب الإقتداء بالشعب الأمريكي واستنساخ نموذج الحكم الأمريكي لتطبيقه في بلادها لتنعم بالسعادة وتعمّ العدالة ويصل كل ذي حق إلى حقه، ويتم تداول السلطة سلمياً وباسلوب حضاري بين المسؤولين على مختلف المستويات، وهذا الامر لم يكن ليحصل أبداً لولا وجود دونالد ترامب المجنون والأرعن على راس السلطة ما أدى سلوكه طوال السنوات الاربعة إلى انفضاح مكنونات النظام الأمريكي وخفايا الواقع في المجتمع الأمريكي التي جهدت وسائل الإعلام لسترها وإبراز صورة كاذبة عنها أمام العالم..

ولقد كتبت مقالاً سابقاً تحت عنوان " شكراً دونالد ترامب " واليوم أقدم مرة أخرى الشكر لدونالد ترامب الذي قدم خدمة كبرى لأجيالنا المخدوعة بالثقافة الغربية والمبهورة بالنموذج الأمريكي على الخصوص، ونحن نشكر الله في كل حين لأنه أزال الغشاوة عن عيون الغافلين وأبطل سحر أدوات الدعاية للمستكبرين وهو القائل في كتابه العزيز: (سنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

الوسوم