بيروت | Clouds 28.7 c

الأنبياء إخوة لِعَلَّات / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 10 كانون الأول 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم {أولئك الذين هدى اللهُ فبِهُداهُم اقتده} سورة الأنعام.

أمر الله تعالى في هذه الآية بالاقتداء بالأنبياء الكرام الذين هم صفوة خلقه فقد اجتباهم وأرسلهم فضلًا منه، فكانت بعثتهم رحمةً للناس ونورًا للعباد فيفوز من اقتدى بهم وسار على دربهم وعمل بإرشاداتهم، ويهلك من أعرض عن سبيلهم ولم يؤمن بهم واختار العمى على الهدى، وقوله تعالى "أولئك" إشارة إلى الأنبياء المذكورين في سياق الآيات السابقة، وهم الذين أرسلهم ربهم بالحق واختارهم لتبليغ رسالته للناس وبعثهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده واعتقاد تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق به من العجز والتغير والتطوُّر وسائر صفات المخلوقين. والخطاب وإن كان واردًا للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم لكنه يتضمن أمرَ الأمة بذلك، فنحن نؤمن بجميع الأنبياء ونقتدي بهم في الثبات على الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الإيمان والإقرار بالألوهية لله الواحد، وإن المبدأ الجامع لجميع أهل الإيمان هو عبادة الله وحده مع إيمان كل أمةٍ برسولها.

كل الأنبياء مؤمنون

إن كل الأنبياء مؤمنون ومن كان متبعا لموسى عليه السلام فهو مؤمن موسوي أي من أمة موسى عليه السلام، ومثله يصح أن يقال لمن كان متَّبعًا لعيسى عليه السلام مؤمنٌ عيسويٌ، وكذلك لمن تبع محمدًا صلى الله عليه وسلم مؤمنٌ محمديٌ، فإنه لم يكن بين الأنبياء اختلاف في الدين ولم يأت نبي بعقيدة مخالفة لما جاء به نبي آخر، بل اتفقت كل عقائد الأنبياء قاطبة على الدعوة إلى توحيد الله تعالى وأنه لا يستحق أن يُعْبَد سواه وأنه ليس بمؤمنٍ من اعتقد ألوهية غير الله.

وقديمًا كان البشر جميعهم على دينٍ واحدٍ هو الإيمان بالله وما جاء عن الله وذلك في زمن آدم واستمروا عليه زمن شيثٍ وهو النبي الثاني الذي بعثه الله بعد آدم وكانوا كذلك في زمن إدريس وهو النبي الثالث من حيث البعثة عليهم السلام، ثم حصل الكفر بعد موت إدريس عليه السلام فبعث الله نوحًا عليه السلام، وقد حذَّر جميعُ الرسل أممهم من الكفر وأوضحوا لهم عقائد الإيمان. قال تعالى: {كان الناس أمةً واحدةً فبعث الله النبيين مُبشرين ومُنذرين} سورة البقرة.

قال الطبري في "تفسيره": "قال ابن عبَّاس: كان بين نوحٍ وآدم عشرة قرون (ألف سنة) كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين".   

ولو أردنا ان نستعرض النصوص القرآنية والحديثية الدالة على اتفاق عقائد الأنبياء والمرسلين جميعا وبيان أنهم جاءوا بدينٍ واحد وإنما حصل اختلافٌ في الشرائع أي الأحكام العملية فقط لطال الكلام، قال تعالى: {قولوا ءامنَّا بالله وما أُنزِل إلينا وما أُنزِل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أُوتي موسى وعيسى وما أُوتي النبيُّون من ربهم لا نُفرّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون} سورة البقرة. ومعنى "لا نفرق بين أحدٍ منهم" لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما تبرَّأت اليهود من عيسى ومحمدٍ عليهما السلام، بل نشهد لجميعهم أنهم كانوا رسلَ الله وأنبياءه بُعثوا بالحق والهدى، قاله الطبري في "تفسيره".

وقال تعالى أيضا: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} الآية سورة الشورى. قال القرطبي في "تفسيره": "قوله تعالى "شرع لكم من الدين" أي الذي له مقاليد السموات والأرض شرع لكم ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ثم بيّن ذلك بقوله "أن أقيموا الدين" وهو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما، ولم يُرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها فإنها مختلفة متفاوتة قال تعالى {لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}.

العقيدة أصلٌ راسخ

وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعَلَّات أمهاتهم شتَّى ودينهم واحد" رواه البخاري. تقول العرب: إخوة لعلَّات إذا كانوا من أبٍ واحدٍ وأكثر من أم، وفي الحديث تشبيهٌ رائع لبيان أن دين الأنبياء واحدٌ أما شرائعهم فمختلفة. فالعقيدة أصل راسخ في قلوب جميع  المؤمنين من سائر الأمم، ولا يصح أن يأتي رسول بنسخ عقيدة رسولٍ قبله ولا يستقيم ذلك لأنه يؤدي في الحقيقة إلى نسبة التناقض إلى رب العالمين تعالى الله عن ذلك، فإن من أصول العقيدة الإيقان بوجود الله الذي لا إله غيره بلا كيفٍ ولا مكانٍ وأنه تعالى قديمٌ بلا ابتداءٍ دائمٌ بلا انتهاءٍ لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد، ويستحيل أن يبعث الله نبيًا بهذه العقيدة ثم يبعث نبيًا آخر بضد تلك العقيدة، ولذلك لا يصح أن يقال "هناك أديان سماوية" ومعنى دينٌ سماوي "دينٌ منزلٌ من السماء". إنما الصواب أن نقول: "شرائع سماوية" إذ المراد بالشريعة الأحكام العملية من تحليلٍ وتحريمٍ ووجوبٍ ومشروعيةٍ واستحبابٍ وغير ذلك، ومثال ذلك أن المؤمنين في الأمم السابقة كانوا لا تصح منهم الصلاة إلا في أماكن خاصة كما قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" نقلًا عن الخطَّابي، وأجاز اللهُ لمؤمني أمة سيدنا محمد الصلاةَ حيث تيسَّر. فقد روى البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أُعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد قبلي" وعدَّ منها "وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطَهُورا فأيُما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليُصلِّ".

فالحذر الحذر من اعتقاد أن الأنبياء جاؤا بعقائد مختلفة والحق أن دين الأنبياء واحد ولكن تغايرت الشرائع عبر الزمان باختلاف المصالح في كل زمنٍ والله أعلم بمصالح العباد.

والحمد لله أولًا وآخرا.     

 

الوسوم