بيروت | Clouds 28.7 c

العقل والنقل / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 3 كانون الاول 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يُبصرون بها ولهم ءاذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلُّ أولئك هم الغافلون} سورة الأعراف.

أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه ذرأ أي خلق خلقًا وعلم بعلمه الأزلي أن آخر أمرهم سيؤول إلى العذاب في جهنم وذلك بضلالهم واستحبابهم العمى على الهدى، وقد تضمَّنت الآية ذمَّهم حيث لم يختاروا الحق مع ما جعل الله لهم من الأدوات التي تُوصل إلى العلم الصحيح. قال الطبري في "تفسيره": "فإن معناه: لهؤلاء الذين ذرأ الله لجهنم من خلقه قلوبٌ لا يتفكَّرون بها في آيات الله ولا يتدبَّرون بها أدلتَه على وحدانيته ولا يعتبرون بها حجَجَه لرسُله فيعلموا توحيدَ ربهم ويعرفوا نبوةَ أنبيائهم، فوصفَهم ربنا جلَّ ثناؤه بأنهم لا يفقهون بها لإعراضِهم عن الحق وتركهِم تدبُّرَ صحَّةِ الرَّشد، وبطُول الكفر، وكذلك قوله "ولهم أعينٌ لا يُبصرون بها" معناه: ولهم أعينٌ لا ينظُرون بها إلى آياتِ الله وأدلَّتِه فيتأمَّلوها ويتفكروا فيها فيعلموا صحةَ ما تدعُوهم إليه رسُلُهم وفسادَ ما هم مُقيمون عليه من الشرك بالله وتكذيبِ رسلِه فوصفهم الله بترك إعمالها في الحق بأنهم لا يُبصرون، وكذلك قوله "ولهم ءاذانٌ لا يسمعون بها" أي آيات كتاب الله فيعتبروها ويتفكَّروا فيها ولكنهم يُعرضون عنها". ثم قال الطبري: "وذلك نظيرُ وصفِ الله إيَّاهم في موضعٍ آخر بقوله "صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون" والعرب تقول ذلك لتاركِ استعمالِ بعضِ جوارحه فيما يصلحُ له". ثم قال: "ثم جعلهم شرًا من الأنعام فقال "بل هم أضل" ثم أخبر أنهم "هم الغافلون"".

العقلُ شاهدٌ للشرع

يعترض علينا أدعياءُ السلفية من الوهابية إذا ما تكلَّمنا بالاستدلال العقلي على معرفة الله تعالى وتنزيهه عن مشابهة الحوادث ويقولون من جهلهم: "أنتم تتكلَّمون بالفلسفة" بينما نسَوا أن شيخهم ابن تيمية وافق الفلاسفة وقال والعياذ بالله بوجود حوادث لا أول لها وأنه لا مانع شرعًا وعقلًا من القول بحوادث لم تزل مع الله كما صرَّح بذلك في سبعة من كتبه وهي المسمَّاة: منهاج السنة النبوية وتفسير سورة الأعلى ومجموع الفتاوى ونقد مراتب الإجماع وشرح حديث النزول وشرح حديث عمران بن الحصين وموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، وهذا من أشنع مقالات ابن تيمية وهو كلام لا يُقرُّه الشرع ولا العقل لأنه يؤدي إلى القول بزعمهم أن لله شركاء في الأزلية تعالى الله عن ذلك.

ونرى الوهابية تتَّهمنا أننا نُقدِّم العقلَ على الشرع وأننا نأخذ الأحكام من العقل لا من الشريعة وليس الواقع هكذا، وحقيقة الأمر أنهم يروِّجون مثل هذا الكلام لأن الدليل العقلي يهدم عقيدة التجسيم التي يحملونها في صدورهم ويدعون إليها فنحن نقول: الجسم محدودٌ والمحدود محتاج لمن جعله على هذا الحدِّ والمحتاج عاجزٌ ولا يكون العاجز إلهًا، والجسم لا يخلو من الحركة أو السكون وما من ساكنٍ إلا ويصح في العقل أن يتحرك وما من متحركٍ إلا ويصح في العقل أن يسكن وهذا تغيُّرٌ والمتغير محتاجٌ لمن غيَّره والمحتاج عاجزٌ فلا يكون إلهًا، بل التغيُّر أقوى أدلة الحدوث وقد احتجَّ سيدنا إبراهيم عليه السلام بعدم استحقاق الألوهية للشمس ولا للقمر ولا للكوكب بكون الثلاثة تغيَّرت من حالٍ إلى حال كما جاء إخبارًا عنه في سورة الأنعام، فلا تصح الألوهية للمتغيِّر، وقد أثنى ربُّنا تعالى على احتجاج إبراهيم عليه السلام بقوله: {وتلك حُجَّتُنا ءاتيناها إبراهيم على قومه} سورة الأنعام. وهذا استدلالٌ عقلي يشهد لأهمية استعمال العقل للوصول إلى النتائج الصحيحة فإن العقل السليم يشهد بصحة ما جاء في الشرع لأن الشرع لم يأت إلا بما تقبله العقول السليمة، ولا يصح أن يقال غير ذلك لأنه يؤدي إلى القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى ما لا يُعقل، وهذا من أعظم القدح في النبوات. فلا تعَارض في حقيقة الأمر بين النقل الوارد في الكتاب والسنة وبين ما يشهد العقلُ السليم بصحته، ولكن حين أخطأ أدعياء السلفية في فهم العقيدة الحقة تعارضَ ما اعتقدوه مع العقل السليم فشنَّعوا على أهل السنة لأنهم يستعملون الدليل العقلي واتَّهموهم بأنهم يُقدِّمون العقل على النقل ولو أنصفوا لعلموا أن ما يقتضيه العقلُ السليم لا يتعارض مع ما جاء في الشرع الشريف وإلا لما حثَّ الشرع على التَّفكر بالعقل للاستدلال بآيات الله، والنصوص في ذلك كثيرة.

مناظرة عقلانية

 وقد ناظرتُ يومًا وهَّابيًا من هؤلاء وبيَّنت له استحالة وصف الله تعالى بالجسمية وما يؤدي إليه القول بالتجسيم على نحو ما ذكرته آنفًا فقال لي: "كلامك بالعقل صحيحٌ ولكن توجد آياتٌ وأحاديث"، فقلت له: وهل هذه الآيات والأحاديث توافق العقل أو تُخالفه؟ فسكت هنيهةً ثم قال لي: "اترك العقل لا تُناقشني بالعقل". والظاهر أنه إنما قال ذلك لأنه عرف أنه إن أقرَّ أنها توافق العقل فقد نقضَ مذهبَه وأبطل القول بالتجسيم، وإن قال: "لا توافق العقل" فقد زعم أن الله قد كلَّف الناسَ بما لا يُعقل وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى ما لا يُقرُّه العقل، فقلت له: وهل أناقش مجنونًا؟ فغضب وشتم وانفضَّ المجلس.

فاعجب لهؤلاء القوم كيف أهملوا عقولهم فقادهم إبليسُ إلى حيث يريد، ولهم نقول: كيف عرَف الصَّحابةُ الأوائل صدقَ سيدِنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ أوليس قد بَعث اللهُ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم في زمن قد انتشر فيه الكفر في الأرض ودعا قومًا كانوا يعبدون الحجارة؟ أليس قد رأى هؤلاء حقِّيةَ الوحي بعين العقل فآمنوا وإلا لقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم كيف تدعونا إلى الإيمان بما لا يُعقل، حيث كانوا أول الأمر مولعين بتكذيبه، ولماذا لم يجعل اللهُ سبحانه الإنسانَ المجنونَ مكلَّفًا أيها الوهابية إن لم يكن للعقل اعتبار في المعرفة؟ ولكننا نقول: كل من خالف عقيدة الحق فلا بد أن يقع في التناقض من حيث يدري أو لا يدري.

والحمد لله أولًا وآخرا.   

الوسوم