بيروت | Clouds 28.7 c

العلم والعمل/ بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 17 كانون الأول 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنَّات النعيم} سورة يونس.

لقد كلَّفنا الله تعالى بفرائض لا بد من القيام بها ونهانا عن منكراتٍ لا بد من اجتنابها ولمَّا كانت الأوامر والمنهيات لا تُدرك إلا بالعلم لم يسع المؤمن ترك تحصيل العلم وقد قال الفقهاء: "يجب على كل مؤمنٍ أن لا يدخل في شىء حتى يعلم ما أحلَّ الله منه وما حرَّم لأن الله تعبَّدنا (أي كلَّفنا) بأشياء فلا بد من مراعاة ما تعبَّدنا الله به".

ومن القواعد الشرعية المعروفة عند العلماء "إن ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجبٌ" وهذا معناه أنه يجب على المؤمن أن يتعلَّم ما يحتاجه من أمور الدين ولو اقتضى ذلك أن يرحل في طلبه فعليه عندئذٍ أن يرحل في طلب العلم، ولا يجوز له أن يدخل في عبادةٍ أو معاملةٍ ما بغير علم وإنما يقع من دخل في شىء من ذلك بغير علمٍ في مُبطلٍ يُفسد ذلك العمل من حيث لا يدري، ولذلك كان من الضروري الاشتغال بطلب علم الدين لتحصيل ما لا بد من معرفته ليتأتى العمل صحيحًا ويكون مقبولًا عند الله تعالى كما دلَّ على ذلك ما رواه البيهقي عن أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم" أي ومسلمة أيضا.

الغاية من العلم

هذا وإنما ينبغي أن تكون الغاية من طلب العلم العمل به لأن الله تعالى كلَّفنا بذلك وبهذا تكون النجاة من عذاب الله الشديد في الآخرة وتُنال الدرجات الرفيعة في الجنة العالية، وهذا ما ينبغي أن يضعه طالب العلم نُصبَ عينيه ولكن واقع أكثر طلبة العلم اليوم على خلاف ذلك. ونرى أكثر من يسعون في طلب العلوم الدينية والدنيوية إنما يرجون بذلك رفاهية الحياة الدنيا ويقصدون بذلك طلب وظيفةٍ في مركز اجتماعي مرموق أو أن ينظر إليهم الناس نظر إجلالٍ وتعظيم. ونحن نقول: ليس غَلطًا أن يُقدَّمَ الرجل لأجل علمه إلى المكان المناسب وينَال بذلك وظيفةً يخدم بها الناس، فمن الإصلاح العمل على أن يكون الرجل المناسب في المكان المناسب. ولكن حين ينصرف البعض عن طلب الغاية الأولى من طلب العلم وهي العمل به لنيل رضا الله تعالى واستبدال تلك الغاية بطلب متاعٍ من الدنيا قليل أو طلب الشهرة والتعظيم فإن أثر ذلك سيكون سيئًا جدًا على البلاد والعباد، لأن من طلب العلم للدنيا فقط فإنه سيكتفي بما ينال من حظوظ الدنيا، ولن يسعى بعد ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس الخير وهذا من أخطر المخاطر على الأمة، ولذلك بتنا نرى الجهل قد استشرى في أنحاء الأرض فصار كثيرٌ من الناس لا يعرفون الحق ولا يميزون بين الكفر والإيمان، ولربما رأيت من يخرج من ملة المؤمنين وهو لا يدري فتراه يقول كلامًا فيه استخفافٌ بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو وعده بالثواب أو وعيده بالعقوبة، ولا يعرف فوق ذلك كيف السبيل للخلاص من الضلال والعود إلى دائرة المؤمنين وأن ذلك لا يتمُّ إلا بالشهادتين أي قول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله أو ما يُعطي معنى ذلك، فيغرق في مستنقعات الردى ويهوي إلى الحضيض ويظن بنفسه الرُّقي إلى المعالي وهؤلاء ينطبق عليهم قول الله تعالى في سورة الكهف: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا}

العلم قبل العمل

ونحن نرى من لا يعرف أحكام الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج فيقوم بصور العبادات ولا يصح منه شىء إذ لا هو سعى لتعلُّم الأحكام ولا دلَّه على معرفتها أحدٌ من المتعلِّمين، وكم رأينا من يعزم على الذهاب إلى الحج ويُعِدُّ لذلك العدة المالية والمادية ويُبالغ في ذلك ويذهب بلا علمٍ معتمدًا على مقولةٍ فاسدةٍ وهي: "يكفيني أن أفعل مثل ما يفعل الناس"، ومما يقع العجب منه في أحوال الناس أنك لا تكاد ترى من يدخل في شأنٍ دنيويٍ إلا بعد العلم، فإن احتاج التداوي سأل أهل الطب وإن أراد الزراعة سأل أهل الخبرة وإن أراد إجراء معاملةٍ ما سأل عن الضوابط القانونية ويتوخَّى الدِّقة في كل ذلك، ثم إذا أراد الدخول في عبادةٍ أو معاملةٍ ما مما شرَعَه الله أو أوجبه يقول لك: "العبرة بالنية" فأي جهلٍ وأي بلاءٍ هذا الذي غرق فيه كثيرٌ من أبناء الأمة اليوم.

 ولا شك أن من أبرز العوامل التي ساهمت في انتشار مثل هذا الجهل الفظيع تخلِّي أغلب المسؤولين عن مسؤولياتهم والتي منها تخلِّي أكثر المشايخ عن إرشاد الناس لأنهم انعطفوا عن الغاية الأساس التي يُطلب لأجلها العلم، وحيث كان الأمر على هذه الدرجة من الخطورة فإننا ننصح بالاشتغال بطلب العلم قبل الدخول في أي عملٍ من الأعمال، ولأهمية ذلك فقد وضع الإمام الكبير أمير المؤمنين في علم الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح في كتابه بابًا سمَّاه "باب العلم قبل القول والعمل".  هذا وإن العلم بحرٌ لا يُدرك طرفاه وبعض العلم أهم من بعضٍ، وحيث إن عُمر الإنسان لا يسع كل شىءٍ فجديرٌ به أن يُقدِّم الأهم ثم المهم، ولمَّا كان علم الدين دليلًا على السعادة الأبدية في الآخرة كان الاعتناء بتحصيله وكانت الإحاطة بما يُحتاج إليه قبل الدخول في أي عملٍ من الأعمال من أولى الأولويات ليصح بذلك العمل ولتُقبل العبادة. فمن ترك العلم لم يضمن صحة صلاته ولا صيامه، بل هو كالتائه في الصحراء بلا دليلٍ يريد الذهاب شرقًا فيقصد الغرب، ولذلك قيل: العلم نور والتعبُّد على الجهل لا يُنقذ صاحبه يوم القيامة.

والحمد لله أولًا وآخرا.   أ 

الوسوم