بيروت | Clouds 28.7 c

أمريكا و " الردع الحَذِر" بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 7 كانون الأول 2020

 

كانت للولايات المتحدة الأمريكية قوة يهابها الجميع في العالم، وتتصرف في مختلف أرجاء الكرة الأرضية  من دون اي رعاية لسيادة الدول، وكانت تُسقط حكومات وتُركّب أنظمة على مزاجها هنا وهناك، وتُنزل قوات عسكرية على أراضي دول وتخطف رؤساء جمهوريتها وتحاكمهم في أمريكا وتسجنهم هناك سنوات..

وباختصار،

 كانت تقول كما قال فرعون من قبل: ( ما علمتُ لكم من إله غيري ) مرة و: ( أنا ربكم الأعلى ) مرات عديدة..

 وكانت الدول وأغلب شعوب العالم قد سلمت مع الأسف بهذا الواقع طوعاً أو كرهاً، وحتى الدول الكبرى غيرها على الرغم من امتلاكها أساطيل وقنابل نووية كانت تحسب ألف حساب للقوة الأمريكية وتعدّ للألف قبل أن تُقدم على أية مواجهة خجولة مع الولايات المتحدة في أية بقعة على الكرة الأرضية، وكانت حاملات الطائرات والأساطيل الأمريكية تجوب البحار والمحيطات من دون الأخذ بالإعتبار القوانين الدولية، وتوقف السفن التجارية وتصادر محتوياتها، وتفعل ما تشاء من دون أن تراعى أية ضوابط أو تلتزم بأية قيود، وحتى في أيام الحرب العراقية ـ الإيرانية كانت أمريكا تقوم بقصف منصات النفط في مياه الخليج متجاوزة المياه الإقليمية الإيرانية غير آبهة بسيادة الدولة، وقامت مدفعية أسطولها هناك بقصف طائرة مدنية إيرانية تنقل ركاباً مدنيين من جنسيات مختلفة إلى دبي وإسقاطها وقتل جميع ركابها وطاقمها البالغ عددهم 290 مسافراً، ولم تفكر لحظة في عواقب هذا العمل الجبان، بل كرّمت السلطات الأمريكية الجندي الذي وجّه الصاروخ وأعطته وساماً رفيعاً تقديراً لعمله.

كان هذا الواقع سائداً حتى قررت إيران على أعلى مستوى العمل الدؤوب وصنع ما يلزم من وسائل الدفاع عن نفسها في الداخل سواء في المجال العسكري أو النووي أو الفضاء وفي عالم التكنولوجيا المتقدمة، بعد ما كانت تحتاج إستيراد صواريخ من ليبيا أو شراءها من سوريا أو أن تضطر إلى استقبال المبعوث الأمريكي ماكفرلين في العاصمة طهران لتتسلم منه صواريخ " تاو " الأمريكية من أجل مواجهة الدبابات العراقية الحديثة الروسية الصنع في الجبهة الجنوبية.

وكان طريق وصول إيران إلى الإكتفاء الذاتي العسكري مليئاً بالأشواك والألغام نتيجة الحصار الأمريكي والغربي عموماً على إيران، لكن،

جهود المؤسسات وبحوث العلماء وإصرار القيادة وبفعل المساندة الحكومية الكاملة في مختلف العهود فتحت الطريق أمام الجمهورية الإسلامية في إيران للتحول من دولة تعوز الغرب والشرق في أبسط وسائل الدفاع عن سيادتها إلى دولة تخاف الولايات المتحدة والدول الغربية من تصدير إنتاجاتها في مختلف المجالات العسكرية وحتى النووية إلى دول العالم، بعد أن اكتفت ذاتياً وصار بإمكانها ردع الأعداء بل ومهاجمة مئات القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة حولها دفعة واحدة بآلاف الصواريخ البالستية الذكية من دون أن تتمكن وسائل الدفاع الأمريكية من مواجهتها..

 وقد أثبتت إيران جرأتها على اتخاذ القرار بمهاجمة أهم قاعدة عسكرية أمريكية في العراق، وتبين عجز الدفاعات الأمريكية الحديثة والمتطورة جداً من التصدي حتى لواحدة من الصواريخ الإيرانية ما أدى إلى دمار هائل في القاعدة وإصابات بالمئات في صفوف الضباط والجنود الأمريكيين....

 وها هي الولايات المتحدة تتحدث عن إمكانية وصول الصواريخ الإيرانية الصنع إلى فنزويلا على مسافة قريبة من أراضيها، وهي لا تستطيع فعل شيء لوقف الصفقة العسكرية التي يمكن أن يعقدها الرئيس مادورو مع الجمهورية الإسلامية في إيران..

هذا بالإضافة إلى تسلم المقاومة الإسلامية في لبنان عشرات ألوف الصواريخ الإيرانية الحديثة، وإيصال مئات الصواريخ منها إلى فصائل المقاومة الفلسطينية  على الرغم من المحاصرة الكاملة لقطاع غزة برّاً وبحراً وجوّاً.

والجمهورية الإسلامية تعمل على فتح جبهة جديدة في سوريا على حدود " الجولان " المحتل وهي قد نجحت في بناء قواعد عسكرية لها هناك  على الرغم من المحاولات اليائسة للكيان الصهيوني لعرقلة تلك الخطوات عبر غارات طائراتها العسكرية المتكررة وقصف مدافعها لتلك المواقع.

أمام هذا التواجد الإيراني العسكري في مناطق استراتيجية بالمنطقة وفي الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية أي فنزويلا..

وبعدما أثبتت إيران قدرتها أيضاً على التغلب على أحدث نتاجات واشنطن في المجال الإلكتروني من خلال السيطرة على أحدث طائرتها المسيّرة في أفغانستان وإنزالها سالمة على الأراضي الإيرانية، وأيضاً قصف وإسقاط واحدة أخرى أحدث من أختها كانت تجوب السماء قرب الأجواء الإيرانية في الخليج، وفي المقابل تمكنت طائرات التجسس الإيرانية المسيّرة من التحليق فوق حاملة الطائرات الأمريكية في الخليج وتصوير التحركات على ضهرها ونقلها إلى غرفة القيادة من دون أن تكشفها الرادارات الأمريكية المتطورة والأقمار الصناعية المنتشرة بالمئات في الفضاء، وهي قادرة على نقل هذه التقنية وإرسال هذه الطائرات إلى الأطراف في محور المقاومة، وكان دخول إحدى هذه الطائرات إلى أجواء فلسطين المحتلة ورصد التدريبات العسكرية الصهيونية في منطقة الجليل من دون أن تلحظها أجهزة الرصد الصهيونية نموذجاً لذلك، ومن قبل ذلك استطاعت أجهزة الرصد للمقاومة الإسلامية من الوصول إلى كافة المعلومات التي كانت ترسلها الطائرة الصهيونية المسيرة أثناء تجوالها فوق الأراضي اللبنانية  من دون اعتراض من وسائل الدفاع للدولة اللبنانية.

وبعد أن بذل الرئيس الأمريكي المنتهية مدته كل ما أمكنه من فرض أصناف الحصار الخانق وما خطر على بال فريقه من أشد العقوبات الإقتصادية والمالية والنفطية والسياسية على الجمهورية الإسلامية..

 لكن،

 أخيراً أعلنت الولايات المتحدة أنها توصلت إلى " حالة الردع الحَذِر " مع إيران..

وهي عبارة متناقضة حيث " الردع " يكون من قبل القوة القاهرة و " الحذر " يأتي من الطرف الضعيف، فكيف يكون الجمع بينهما في جملة واحدة وفي علم المنطق لايمكن الجمع بين المتناقضين.

إن إدلاء نائب الأميرال صمويل بابارو، الذي يشرف على الأسطول الخامس للبحرية الأميركية المتمركز في البحرين بهذا التصريح لهو دليل قاطع على عجز الطرف الأمريكي في التعبير عن عجزه في مواجهة القوة البحرية الإيرانية للجيش وحرس الثورة الإسلامية والتي تجري مناورات بين الفينة والأخرى وتمنع قطع الأسطول الأمريكي خلالها من التحرك في المناطق التي تحددها إيران في مياه الخليج، والولايات المتحدة لا تجرؤ على معارضة التعليمات الإيرانية بعدما كان قد تم حصار إحدى قطعاتها قبل فترة من قبل الزوارق البحرية لحرس الثورة الإسلامية من دون أن يصدر من الطرف الأمريكي أي رد فعل على ذلك.

وخلاصة الأمر،

 أن عنتريات الرئيس الأمريكي المتعجرف دونالد ترامب قد انتهت، وهو الآن يتخبط في الداخل الأمريكي حيث يصارع حتى النفس الأخير للبقاء في الساحة السياسية بعد خسارته الرئاسة لدورة ثانية، وكل حزمات العقوبات التي فرضها على إيران لم تؤدّ إلى أية نتيجة، وعمليات الإغتيال للقادة العسكريين والعلماء في المجال النووي لم توقف حركة الجمهورية الإسلامية سواء في مدّ نفوذها في المنطقة وعلى امتداد العالم، ولم تعرقل أبداً أو تبطّئ تطوير برنامجها النووي، حيث تم تركيب أجهزة طرد حديثة ومتطورة بعد أيام معدودة من اغتيال الدكتور محسن فخري زاده، وأعطى مجلس الشورى الإسلامي الضوء الأخضر لمؤسسة الطاقة الذرية الإيرانية لترفع التخصيب في منشئاتها إلى مستويات أعلى من نسبة الـ 20٪، وكلفها إنتاج كميات أكبر من اليورانيوم المخصب وتخزينها في المستودعات الإيرانية.

وإذا أراد الرئيس الأمريكي المقبل جو بايدن التعامل مع إيران بعد 20/01/2020 فيجب عليه الأخذ بعين الإعتبار الواقع الإيراني المستجد، وعدم وجود أية وسيلة ضغط أمريكية جديدة على الجمهورية الإسلامية حيث استنفدها كلها سلفه دونالد ترامب..

وعلى الساحة الإيرانية فإن الطريق شبه سالكة أمام رئيس جمهورية من وسط الأصوليين بعد عدة أشهر عند انتهاء مدة الرئيس الشيخ حسن روحاني، وتكتمل حينئذٍ سيطرة الأصوليين على جميع مفاصل الدولة، ولا يمكن للولايات المتحدة عندها العودة إلى الإتفاق النووي إلاّ بالشروط الإيرانية..

 والتي ستحددها هي هذه المرة..

 والتي يجب أن تقبلها الولايات المتحدة مضطرة نتيجة عدم وجود أدوات ضغط أخرى لم يستعملها دونالد ترامب، أو أن يبوء بالفشل الرئيس الجديد كما باء بالخيبة الرئيس المنتهية مدته، وتستمر إيران في تطوير قدراتها وهي متحررة بالكامل من كافة التعهدات والإلتزامات، والولايات المتحدة والدول الغربية تقف عاجزة لا تستطيع فعل شيء، لأن الأحمق ترامب أفقد الولايات المتحدة مصداقيتها بالكامل، ولم يعُد حتى أقرب حلفاء أمريكا يثق بتحالفه معها ويأمن خيانتها ويطمئن إلى التزامها بتعهداتها، ولا يمكن لأحد أن يوجّه اللوم للجمهورية الإسلامية بسبب عدم تعاملها مع الولايات المتحدة بعد نكثها لعهودها وعدم احترام توقيعها.

وفي هذة الفترة أصبحت القوة الأمريكية التي كان يهابها الجميع سابقاً هي التي تحذر مواجهة القوة الإيرانية بصريح العبارة من نائب قائد البحرية الأمريكية، والعودة إلى أرشيف الأخبار تبين كيف أسر الإيرانيون الديبلوماسيين الأمريكيين في العاصمة الإيرانية، وكيف رفع الجنود البريطانيون أيديهم مستسلمين أمام الجنود الإيرانيين في مياه الخليج، وكيف اندحر الصهاينة أمام المجاهدين في لبنان عام 2000،  وكيف انتهت الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006  بالهزيمة المذلّة للجيش الذي لا يُقهر، وذلك بفعل الصواريخ الإيرانية التي أصابت البارجة الحربية الصهيونية " ساعير " قبالة السواحل اللبنانية وصليات الصواريخ التي طالت المدن وهددت المرافق الحيوية في مختلف مناطق الكيان الصهيوني، وكيف طالت صواريخ المقاومة الفلسطينية المقدمة لها أيضاً من إيران مقر رئيس وزراء العدو الصهيوني نتنياهو في القدس وتل أبيب المحتلتين حيث اضطر إلى الإختباء في الملج... أما جيشه فإنه لم يتمكن من التقدم خطوة واحدة في غزة العزة حتى بعد مضي 33 يوما من الحرب الطاحنة واستعمال أكثر القنابل فتكاً وتدميراً، وعلى الرغم من الإشراف الكامل لطائرات التجسس الصهيونية من الجو على كامل قطاع غزة، بل إن المقاومة هي التي استطاعت أسر جنود من الصهاينة، وهي لا تزال تحتفظ بأحدهم ويفاوض نتنياهو حركة " حماس " لإطلاقه منذ ذلك الوقت والمقاومة تفرض شروطها عليه.

وفي المحصلة،

 فإن الهيبة الأمريكية قد سقطت بالكامل..

 والتهديدات الأمريكية لم تعُد تخيف أحداً حتى مادورو في فنزويلا الحديقة الخلفية للولايات المتحدة،...

ودولة " إسرائيل " على الرغم من كل جولاته في المنطقة مهدد من داخل كيانه، وإيران ومن يتحالف معها يتقدمون بخطىً ثابتة على الرغم من وجود ألغام كثيرة في الطريق، ولم يعُد بمقدور احد في الغرب والشرق احتكار سوق السلاح بعد رفع الحظر الدولي عن تصدير إيران لسلاحها بصورة نهائية..

وهنا،

 تتحقق نبوءة القرآن الكريم والذي هدد الله فيها المسلمين الأولين في حال توانيهم عن نصرة دين الله والتزامهم بتعاليم الإسلام بالقول: ( يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلّة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

 

الوسوم