بيروت | Clouds 28.7 c

العيد محطةٌ لتهذيب النفس/ بقلم الشيخ أسامة السيد

العيد محطةٌ لتهذيب النفس/ بقلم الشيخ أسامة السيد

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرَحوا هو خيرٌ مما يجمعون)) سورة يونس.

وعن أنس بن مالك قال: ((َدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما بالجاهلية فقال: قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية وقد أبدلكم الله خيرًا منهما يوم النحر ويوم الفطر)) رواه البيهقي.

لا شك أن العيد هو موسم فرحٍ وسرورٍ وبهجة للمؤمنين ولا شك أيضًا أن فرح المؤمنين وسرورهم الحقيقي في الدنيا إنما يكون إذا فازوا بإكمال طاعة الله تعالى لينالوا بذلك الثواب على أعمالهم تملأ قلوبهم الثقة بوعد الله تعالى للمحسنين بتوفيتهم أجورهم في الدار الآخرة على أعمالهم الصالحة كما قال تعالى في سورة الحاقة: ((كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية)).

وإن من عظيم فضل الله ورحمته بهذه الأمة أن أبدلهم بيومي اللهو واللعب اللذين كانا في الجاهلية المظلمة بيومي الذكر والشكر وجعلهما من شعائر الدين، فيستبشر فيهما المؤمنون ويُظهرون المسرَّة فيما بينهم فرحين بما منَّ الله تعالى به عليهم من خيراتٍ وبركات راجين ربهم عزَّ وجل أن يوفقهم لما يحبه ويرضاه، ويحرّك العيدُ المجيد في النفوس الصادقة الهمةَ والعزم على الاستمرار في عمل الخير والمعروف والطاعة كل الطاعة لمن بيده ملكوت السموات والأرض تبارك وتعالى، إذ يأتي العيدان بعد أداء عبادتين عظيمتين يجدُ لهما المؤمن حلاوةً في القلب وصفاءً في الروح، حيث يعقُب شهرَ الصوم والخير والبر والصبر رمضان المبارك عيدُ الفطر السعيد، ويأتي عيدُ الأضحى في يوم الحج الأكبر يوم النحر الذي تكون فيه معظم أعمال الحج بعدما قام الحجاج بالركن الأعظم في الحج ألا وهو الوقوف بعرفة لما جاء عن عبد الرحمن بن يعمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الحج عرفة)) رواه الترمذي وغيره، ويوم الوقوف بعرفة أي التاسع من ذي الحجة هو أفضل أيام العام على الإطلاق. ويتكرر العيد كل عامٍ ولأجل اعتياد الناس عود العيد أو لأنه يعود كل عامٍ سُمي عيدًا كما قاله الخليل بن أحمد في كتابه ((العين)) وفي ((المصباح المنير)) للفيومي: ((والعيد الموسم وجمعه أعياد)).

 

من فوائد العيد

 

ويأتي العيد مُفعمًا بمعاني المودة والتعاطف بين المؤمنين ليُطبقوا بصورة جليةٍ قول الله تعالى: ((إنما المؤمنون إخوة)) الآية سورة الحجرات. ولا شك أن روابط الأخوة في الدين أقوى من روابط النسب وما تجمعه رابطةُ الإيمان أثبتُ مما تجمعه القرابة والمصاهرة.

وكم تبرز في العيد مظاهر التآلف والتعاضد والتآخي والحب في الله بين إخوةٍ آباؤهم وأمهاتهم شتى، ويتجلى مظهر الوحدة بين المؤمنين وهو مظهرٌ عظيم ندعو إلى العمل على ترسيخه أكثر فأكثر لتتحد القلوب في وجه المؤامرات والمكائد التي تُحاك ضد أمتنا للنيل من دينها وصمودها وكرامتها.

وبالكلام عن مظاهر التعاون والبرِّ في العيد نستذكر كم من صدقاتٍ وأعطياتٍ تسبق عيد الفطر السعيد فتقع في كفِّ المحتاج فينفرج كربه ويزول همه وغمه ويرتاح باله الذي طالما شغلته متاعب الدنيا وأثقلت كاهله أعباء المعيشة. وكم من زكواتٍ تصل إلى المستحقين فتغنيهم في هذا اليوم فيشكر الفقير ربه على ما ساق إليه من الرزق ويحمد الغنيُّ اللهَ على فضله وما يسره له من أداء ما أوجبه عليه من فريضة الزكاة.

وكم نشهد في عيد الأضحى المبارك أيضًا ما يشبه ذلك حيث نرى فيه التعاون والتكاتف وتوزيع الأضاحي ما بين صدقاتٍ وهدايا في مظهرٍ عظيم يدل على سماحة هذا الدين القويم وعظمة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إليه وكأن لسان الحال ينشد:

 

العيد عنوان المسرة                      فهو يأتي بالمنح

يجلو القلوب بودّه                      والنفس يغمرها الفرح


وترى في العيد إقبال المؤمنين بعضهم على بعض فتتسامى فيه القلوب إذ يصفح بعضهم عن بعض ويتجاوز هذا عمن أساء إليه، ويسعى ذاك لمصالحة من جفاه، ويتلاقون بالبِشْر والابتسامة والود. فكم من قطيعةٍ طال أمدها وصلها العيد، وكم من متدابرين متباغضين تلاقوا في ظلال العيد، وكم من عاقٍّ لوالديه أو مسيءٍ لأهله وإخوانه صقل قلبَه نورُ العيد فتاب لربه وخرج مما هو فيه من الإثم إلى الطاعة، مع ما تراه في أيام العيد المبارك من صلةٍ للأرحام بين الإخوة وأبناء العمومة والخؤولة وزياراتٍ للأصدقاء والأصحاب تشحن الأفئدة بالأنس والارتياح وتسلُّ الضغينة من الصدور فتتلاشى بذلك الخصومات وتنهار الشحناء التي طالما عششت في قلوب كثيرٍ من الناس، فهذا يُقبِّلُ يدَ أبيه وذاك يلثُمُ قدمَ أمه ويطلب من والديه الرضا وآخر يعانق أخاه وفلانٌ يُصافي خليله بعدما شابت علاقتهما أوحال الفتنة، ولا شك أن كل ذلك من القيم والمثُل العليا التي نحتاج أن تتجدد في مجتمعنا مرةً بعد مرةٍ ليرتفع بها الصدأ الذي لطالما أحاط بعلاقات كثيرٍ من الناس فما أحوجنا أن نعمل على إصلاح ذواتنا فإن صلاح المجتمع يبدأ بصلاح الفرد.

 

من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم

 

وقد أرشدنا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى كل خير ورغّبنا بكل مكرمة وفضيلة ودعانا إلى إصلاح النفوس وتقويمها، وما أحوجنا أن نقتفي دربه عليه الصلاة والسلام طالما نحن في الحياة الدنيا فإن الله تعالى يقول في سورة الأحزاب: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)) الآية.

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) رواه البيهقي.

فليس معنى العيد أن نتجمل بلبس الثياب الجديدة فحسب، ولا أن نهتم لشراء آخر ما توصلت إليه صناعة الأزياء الشرقية والغربية، أو أن يكون أكبر مرادنا في هذا اليوم شد الرحال للرحلات الترفيهية بقصد الاستجمام والنـزهة وغير ذلك من مغريات الحياة غير متنبهين لتلك المبادئ القيمة التي ينبغي أن نفهمها من العيد، فإن الفرحة العظمى أن تزيد طاعاتك وتكثر حسناتك وتتوب إلى ربك ليغفر لك سيئاتك، وإلا فما معنى أن يتجمَّل المرء باللباس ويُبالغ في التنعم بالتفنن في المأكل والمشرب وقد هجر أخاه المؤمن ولم يرتدع بحديث أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يحل لرجلٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) رواه البخاري.

وفي الحديث دلالةٌ صريحةٌ على أن هجر المؤمن لأخيه المؤمن فوق ثلاث ليالٍ حرامٌ إن كان هذا الهجر لأمرٍ دنيويٍ كأن يختصما لأجل عَرَضٍ من أعراض الدنيا فيقطع أحدهما الآخر ولربما استمرت هذه القطيعة عدة شهورٍ أو سنوات أو لربما إلى الموت، وترى بعضهم إذا ما حضره الموت يوصي أولاده بهجر فلانٍ وعدم التعاطي مع ذرية فلان وكأنه لم يكتف بذلك في دنياه بل يحرص على زجِّ ذريته في معصية الله أيضًا، وهذا من أكبر المخاطر التي نعيشها في هذا المجتمع العجيب والتي ينبغي أن نكافحها بالعلم والإرشاد.

ولو كان الهجر الحاصل بين كثيرٍ من الناس لله تعالى كأن يهجر صاحبه لمصلحةٍ شرعية لينزجر عن فسقه وغيِّه بعدما يُعلمه بذلك ليتأثر فيتوب إلى الله ويترك ما هو عليه من البغي لكان خيرًا، لأن ذلك يتضمن ردع الباغي وزجر الآثم المعتدي وصون المجتمع من الشر، ولكن قلَّ من الناس اليوم من يهجُر لله أو يُعادي لله أو يحب في الله أو ينصح لله وإنما شأن غالبهم أن يداهن بعضهم بعضًا لحظٍ من حظوظ الدنيا.

وما معنى أن نرى عددًا كبيرًا من كافة طبقات المجتمع ينتظر أحدهم أيام العيد ليخرج فيغرق في الملاهي وغُرف الليل وغاية مناه أن يلتقي بالغانية الفلانية أو المتهتك والماجن الفلاني وقد مضى رمضان ولم يصم فيه يومًا ولم يتقرَّب لله فيه بركعةٍ، أو مضت العشر الأُول من ذي الحجة وأشرقت شمس الأضحى وهو منهمكٌ في إثمه ثم يتمادى في ذلك يوم العيد أكثر فأكثر.

 فأي معنى من معاني العيد قد عَرَف هؤلاء؟! وبأي شىءٍ يُذهبون أعمارهم؟! فإن العيد في حقيقة الأمر شعيرةٌ من شعائر الإيمان وفيه معنى التعظيم لله تعالى والشكر له على ما أنعم به ووفَّق إليه حيث يُبكِّر المؤمن إلى المسجد مكبرًا بخشوعٍ للواحد القهار:

الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلا.

لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.

ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأزواجه وأصحابه ويستغفر لوالديه المؤمنين ثم يصلي ركعتي العيد وينصت بعدها لموعظة الخطيب فيخرج ليُطبق على نفسه أولاً العمل بهذا الإرشاد العظيم مترفعًا عن الترهات وحظوظ النفس الأمَّارة بالسوء.

وما أحيلا أن نكون على قلب رجل واحدٍ يحب أحدنا للآخر ما يحب لنفسه من الخير فعن أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه)) رواه البخاري. والمعنى أنه لا يكتمل إيمانه حتى يكون على هذه الصفة.

العيد يدعو المسلمين ليلتقوا                             بالخير بالإيمان بالترحام

العيد يدعو أن نزور مُقاطعًا                             وعلى الخُصوص زيارة الأرحام

والحمد لله أولاً وآخراً.        

 

 

الوسوم